النضال الطويل للسود الأميركيين - نص مفصل - 2015

Imprimir
ترجمة

النضال الطويل للسود الأميركيين

حلقة ليون تروتسكي - باريس في 19/06/2015

عناوين الفقرات

جذور اضطهاد السود

من العبودية إلى الفصل العنصري

المقاومة الأولى : الجمعية الوطنية لترقية الملونين وماركوس غارفي

الحركة العمالية وقضية السود

الاشتراكيون والشيوعيون

الحرب العالمية الثانية

انتفاضة أعوام 1950 - 1960

1955 : حركة الحقوق المدنية

من الحقوق المدنية إلى الانتفاضة

أمة الإسلام ومالكوم إكس

انتفاضة الغيتوات و السلطة السوداء (البلاك بور)

الفهود السود (البلاك بانتر)

الانتفاضة السوداء، فرصة ضائعة ؟

من تراجع السنوات 1970 إلى اليوم

بين الأزمة الاقتصادية والأزمة الاجتماعية

السجن كأفق

و الآن ؟

ملحق : ثورة الأميركيين السود، أمل للبشرية جمعاء

في 17 يونيو/ حزيران 2015، قتل تسعة أشخاص في كنيسة للسود في مدينة تشارلستون في كارولينا الجنوبية. القاتل شاب عنصري أبيض، 21 عاما، من مؤيدي الهيمنة البيضاء، أولئك الذين يحنون لنظام التفرقة العنصرية والفصل العنصري. وتأتي هذه المذبحة بعد سلسلة من جرائم قتل من قبل الشرطة تذكر بأن اضطهاد السود لم ينته في الولايات المتحدة. حيث قتل مايكل براون، 18 عاما، في فيرجسون من قبل شرطي لم ير القضاء ضرورة تقديمه للمحاكمة. اريك غارنر، 44 عاما، قتل خنقا في نيويورك من قبل شرطي لم يقدم إلى المحاكمة. جون كروفورد، 22 عاما، قتل على يد شرطي في سوبر ماركت في اوهايو، بينما كان يلعب بلعبة، ولم تر السلطات ضرورة لمحاكمته. تامير رايس، 12 عاما، قتل على يد شرطي في كيفلاند بينما كان يلهو بسلاح لعبة. والتر سكوت، 50 عاما، قتل بثماني رصاصات في الظهر، من قبل شرطي في ولاية كارولينا الجنوبية. فريدي غراي،، 25 عاما، عامله بقسوة حتى الموت ستة شرطيون في بالتيمور بعد أن كسروا عموده الفقري. والقائمة طويلة، ففي قلب القوة العالمية الأولى، وفي بلدي يفتخر بأنه موطن الحرية، تقتل الشرطة، أو ممثلين عنها كل عام المئات من الناس - ولا أحد يعرف عددهم بالضبط، فقد أحصت صحيفة بريطانية 500 حالة منذ يناير/ كانون الثاني 2015 ـ وهناك نسبة عالية منهم من السود، وكل ذلك دون مسائلة من العدالة معظم الاحيان.

وإنه لفي ظروف مماثلة، عام 1964، تفجر الوضع في غيتو هارلم، بعد مقتل شاب أسود على يد شرطي. وتبع ذلك سلسلة من الاضطرابات رافقت اندلاع انتفاضة السود. وقد جاءت هذه الهبة بعد عشر سنوات من النضال المستمر في سبيل الحقوق المدنية، وتلتها سنوات من الاضطرابات والحراكات المختلفة. في هذه الفترة ألغيت كافة قوانين الفصل العنصري وتمت الموافقة على الحقوق المدنية كما بدأت إعادة النظر بالتمييز العنصري. ففي السنوات 1970، وبعد عقدين من النضال تمكن الأفارقة الأمريكيون من الالتحاق بالشرطة في المدن الكبرى، وأصبح بعضهم بمرتبة عمدة وشريف وحتى نوابا في الكونغرس أو ضباطا في الجيش. وفي عام 2008 نتخب أسود للرئاسة (بارك أوباما). أليس ذلك - كما يشير بعض المهتمين - أفضل برهان على أن الولايات المتحدة قد تخلصت من اضطهاد السود ؟ ما نراه اليوم هو أن التمييز لا يزال ساريا في أمريكا، وكذلك التفرقة العنصرية وحتى العنصرية نفسها.

عن هذا التاريخ وعن هذه المسألة سوف نتحدث الليلة. أولا بالعودة إلى الجذور التاريخية لاضطهاد السود، ثم عن النضال الذي خاضوه في السنوات من 1950 - 1960 والتقدم الذي آل اليه نضالهم، وأخيرا عن كيف تدهور وضعهم من جديد خلال الأربعين سنة الماضية.

جذور اضطهاد السود

من العبودية إلى الفصل العنصري

كتب ماركس "إن العبودية المباشرة هي محور الصناعة البرجوازية كما الآلات والقروض، الخ. فمن دون العبودية لا يوجد قطن، وبدون القطن لا توجد هناك صناعة حديثة". فكان لترحيل الأفارقة إلى الأمريكيتين هدفا اقتصاديا ألا وهو تكوين قوة عمل. ذلك لأن القوة العاملة المكونة من البيض والمستخدمة على نطاق واسع في بداية الاستيطان كانت أكثر تكلفة وأقل وفرة. في منطقة البحر الكاريبي، أعادت الرأسمالية ـ لحد ما ـ اكتشاف العبودية، وذلك بدءا من القرن السادس عشر، في مزارع قصب السكر حالتي أصبحت البقرة الحلوب للبرجوازية الأوروبية.

وفي أمريكا الشمالية تم احلال الاستغلال ذاته مع التبغ والقطن. وكان هدفه إثراء البرجوازية البريطانية بشكل خاص. فإن ما بدأ في الإطار الاستيطاني في القرن السابع عشر استمر ابتداء من السنوات 1780 في الولايات المتحدة، المستقلة سياسيا، ولكن حيث كانت المصالح البريطانية لاتزال حاضرة في الجنوب. إنه هذا التراكم البدائي لرأس المال، الذي تحقق بفضل تجارة الرقيق والسكر والقطن عبر الأطلسي، ما مكن البرجوازية من تحقيق ثرائها الخارق.

كانت عبودية الجنوب إذا نظاما اقتصاديا ضمن اللاستغلال الرأسمالي، وذلك لأن الملاك الزراعيين كانوا ينتجون لصالح السوق العالمية التي كانت في طور النشوء. " ففي نفس الوقت الذي كرست فيه صناعة القطن استعباد الأطفال في بريطانيا"، يشير ماركس في "رأس المال"، "فإنها كانت تحول معاملة السود البطريركية ـ لحد ما ـ إلى نظام استغلال تجاري في الولايات المتحدة... إن رأس المال [قد جاء إلى العالم] وهو يتعرق الدم والطين من كل المسامات".

كان السود الأمريكيون إذا أساس التنمية الاقتصادية للولايات المتحدة، وكان معظمهم يعيش في الجنوب وقد شكلوا الأغلبية في بعض الولايات. وشكلت بضعة ألاف من العائلات البيضاء برجوازية الملاك الزراعيين. وبالتالي فإن غالبية البيض من غير البرجوازيين لم يكن لديها مصلحة مباشرة في استغلال السود. لكن الملاك الزراعيين كانوا يحرضون فقراء البيض ضد السود، بهدف تمكين هيمنتهم عليهم. وقد أشار إلى ذلك داعية إلغاء العبودية، فريدريك دوغلاس، في قوله : "في كثير من الأحيان، كان دعاة العبودية يروجون لفكرة أن تحرير العبيد ينحو لوضع العامل الأبيض بمساواة الزنجي، محفزين بذلك الاحساس بالاعتزاز لدى الرجل الأبيض. فمكنهم هذا الأسلوب من جعل البيض الفقراء ينسون أنهم، بنظر مالك العبيد، على بعد خطوة حتى يصبحوا نظراء للعبيد". وحتى في الشمال كان العمال البيض يعارضون إلغاء العبودية وذلك لأنهم كانوا يخشون من أن يؤدي دخول السود المحررين سوق العمل إلى خفض أجورهم.

منذ حرب الاستقلال عام 1776، كانت البرجوازية متكيفة تماما مع العبودية السائدة في الجنوب وذلك لأنها كانت مكملة نوعا ما للاقتصاد ألرأسمالي القائم على العمل المأجور في الشمال. حتى أنهم تمكنوا من إبتكار حل وسط مشين لكيفية تمثيل مالكي العبيد في الجنوب داخل المؤسسات الفيديرالية : فقد أخذ في الاعتبار عدد العبيد في كل ولاية، وبقدر ثلاثة أخماسهم فقط.

ولكن الصراعات بين الشمال والجنوب قد تصاعدت في منتصف القرن التاسع عشر. فمن جهة كانت فكرة إلغاء العبودية تتزايد في الحلقات الليبرالية في الشمال. ومع أن السلطة السياسية لولايات الجنوب كانت راسخة على المسوى الفيديرالي إلا أن الملاك الزراعيين كانوا بحاجة لمساحات جديدة صالحة للزراعة، فكانوا يشعرون بالقلق إزاء وضع الاراضي الجديدة المستوطنة في الغرب : هل سوف تكون أراض "حرة" أم استعبادية ؟ كما كان الصراع اقتصاديا أيضا : كان القطن ينتج في الجنوب لكن النصيب الأكبر من الأرباح كان يعود إلى الرأسماليين في الشمال، من خلال أنشطة النقل والتخزين والصناعة. كما كانت برجوازية الشمال في تنافس مع البرجوازية البريطانية التي كان الملاك الزراعيين في الجنوب مرتبطين بها. إن هذا الصراع ما كان خلف اندلاع الحرب الأهلية، أكثر من مشيئة تحرير العبيد : وبعبارة أخرى، كان ذلك أيضا استمرارا للحرب بين الولايات المتحدة من جهة، ممثلة ببرجوازية الشمال، وبين بريطانيا العظمى المرتبطة بالملاك الزارعيين في الجنوب.

وفتكت هذه الحرب بالبلاد من عام 1861 إلى عام 1865، مخلفة، ففي بلد تعداده 30 مليون نسمة، 600.000 قتيل. وابراهام لينكولن، عندما انتخب في عام 1860، لم يعد بإلغاء العبودية، ولكنه كان معارضا لتوسع العبودية إلى غرب الولايات المتحدة، وبالتالي فإن انتخابه كان يهدد التوازن الفيديرالي. لهذا السبب انفصلت 11 ولاية جنوبية عن الاتحاد الفيديرالي. فجاءت الحرب بهدف الحفاظ على الاتحاد وليس لإلغاء العبودية. وللتمكن من الفوز بالحرب التي كانت نتيجتها متأرجحة، ذهب لينكولن إلى حد بإلغاء العبودية في الولايات الانفصالية في العام 1863، مقوضا بذلك اقتصاد الجنوب مع انضمام 200.000 من العبيد إلى جيش الاتحاد ورحيل 300.000 آخرين إلى الشمال. وبذلك أصبح إلغاء العبودية سلاحا بيد الشمال، وهكذا فان الحرب التي بدأت ضد الانفصال قد تحولت إلى معركة في سبيل تحرير العبيد. ولينكولن لم يتراجع أمام هكذا قرار.

عندما انتهت الحرب في عام 1865، كانت العبودية قد ألغيت لـ4 مليون أسود. لكن حربا جديدة قد بدأت وذلك لمعرفة ما ستؤول إليه ظروفهم. فهم أحرار من الناحية النظرية، وقد غادر العديد منهم حقول القطن وسعوا للاستفادة من الحقوق الجديدة : حق التصويت وحق شغل مختلف الوظائف التمثيلية المنتخبة (قضاة، شرفاء/عمدة، ممثلين في مجالس الولايات وحتى في الكونغرس الفيديرالي) والتمتع بعدالة منصفة وبالتعليم العام المجاني. وقد استفادوا من ذلك في البدء، خلال فترة "إعادة الإعمار الجذري"، وهذه الفترة قد ذكرت في رواية هوارد فاست "طريق الحرية" ـ 1944. وكان السود مسيسين إلى حد كبير خلال هذه الظروف، وغالبا ما تنظموا جنبا إلى جنب مع فقراء الجنوب البيض، كما في نقابات المزارعين المستأجرين والعمال الزراعيين. وكان هذا دليل عن عدم وجود أي طابع وراثي للاختلاف بين السود والبيض، إذ إن هذا التعارض كان من إرادة وصنيعة المالكين.

ولم يتأخر رد فعل الملاك الزارعين والسياسيين العنصريين البيض. وخصوصا في منتصف 1870، بعد أن استقر موطئ قدم رأس المال الكبير في الجنوب عن طريق شراء مساحات كبيرة من الأراضي، ومع إتمام الحكومة الفيديرالية لاتفاق مع ولايات الجنوب. إذ ان الساسة البرجوازيين الشماليين لم يكونوا ينظرون بارتياح إلى تحالف الفقراء البيض والسود. فسحبوا الجيش من الجنوب وتركوا السود دون أي دعم. فنظم الكو كلوكس كلان (Ku Klux Klan)، الذي تشكل عام 1866، حملات إرهاب ضدهم وضد الفقراء البيض الذين كانوا يرفضون الابتعاد عن إخوانهم الطبقيين.

وبدأ تطبيق نظام الفصل العنصري : فأصبح هناك "قواعد سوداء" تكرس دونية السود قانونيا. إن استمرار اضطهادهم بعد العبودية يعود قبل كل شيء إلى كونه أساس اقتصاد الجنوب الذي ارتكز دائما على القطن. فكان الملاك الزراعيون يستغلون العمالة السوداء كما كانت هذه الحالة توفر للبيض وظائف كمشرفين في قوات الأمن وامتيازات صغيرة اخرى. لكن هذا الأمرلم يغير شيئا مهما لغالبية الفلاحين الصغارمن البيض، غير أن هناك دائما من هم أفقر منهم. وكانت الوظائف المخصصة للبيض وسيلة لأرباب العمل للاحتفاظ بولائهم، مع الحفاظ على أدنى الأجور. ففي حال مطالبتهم بزيادة الأجور، كانوا يهددونهم باستبدالهم بعمالة سوداء.

أما بخصوص البرجوازية الشمالية التي باتت مهيمنة، فإنها تآلفت جيدا مع هذا التفاوت. حيث وافق الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين، كما السلطات الفيديرالية وغيرها من مؤسسات السلطة، على الفصل العنصري ودافعوا عنه لعقود. وقامت البرجوازية البيضاء بفعل كل شيء لإحلال هذا الشكل الجديد لهيمنتها معتمدة على الأطر الاجتماعية الموروثة من العبودية. إن جذور اضطهاد السود هي سياسة الطبقات الغنية : الملاك الزراعيين في الجنوب ولكن ايضا البرجوازية بشكل عام.

كرس الفصل العنصري من خلال سلسلة قوانين صدرت في الجنوب والمسماة بـ "جيم كرو" (Jim Crow). فعلى المستوى الفيديرالي، لم يكن هناك تميز قانوني على أساس اللون أو العرق. ولكن في الواقع كان هناك سلسلة من التدابير التمييزية بحق السود. وكان الشكل الأعنف لهذه العنصرية المؤسساتية، ودون أدنى شك، هو الإعدام الغوغائي، أي الإعدام الفوري ودون محاكمة.

فبين عامي 1877 و1950، طال الأعدام الغوغائي 4000 أسود، أي بحدود واحد كل أسبوع. كان ذلك شكل من أشكال الإرهاب : كان على السود البقاء في أماكنهم خشية عقوبة الموت. وهكذا فقد أعدم أسود لأنه لم يقل كلمة "سيدي" (مستر) لشرطي، وآخر لأنه رفض نزع زيه العسكري بعد عودته من الحرب. فلم يكن ممكنا حتى عام 1950 تحدي سيطرة البيض دون التعرض إلى التوقيف أو الضرب أو الاغتيال أو الحرق حيا، الخ. وكان المنفذون لهذه الاعدامات الغوغائية عموما لا يلاحقون قضائيا، إن لم يكونوا أنفسهم من رجال الشرطة أو من القضاة. وبطريقة أخرى، كانت المحاكم نفسها تتبع أسلوب الإعدام الفوري، ففي عام 1945 أعدم بهذا الأسلوب أسود متهم باغتصاب امرأة بيضاء، وذلك بعد مرافعة لدقيقتين ونصف. وقد لاقت هذه الممارسة الدعم من قبل أعلى السلطات. ففي عام 1894، برر أسقف المسيسبي لهذه الإعدامات قائلا : "إن القوانين بطيئة جدا والسجون مليئة للغاية". كما تعرضت مغنية البلوز بيلي هوليداي (Billy Holliday) للتنكيل طيلة حياتها من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي والعدالة الأمريكية وذلك لأنها استنكرت الإعدام الفوري بأغنية "الفاكهة الغريبة" (Strange Fruit) عام 1939، والتي ألفها الشيوعي هابيل مروبول (Abel Meeropol) وتقول : "أشجار الجنوب تحمل فاكهة غريبة / دم على الأوراق ودم في الجذور / جسد أسود يتأرجح في نسيم الجنوب / فاكهة غريبة تتدلى من أشجار الحور".

وكان للفصل والاضطهاد العنصري أشكال أخرى مثل الفصل في السكن والمدارس وأماكن العمل ووسائل النقل والحانات ودور السينما والحدائق العامة والمستشفيات وجميع الأماكن العامة بشكل عام. فعلى سبيل المثال، في ولاية ألاباما هناك قانون يذكر ويحدد : "كل مطعم أو أي مكان آخر يقدم به الطعام سيكون غير قانوني إذا لم يوفر صالات منفصلة للبيض وللملونين أو بالأقل عبر فصل المكانين بحاجز سميك يمتد بارتفاع سبعة أقدام كحد أدنى وعلى أن يكون هناك مدخلا منفصلا لكل مكان. كان السود محرومين من كثير من الحقوق، بما فيها حق التصويت الذي، رغم وجوده نظريا، كان نادرا ما يتطبق.

المقاومة الأولى : الجمعية الوطنية لترقية "الملونين" وماركوس غارفي

قبل انتفاضة الأعوام 1950 و1960، أخذت المقاومة أشكالا مختلفة. ففي أعوام 1890، وفي عدة ولايات جنوبية، جمعت "أحزاب الشعب" صغار المزارعين الفقراء، من السود والبيض المتحدين سوية في غالب الاحيان، لمكافحة تدهور ظروفهم المعيشية وخطر الافلاس. وكان العديد منهم يشير إلى أن العنصرية تفرق الفقراء وتعزز الأغنياء. لكن حركتهم هزمت وتراجعت حقوق السود مرة أخرى في ولايات عدة.

ومن جهة أخرى، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، تحرك بعض السود ضد الإعدام الغوغائي وتم تشكيل منظمات سياسية. كان أقدمها "الجمعية الوطنية لترقية الملونين" (NAACP). كانت هذه الجمعية الإصلاحية الهامة، والتي أسست عام 1909 بعد إعدام غوغائي جماعي، تنظم المرافعات أمام القضاء وتقوم بحملات ضد الجوانب الأكثر نفورا للفصل والاضطهاد العنصري. وكانت تضم 50.000 عضوا في عام 1940، و500.000 عضوا في عام 1946 . لكنها كانت منظمة برجوازية على مستوى قيادتها، ومناهضة للحركة العمالية، وترفض استخدام القوة حتى في مجال الحقوق المدنية. ولكن الذين انضموا إليها كانوا بحاجة إلى مقدار من الشجاعة، وإن كان ذلك للقيام بمرافعات قانونية ضد التمييز ولمواجهة الدكتاتورية الشرسة التي كانت تمارس ضدهم.

وبسياسة مختلفة أسس الجامايكي ماركوس غارفي، وبنجاح، "الرابطة العالمية لتطوير الزنوج" (UNIA) في غضون الحرب العالمية الأولى حيث خاض 400.000 جنديا التجربة الصعبة للفصل والاضطهاد العنصري داخل الجيش. فعند عودتهم من الحرب كان الـ "كو كلوس كلان" في خضم التجدد، وقد تميز صيف عام 1919 بأحداث عنف عنصري تمثلت في كثير من الأحيان بهجمات عنيفة من قبل العنصريين البيض ضد السود. اجتماعيا كان غارفي محافظا يدافع عن الرأسمالية وفي صراع ضد النقابات وضد الشيوعية. لكن خطابه كان مسموعا من السود وخاصة في الولايات الشمالية. كان يقول لهم بضرورة الافتخار بلونهم، وبأن الرب اسود، وبأن البيض هم الشياطين. كان يناضل في سبيل اتحاد الـ 400 مليون من السود الأفارقة، وسود الكاريبي وأمريكا، وذلك من أجل العيش في أفريقيا بعد تحريرها من الاستيطان الأوروبي. وكان معظم أتباعه لا يعرفون شيئا عن أفريقيا ولم يطمحوا العيش فيها.

وكما اشار تروتسكي، فإن نجاح غارفي يعبرعن التطلع لإنهاء هيمنة البيض، وأن الرجوع إلى أفريقيا يحقق فكرة أن السود بإمكانهم الإفلات من هذه الهيمنة. فعندما كانت امرأة سوداء تخاطب الامرأة البيضاء التي دفعتها في الحافلة قائلة : "يوم يكون ماركوس في السلطة سوف تنالون المعاملة التي تستحقونها أنتم البيض"، فإنها لم تكن تفكر بإفريقيا ولكن بالولايات المتحدة حيث يعيش السود منذ أجيال. كان تنظيم غارفي يضم عشرات الآلاف من الأعضاء والملايين من المؤيدين.

لم يتخوف أنصار الهيمنة البيضاء من أفكار غارفي لأنه كان مع الفصل العنصري وضد الحقوق المدنية ـ ولكنهم كانوا يتخوفون من الأمل الذي كان يمثله بالنسبة للملايين من السود.

وفي عام 1925، ألقي القبض عليه، وسجن لمدة سنتين بتهمة الاحتيال والتلاعب على القانون، وتم ترحيله إلى جمايكا. فتفكك حزبه وانحل تاركا فراغا مكانه. ولكن، في سنوات الـ 1930، فإن منظمات كأمة الإسلام، والتي سنتناولها لاحقا، كانت قد بدأت تتجذر في مدن مثل ديترويت وشيكاغو، قبل أن تتطورا سريعا. وكانت هذه المنظمات مدفوعة بأفكار مماثلة لأفكار غارفي وكانت أحيانا تضم نفس النشطاء.

الحركة العمالية وقضية السود

أما بالنسبة للحركة العمالية، فإنها قد اصطدمت بمسألة اضطهاد السود منذ تأسيسها في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. كانت هذه الحركة مبنية على أسس فئوية، ضمن كفندرالية نقابية سميت بالفيدرالية الأمريكية للعمل (AFL) والتي هيمنت من العام 1880 إلى العام 1930. كانت هذه الحركة متألفة من نقابات حرفية تسعى بشكل أساسي للدفاع عن مصالح أعضائها، من العمال المهرة، وذلك في إطار الرأسمالية الأمريكية. وكانت هذه النقابات ترفض تنظيم العمال غير المهرة، فكيف الأمر مع السود. وكان كثير من قادتهم يضيفون في نظامهم الأساسي بنودا تمنع السود من الانتماء النقابي. وبالتالي فإنهم كانوا يؤيدون ويساهمون بنشر الاضطهاد العنصري الذي كان يمارس من قبل المجتمع والدولة والمؤسسات التي تحمي امتيازات البرجوازية الكبيرة.

وكان هناك، لحسن الحظ، استثناءات لهذه القاعدة. ففي الجنوب، كانت نقابة عمال المناجم "عمال المناجم المتحدة"، التي تأسست في عام 1890، تضم 20.000 عاملا من السود في صفوفها، وكانت تناضل في بعض الأحيان ضد الفروق في الأجور وفي الرتب بين السود والبيض. ولكن سحق هذا النضال في بداية القرن العشرين. كما شكل السود ثلث منتسبي نقابة عمال الموانئ التي تأسست في عام 1902. وبعد الحرب العالمية الاولى، كانت نقابة ناشري الخشب في لويزيانا مفتوحة أيضا للسود، ولهذا فإنها قمعت بوحشية. وأخيرا، تأسست منظمة "عمال العالم الصناعيين" (IWW)في عام 1905 في معارضة للعمل النقابي المحافظ الذي تقوم به الفيدرالية الامريكية للعمل (AFL). وكانت تضم العديد من الاشتراكيين في صفوفها وتناضل من أجل عمل نقابي "صناعي"، بما معناه أنه يقوم بتنظيم كل العمال بغض النظر عن مهارتهم وجنسهم وأصلهم الوطني ولون بشرتهم. لم توافق هذه النقابة أبدأ على تنظيم فروع نقابية منفصلة. وقد نظموا حملات لكسب العمال السود، وقد يصل عدد المنتسبين اليها من السود الى 100.000 من مجموع المليون منتسب في كل تاريخ النقابة. وبعد أن عارضت هذه النقابة ببسالة مشاركة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى، فإنها قد انحسرت تحت ضربات القمع.

كان معظم السود يعيشون في الجنوب. ولكن البلاد شهدت تغييرا كبيرا. وذلك منذ الاعوام 1910. فقد خلقت العديد من فرص العمل في الشمال الذي كان يسير بخطى سريعة نحو التصنيع. فغادر نحو مليون أسود الجنوب نحو الشمال، وقد تسارعت هذه الهجرة خلال الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1944 كان ثلث السود يعيشون في الشمال، كما هو الحال في شيكاغو وفي الغرب وفي لوس انجلس. وفي هذه المناطق، كان يمارس التمييز والفصل العنصري بدون غطاء قانوني. فقد كان السود يعيشون بعيدا عن البيض وكانت والدولة نفسها تشجع هذا الفصل والتمييز. ففي سنوات الـ 1930، كانت سياسة الدولة الفيديرالية بتمويل هذا الفصل والتمييز في السكن، فبينما كان المهاجرون من أصول مختلفة مختلطين، تم تشييد مبان محددة للسود بعيدا عن مباني البيض. فمنعت بهذا الشكل سلطات روزفلت الاختلاط بين السود والبيض في الاحياء والمدارس. ومن جهة أخرى، لم تكن العنصرية حكرا على الجنوب. فالروائي ريتشارد رايت (Richard Wright)، الذي نشأ في ولاية الميسيسيبي، روى ما حل بعائلته التي جاءت لتعيش في شيكاغو في عام 1927 : "كانوا يرمون الطوب على نوافذ بيوتنا والقمامة على أطفالنا في سبيلهم إلى المدرسة، إلا أن انتهى الأمر بتفجير القنابل أمام أبوابنا".

وقام اتحاد النقابات (CIO)، الذي أسس في عام 1935 في سياق موجة من الإضرابات وفي مواجهة فئوية نقابات الفيدرالية الامريكية للعمل (AFL)، بتنظيم السود أيضا. لكن الشركات الشمالية الكبرى كانت تضعهم في موقع المنافسة مع العمال البيض وأحيانا بنجاح. كان السود دائما يحتلون الأعمال الأكثر صعوبة وكانت بعض الشركات تغلق أبوابها تماما أمامهم. أو بالعكس، كانت تستغلهم كجيش احتياطي، فتشغلهم في حالة نقص في اليد العاملة أو في حال نشوب إضراب أو بهدف الضغط على أجور البيض. فوصلت الأمور إلى حدوث حالات غريبة كإضراب خط الترامواي في فيلادلفيا عام 1944 ضد ترقية السود الذين تعلموا القيادة. وفي ديترويت، تعرضت صناعة السيارات لإضرابات مماثلة في عام 1943 وكانت المدينة مسرح أعمال عنف عنصرية رهيبة عندما هاجم البيض الذين وصلوا حديثا من الجنوب السود الذين كانوا قد وصلوا لتوهم أيضا، مما أسفر عن مقتل العشرات.

الاشتراكيون والشيوعيون

وبخصوص الحركة الاشتراكية فقد كان لديها تقليد بمعارضة اضطهاد السود. وبالفعل، ففي عام 1853 عندما شارك جوزيف ودماير، رفيق كارل ماركس، في عصبة العمال الامريكيين في شيكاغو، كانت إحدى قواعدها، الجريئة جدا في ذلك الحين، هي بأن "جميع العمال الذين يعيشون في الولايات المتحدة، ودون تمييز في المهنة واللغة واللون او الجنس، بإمكانهم أن يصبحوا أعضاء". وكان مناصري الاممية الاولى، والمرتبطين بماركس في اغلب الاحيان، في الاعوام 1860 و1870 يناضلون ضد اضطهاد السود ايضا. وكان هذا حال اجيال الناشطين من بعدهم والذين كانوا يرون بوضوح كيفية استخدام الرأسمالية الامريكية للتفرقة والتميز العنصري بهدف زيادة استغلال كل العمال. في بداية القرن العشرين، من الصحيح أن الحزب الاشتراكي كان يضم جناحا يمينيا عنصريا. ولكن القادة الاخرين في الحزب كانوا يكافحون العنصرية داخل الحركة العمالية، كما كان حال أوجين دبس (Eugène Debs) الذي كان يرفض إلقاء خطاب أمام جمهور مفصول فيه السود عن البيض، وكان ينظم نشاطات ضد محاولات الحزب الديمقراطي للحد من نيل السود لحق الانتخاب.

وقد شكل أيضا الحزب الشيوعي، ومنذ تأسيسه عام 1919، منظمات تناضل ضد اضطهاد السود. وكانت الأممية الشيوعية تشدد على فرعها الأمريكي بضرورة الانتباه للمشاكل الخاصة بالعمال السود وبالنشاط في أوساطهم وبالدفاع عنهم في أوساط العمال البيض. وفي عام 1922 اعتمد المؤتمر الرابع للأممية "المقترحات حول مسألة الزنوج". وكانت تستبق الدور الرائد الذي سيلعبه بروليتاريا السود الأمريكيين مقارنة مع البيض. فقد أشار البيان "بأن المشاركة الواسعة للزنوج في الصناعة بعد الحرب وروح التمرد التي أيقظتها فيهم الممارسات الوحشية التي كانوا ضحيتها، تضع زنوج امريكا وخصوصا زنوج امريكا الشمالية في طليعة نضال افريقيا ضد الاضطهاد". لقد أعطت الاممية اولوية لهذا النضال، فقد كان على اعضائها النضال من أجل المساواة السياسية والاجتماعية كما كان عليهم النضال كي توافق النقابات على عضوية السود فيها، وفي حالة رفضها فعليهم مساعدة السود في تشكيل منظمات خاصة بهم. قام الحزب الشيوعي بحملات كما هو الحال في قضية شباب سكوتسبورو (Scottsboro) في عام 1931، وهم ثمانية شباب من السود كانوا ملاحقين في ولاية آلاباما بتهمة اغتصاب شابتين من البيض في حين أنهم كانوا ابرياء من ذلك. وكان قد حكم عليهم بالإعدام بعد محاكمة دامت يوما واحدا، وكانت الجمعية الوطنية لترقية الملونين لا تريد الدفاع عنهم فقام الحزب الشيوعي بحملة عالمية وتمكن من تبرئتهم، الامر الذي اكسبه ثقلا لدى جماهير السود.

وفي بدايات سنوات الـ 1930، طالب الحزب الشيوعي بحق تقرير المصير للسود وإقامة أمة سوداء في "الحزام الاسود" (Black belt) وهي مجموعة من المقاطعات في الجنوب حيث كان السود يشكلون أغلبية السكان. وفي عام 1933، وخلال نقاش مع ناشطين أمريكيين من تياره، شدد تروتسكي على ضرورة الدفاع بقوة عن حق السود في تقرير مصيرهم : كان يقول بأن السود "لهم الحق الكامل في تقرير المصير، إذا رغبوا في ذلك وسوف ندعمهم وندافع عنهم بكل الوسائل المتاحة لنا في سبيل الحصول على هذا الحق، كما ندافع عن كافة الشعوب المضطهدة". وكان يشدد على مسؤولية العمال البيض "الاوغاد الذين يضطهدون السود والمتعاونين الصفر ويحتقرونهم ويقومون بالإعدامات الغوغائية". لقد كان تروتسكي يعتقد بأن على ناشطي تياره عدم المطالبة بإنفصال "الأمة السوداء"، كما كان ينادي به الحزب الشيوعي، بل عليهم معارضة ذلك وطرح سياسة أخرى. فإنه كان يعي القوة التفجيرية الكامنة لدى الجماهير السوداء. وكان يقول، متمثلا بثورة عام 1917، بأن الروسيون كانوا بمثابة سود اوروبا. فمن المحتمل جدا أن يصل السود أيضا، عبر مسألة تقرير المصير، إلى دكتاتورية البروليتاريا في بضع خطوات عملاقة، وذلك قبل أن تصل إليها كتلة العمال البيض الكبيرة." وكان يشدد على ضرورة عمل النشطاء الامريكيين في تياره داخل جماهير السود وعلى أن يناضلوا في كل مكان من أجل التآخي الطبقي.

أما الحزب الشيوعي فسياسته قد تبعت تعرجات سياسة الاممية الشيوعية الموجهة من قبل ستالين. وابتداءا من عام 1935 فإنها تبنت سياسة الجبهة الشعبية المملاة من قبل موسكو والتي كانت تترجم بدعم الحكومات البرجوازية ضد هتلر. وهكذا فإن الحزب الشيوعي أثناء الحرب العالمية الثانية قد دعم الجهود العسكرية الامريكية وعارض مسيرة للسود إلى واشنطن من اجل حقوقهم. وكان يضع كل شيء وراء خدمة مجهود الحرب، بما في ذلك الحق في الإضراب والنضال من أجل الحقوق المدنية. وبينما كان روزفلت يرفض أي تشريع لمكافحة "الاعدام الغوغائي"، فقد كان الحزب الشيوعي يدعمه. وهكذا فقد خسر المئات من الناشطين السود الذين كانوا قد التحقوا به وأربك عددا أكبر أيضا. دفعت هذه السياسة اولئك الأكثر تمردا والأكثر نشاطا من بينهم إلى تنظيم أنفسهم منعزلين وعلى اسس طوائفية /عرقية وساعد ذلك على الحفاظ على هوة بين العمال البيض والسود.

الحرب العالمية الثانية

خلال الحرب العالمية الثانية تم تعبئة ثلاثة ملايين اسود وأرسل 500.000 منهم إلى ما وراء البحار. وعلى حد تعبير الناشط من اقصى اليسار ك. ل. م. جيمس (C.L.R. James) : "في كل مرة يجب أن تهدر الدماء يرى قادة هذا البلد أنه على الزنوج هدر دمائهم [...] لقد حرموا [الزنجي] من حق التصويت وقد خصصوا له أسوء الأعمال وأسكنوه في أحياء مزرية فقيرة ثم مورس بحقه الإعدام الغوغائي ولكنهم عندما يريدون أن يموت الناس من أجل "الديمقراطية"، فكونوا متأكدين بأنهم سوف يأتون للبحث عن الزنوج". رجع العديد من الزنوج مستائين حيال التمييز الذي عانوا منه في الجيش، فحتى شبكة "نقل الدم" كانت تخضع للفصل العنصري ! وبعد القتال من أجل "الحرية" بما في ذلك في البلدان التي كان يختلط فيها السود مع البيض، فعند رجوعهم إلى بيوتهم كانوا معرضين "للإعدام الغوغائي". ومن جهة أخرى فإن الحرب قد جلبت مئات الآلاف من السود إلى ساحل المحيط الهادي أو إلى الشمال حيث تحولوا إلى عمال. وحتى في الجنوب فقد تناقص عدد السود العاملين في حقول القطن وتكاثر عددهم في المدن. فظهرت العديد من الإشكال الجديدة للمقاومة. فعلا سبيل المثال وفي فبراير/ شباط 1946 في كولومبيا في التينيسي، اندلع نزاع بين أبيض وأسود وكان الأسود متغلبا، وعندما دخل أربعة من رجال شرطة بيض إلى الحي، قام السكان باطلاق النار عليهم. وأظهرت العديد من الحوادث الأخرى بأن السود لم يعودوا قابلين للخضوع.

نظرا للاحتجاجات، اتخذت المؤسسات الفيديرالية بعض الإجراءات التي لم تتحقق غالبا. ففي عام 1944 منعت المحكمة العليا الانتخابات التمهيدية المخصصة للبيض. وفي عام 1954 منعت الفصل العنصري في المدارس وطالبت إنهاء تطبيقه "بكل السرعة اللازمة". وبعدها بعشر سنوات فإن 2,3% فقط من الأطفال السود كانوا في مدارس مدمجة.

إن حركة الحقوق المدنية لم تنفجر في سماء هادئة. فمقاومة الاضطهاد العنصري التي بدأت في السنوات 1930 و1940 قد تحولت في عام 1955 إلى موجة عميقة ومستمرة، بأشكال وبإيقاعات مختلفة، لمدة حوالي 20 عاما.

انتفاضة أعوام 1950 و1960

1955 : حركة الحقوق المدنية

في صيف عام 1955 في ولاية الميسيسيبي، تم إعدام إيميت تيل بشكل غوغائي، وهو مراهق بالغ من العمر 14 عاما، وذلك لأنه أطلق صفيرا لامرأة بيضاء. خاضت والدته صراعا لاستعادة جثة ابنها للعودة بها إلى شيكاغو، حيث كانت تعيش. فتحت التابوت، وأظهرت للجمهور الجثة المشوهة بفظاعة، حيث نشرت الصحافة الصور، وفي سبتمبر/ أيلول، تمت تبرئة القتلة الاثنين. لقد استمرت المداولات 67 دقيقة، ذلك مع حسبان الوقت الذي أمضته لجنة التحكيم، المؤلفة بأكملها من البيض، في استراحتها لشرب الصودا... وحضر 50.000 شخصا جنازة ايميت تيل في شيكاغو وكانت ملايين أخرى مستاءة من هذه الحالة التي ترمز إلى ما عاشه العديد منهم.

في هذا السياق، في 1 ديسمبر/ كانون الاول 1955، في مونتغمري بولاية ألاباما، ألقي القبض على روزا باركس لرفضها التخلي عن مقعدها لأبيض على متن حافلة. كان هناك بالفعل العديد من الأعمال المماثلة، التي لم ترتئ الجمعية الوطنية لترقية الملونين أن تتابعها، وذلك لأن شخصية الأفراد لم تكن تعتبر مناسبة. وكما أوضح سكرتير قسم مونتغمري، بأن روزا باركس، الناشطة من أجل الحقوق المدنية منذ اثنا عشر عاما، "كانت متزوجة... صافية أخلاقيا، وكانت تربيتها جيدة". "كنت قد عملت بجد طوال اليوم"، هذا ما أوضحته هذه الخياطة البالغة 43 عاما. "وظيفتي هي خياطة الملابس التي يرتديها البيض". لقد أصبحت الرمزا الذي اتخذه سود مونتغمري لأنفسهم، ثم رمزا لسود البلاد كلها. وفي فترة مقاطعة حافلات المدينة، كان 50.000 أسود يسير يوميا وفي كثير من الأحيان لمسافة عدة كيلومترات من منازلهم أو كان ينقل بعضهم البعض للذهاب إلى العمل. لم يبقى ذلك لمدة أسبوع أو شهر، بل امتد لفترة 381 يوما. وتم سجن مائة من منظمي حركة المقاطعة، عبثا. وانفجرت أربع قنابل في كنائس السود، عبثا. الامر أدهش بيض مونتغمري، وكذلك النشطاء السود. فانتهى الأمر بأن تقوم المحكمة العليا بحظر الفصل العنصري في وسائل النقل العامة.

إن حركة المقاطعة في مونتغمري لم تكن بداية الصراع، فهو كان جاريا حينها. لكنه كان الدليل على إمكانية فوز السود. وبالتالي فقد أعطى زخما قويا لمعركة الكفاح من أجل الحقوق المدنية طوال عقد من الزمن. وأصبح مارتن لوثر كينغ القائد الأساسي للحركة. وكان لوثر كينغ قسا بروتستانتيا، ذو 26 عاما، وكان ينحدر من البرجوازية الصغيرة السوداء ـ والده كان قسا لأكبر كنيسة معمدانية في أتلانتا ـ وحائزا على دكتوراه. وكان يعتمد على المشاعر الدينية لدى العديد من سود الجنوب. فمنذ العبودية، شكلت كنائس السود المؤسسات الوحيدة لدى السود المعترف بها حقا وقد شكلت المراكز الأساسية لمقاومة الاضطهاد.

وكان لوثر كينغ يقود منظمة مسيحية من أجل الحقوق المدنية اسمها "مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية" وكانت مستندة إلى هذه الكنائس. وكان يرد على العنف باللاعنف والنشاط الجماهيري، متبعا تقاليد غاندي. لقد كان شجاعا من الناحية الجسدية، حتى عندما فخخ الكو كلوكس كلان بيته. لكنه كان إصلاحيا حيث كان يؤمن بالحوار مع السلطة في سبيل تحسين الأمور، وكان يعتقد بأن الدولة، على الرغم من عنصريتها، قد تضطر للدفاع عن مصالح السود.

في الجوهر، لم يكن مارتن لوثر كينغ مختلفا كثيرا عن المدافعين عن قضية السود منذ نصف قرن. إن ما تغير هو أن السود لم يعودوا خائفين إذ كانوا يشاركون في انتفاضة واسعة.

في البداية، وحتى منتصف الأعوام 1960، اتخذت هذه الحراكات أشكالا مماثلة، وكانت تتبع مبدأ اللاعنف السلمي، كمقاطعة الحافلات والمحلات. وفي عام 1960 جلس طلاب في جرينسبورو بولاية كارولينا الشمالية في حانة مخصصة للبيض فقط، وخلال أيام انتشر احتجاجهم وشارك نحو 70.000 طالب أسود في هذه النشاطات. وألقي القبض على 3600 منهم، دون أن يؤثر هذا على إصرارهم.

ثم، وابتداء من عام 1961، اختلط البيض والسود في "سفرات الحرية" (Freedom Rides)، كانوا سوية في نفس الحافلة متوجهين إلى الجنوب واستخدموا قاعات الانتظار والكافيتريات ودور المياه دون التقيد بالقيود العنصرية، وذلك تحديا للفصل العنصري. فتعرضوا لهجوم من قبل مجموعات مرتبطة بالكوكلوكس كلان وذلك باللكم والضرب بالقضبان الحديدية. والشرطة، بدلا من حمايتهم، كانت تتركهم يتعرضون لهذه الأعمال، أو حتى تلقي القبض عليهم، ولكن ذلك لم يمنعهم من الاستمرار. وفي ألباني بولاية جورجيا، كانت المدينة تضم 23.000 أسودا، سجن 700 منهم لمشاركتهم في مقاطعة الحافلات والمكتبة التي كانت هي أيضا تخضع للفصل العنصري. وكان السجناء من الخدم والعمال والأمهات وحتى من أطفال المدارس. وعندما طلب قائد الشرطة - بعد إلقاء القبض على حشد كبير- أسماء المتظاهرين، كان أمامه طفل يبلغ من العمر تسع سنوات، فأجاب الطفل : "حرية حرية".

ومع ذلك، فقد استلزم الأمر سنوات من النضال قبل أن يبدأ الفصل العنصري في المؤسسات العامة بالانتهاء بين عامي 1963 و1965.

وكان الفصل العنصري نظاما قديما بشكل بالغ، فكان بإمكان البرجوازية تماما أن تتكيف مع إعادة النظر فيه. ولكن الفصل العنصري القانوني كان سيستمر لولا هذه الحركة الجماهيرية. فعلى سبيل المثال، عندما أصبح كندي رئيسا في عام 1961، فإنه كان على استعداد لتمويل كنائس السود ومارتن لوثر كينغ. ولكنه كان يؤكد أن أولويته كانت الحرب الباردة والصراع ضد الشيوعية، وليس العدالة العنصرية. فالحزب الديمقراطي الذي ترأسه كان ولفترة طويلة الحجر الأساس من الناحية السياسية للفصل والتمييز العنصري في الجنوب. وعلى سبيل المثال، في ولاية الميسيسيبي، كان السود المسجلين في القوائم الانتخابية 6% فقط في عام 1963، عندما اغتيل كندي. كان كندي يقوم بالإطراء على قادة الحركة السوداء، وكان يناقش مع هذا وذاك. ولكن ذلك كان للتحكم بهم بشكل أفضل، وليس من أجل تحقيق مطالبهم.

في برمنغهام في ألاباما، تم سجن 3300 شخص خلال شهر أبريل/ نيسان 1963 فقط. وكانت هذه المدينة رمز العنصرية الجنوبية، وأدى الحراك لانطلاق موجة من الاحتجاجات على نطاق مختلف. ففي جميع مناطق الجنوب، نزل السود إلى الشوارع رغم خطر التعرض للضرب ولخراطيم المياه ولكلاب الشرطة والطرد من العمل والاعتقال والموت. كان الناس من مختلف الأعمار وفي جميع المدن منخرطين في الكفاح. في عام 1963، ألقي القبض على 20.000 شخص، أي أربعة أقدار العدد في عام 1960. وفي 28 أغسطس/ آب 1963، تجمع 250.000 شخص في واشنطن احتجاجا على الفصل والتمييز العنصري. وهنا القى مارتن لوثر كينغ خطابه الشهير "لقد حلمت" ( have a dream). وهو لم يتطرق إلى الغضب الذي كان يشعر به العديد من السود، وقد أسكتت كل الانتقادات اللاذعة ضد للحكومة. فأصدر الكونغرس وبسرعة قوانين لصالح الحقوق المدنية. ولكن تنفيذ القوانين استغرق وقتا طويلا، وكان على السود مواصلة النضال خلال متبقي الستينات.

فعلى سبيل المثال، في سيلمى بولاية آلاباما، التي كانت رمزا لاستبعاد السود من التصويت، نجح 335 أسود من أصل 15.000 من البالغين السود في المدينة بتسجيل انفسهم في القوائم الانتخابية، أما البيض الذين كانوا أقل عددا منهم، فكانوا يشكلون 99 % من الناخبين.

كان حاكم ولاية آلاباما، والاس، عنصريا من الحزب الديمقراطي ولم يكن يخفي ذلك بإعلانه : "الفصل والتمييز اليوم. الفصل والتمييز غدا. الفصل والتمييز إلى الأبد ". أما شريف سيلمى، فقد كان يشهر الهراوات والبنادق بوجه السود. وخلال مظاهرة في فبراير/ شباط 1965، قتل شاب أسود على يد الشرطة. وقد فرقت الاحتجاجات التي اندلعت بعنف من قبل الحرس الوطني : فقد تم مطاردة المتظاهرين وضربهم بالهراوات وجلدهم كما في أيام العبودية، ودهسوا بخيول الجنود. أثارت أحداث سيلمى موجة من التمرد في كل البلاد. فصدر قانون جديد يمنع مختلف الاجراءات التي تحول دون تسجيل السود في القوائم الانتخابية، مثل اختبارات القراءة والكتابة واختبارات معرفة الدستور، أو الاختبارات عن الأخلاق الحميدة.

كان الحزب الديمقراطي في السلطة في معظم أعوام 1960، مع كندي ثم جونسون. عمل جونسون كل ما في وسعه لخنق حراك السود. كان يترك مطلق الحرية للحكام الديمقراطيين الذين كانوا يقمعون الحراكات بوحشية في ولايات الجنوب. كما رشح العنصري والاس نفسه إلى الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي وحصل على ثلث الأصوات. إن اعتماد بعض القوانين لصالح الحقوق المدنية في فترة حكم جونسون، مثل حق السود في التصويت عام 1965، لم يتم بفضل تأييد جونسون أو الكونغرس لهذه الحقوق. بل عكس ذلك، فقد كان جونسون يعتمد على مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي كان يديره إدغار هوفر منذ عام 1924، وهو الشرطي العنصري والمعادي اللدود للشيوعية. زكانوا يهددون لوثر كينغ والعديد من الناشطين الآخرين في قضية السود بهدف زعزعتهم. فموافقة الحكومة والكونغرس الأمريكي على تشريعات الحقوق المدنية فذلك ليست إلا نتيجة الضغط الناتج عن الانتفاضة الجماهيرية للسود.

وجاءت أحداث سلمى بعد عشر سنوات من النضال السلمي. فمن ناحية، كان حراكا إضافية؛ ومن ناحية أخرى، كان دليلا على أن حركة الحقوق المدنية كانت في طريق مسدود. فاللاعنف الذي بشر به مارتن لوثر كينغ والجمعية الوطنية لترقية السود وكنائس السود كلها قد فشلت. فانتهت هذه الحركة، لتبدأ بعدها انتفاضة كبيرة وأقل سلمية.

من الحقوق المدنية إلى الانتفاضة

على مدى عدة سنوات كان هناك نشطاء يعارضون نبذ العنف. على سبيل المثال، روبرت ف. وليامز، ناشط أسود من مونرو بولاية كارولينا الشمالية. ففي هذه المدينة، كان المسبح البلدي مغلقا أمام السود، وكان أطفالهم يسبحون في نهر خطير. وبعد غرق طفلين في النهر في عام 1961، بدأ روبرت وليامز اعتصاما وتجمعا على باب المسبح. فسرعان ما تجمع البيض وهم يهتفون "اقتلوا الزنوج ! اقتلوا الزنوج !" (Kill the Niggers). كان وليامز العسكري السابق يشرح بأن على السود الدفاع عن انفسهم بالسلاح. فإنه أفضل وسيلة لحماية النفس، وتجنب التعرض للعنف. فلا ينبغي على السود إعطاء الخد الآخر. وكان يشرح بأن الرجل الأبيض اذا ما خاف من فقدان حياته (التي يعتبرها الأجدر) عند محاولته قتل رجل أسود (الادنى منه، باعتباره)، فإنه لن يقدم على قتله. وقام وليامز بتنظيم السود في مدينته للدفاع عن أنفسهم بالسلاح. فأدانت موقفه الجمعية الوطنية لترقية الملونين وتم تعليق عضويته واضطر لمغادرة المنطقة ومن بعدها البلاد للجوء إلى كوبا حيث قام بإحياء برنامج على الراديو كان يستمع إليه العديد من سكان جنوب الولايات المتحدة الامريكية، وكان عنوان البرنامج "راديو ديكسي الحرة" أي راديو الجنوب المتحرر من التمييز العنصري.

وفي كوبا، في عام 1959، أدت حرب العصابات التي قادها كاسترو بالإطاحة بديكتاتورية باتيستا، دمية الولايات المتحدة. فأعطي للسود مكانة مساوية لمكانة البيض، وهذا ما لاحظه الناشطون الأمريكيون السود الذين ذهبوا إلى هذه الجزيرة. وبالإضافة إلى ذلك، ففي هذه الجزيرة الواقعة على بعد 150 كم فقط من السواحل الأميركية، رفض كاسترو الرضوخ لمشيئة لسلطة كندي الذي نظم حملة عسكرية ضد كوبا في عام 1961، ولكنها لاقت هزيمة سريعة. وعندما ذهب كاسترو إلى نيويورك في عام 1960، تم استقباله استقبال الابطال في هارلم. فكان من شأن الثورة الكوبية لعب دور في الحركة السوداء الأمريكية، كما حصل مع حركات التحرر الأخرى، لا سيما في البلدان الأفريقية التي كانت تثور ضد الوصاية الاستعمارية. وهكذا تم الترحيب أيضا بالمصري عبد الناصر في هارلم في عام 1960 بعد بضع سنوات على تأميمه قناة السويس ووقوفه في وجه القوى الغربية.

وكمثال آخر فلنأخذ اغتيال باتريس لومومبا في عام 1961، هذا الزعيم الوطني الكونغولي الذي وقف بوجه القوة الاستعمارية البلجيكية السابقة، والذي أدى اغتياله، بدعم من بلجيكا والولايات المتحدة، إلى إثارة سخط السود الذين كانوا يربطون بين النضال ضد الاستعمار في أفريقيا وبين كفاحهم.

إن الفكرة الداعية لتوقف السود عن الاعتماد على اللاعنف تم الإعراب عنها بأشكال متعددة في النصف الثاني من الأعوام 1960، بينما كانت حركة الحقوق المدنية لاتزال مستمرة. فعلى سبيل المثال، في ولاية لويزيانا، هناك مثالا آخر للدفاع عن النفس من قبل "الشمامسة للدفاع والعدالة" (Deacons for Defense and Justice). ففي منطقة يسيطر عليها الكو كلوس كلان، أسست هذه المجموعة من السود في عام 1964 جماعة مسلحة لحماية المدافعين عن الحقوق المدنية وأسرهم. وكان معظم هؤلاء الناشطين من المحاربين القدامى الذين استخدموا مهاراتهم العسكرية لهزيمة الكو كلوكس كلان.

أمة الإسلام ومالكوم اكس

وكانت أمة الإسلام إلى حد بعيد أكبر منظمة سوداء في الشمال من بين تلك التي ترفض اعطاء الخد الآخر. لقد بدأت بتأسيس عصبة في ديترويت في عام 1930، قبل أن تتوسع. لقد كانت بقيادة اليجاه محمد، واستعادت أمة الاسلام بعض الأفكار من غارفي، كفخر السود وكراهية البيض. وكانت في البداية مكونة من بضع مئات من الاعضاء، ثم غدت تبيع 500.000 نسخة من أسبوعيتها في بداية اعوام 1960. وكانت حقا منظمة جماهيرية ناشطة جدا، أقرب إلى الحزب منها إلى الكنيسة في بعض النواحي، وكانت تضم أفقر السود، لا سيما في شمال البلاد، وكانت تعطيهم بعض الثقة وتحثهم للدفاع عن انفسهم. وعندما انضم الملاكم الشاب كاسيوس كلاي، بطل العالم في الوزن الثقيل، إلى أمة الإسلام في عام 1962، قام بتغيير اسمه إلى محمد علي، وأوضح: "إن هذا التغيير قد أعتقني من الهوية التي أعطيت لعائلتي من قبل أسياد العبيد". شكلت أمة الإسلام ميليشيات خاصة بها سميت بـ"فاكهة الإسلام". لقد كانت تجند شبابا فقراء وحتى من الجانحين الاحداث (أصحاب السوابق) وهذا ماكانت ترفض القيام به دائما "جمعية ترقية الملونين". في سيرته الذاتية "كل حياتي، ناضلت"، يلخص الناشط التروتسكي الامريكي سام جونسون كيف التقى بالمسلمين السود مرارا، حيث كانوا يلومونه على تسريح شعره على شاكلة البيض : "إن هؤلاء الأخوة من أمة الإسلام كانوا الأوائل في التبيين لي عن استعدادهم للدفاع عن حقوقهم. عندما نكون وحيدين ومعزولين، فهذا واقع، ولكن الأمر هنا يتعلق بمنظمة تتحدث عن محاربة المشاكل التي نلاقيها جميعا". إن هذا يلخص تجربة مئات الآلاف من السود، وخاصة في أحياء الغيتو الشمالية.

وكان مالكوم إكس إحدى الشخصيات الرئيسية للمسلمين السود. وكان أباه أحد أتباع غارفي الناشطين، وقد قتله الكو كلوكس كلان. ومالكوم، الذي ولد تحت إسم ليتل وكان من الجانحين الأحداث في صغره، قد تسيس في السجن حيث اعتنق الاسلام وغير اسمه إلى مالكوم اكس، واكس تعود لاسمه الأفريقي الذي لم يعرفه أبدا. فأصبح أحد زعماء أمة الإسلام. وكان يدين اللاعنف على أنه جبن وغير فعال، موضحا أنه على السود الدفاع عن انفسهم : "العين بالعين، السن بالسن، وحياة بحياة. إن كان هذا ثمن الحرية، فإننا لن تتردد عن دفع الثمن."

وفي 26 أبريل / نيسان 1957، اعتقلت شرطة نيويورك مسلما أسود وضربته بشدة. وفي الساعات التي تلت ذلك، في منتصف الليل، قام مالكوم اكس، الذي كان يترأس مسجدا في حي هارلم، بتعبئة ما يصل إلى 4000 شخص للحضور أمام مركز الشرطة. فحصلوا على أن يتلقى السجين للرعاية في المستشفى. وكان هذا نصرا، كان ذلك دليلا على أن السود، إن تنظموا وبإرادة، فبإمكانهم الفوز دون التعرض للضربات. دعي مالكوم إكس للظهور في وسائل الإعلام الرئيسية، وبدأت الشرطة أيضا تراقبه وتحاول اختراقه أمنيا.

كان مالكوم إكس رجلا يتمتع بشخصية لافتة وذو شعبية واسعة جدا، مما حجب الأضواء عن أليجاه محمد، ولكنه بقي مواليا له، على الرغم من الخلافات المتكررة بينهما. وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1963، عندما أغتيل كندي، أعلن مالكوم إكس "أن الدجاج يعود إلى حظيرة الدواجن"، أي أن كندي حصد ما زرع، وأنه "باعتباري صبيا قد ترعرع في الريف، لم أحزن يوما على عودة الدجاج إلى حظيرة الدواجن، إن ذلك كان يفرحني دائما". كان ذلك إعلان حرب على حكومة الولايات المتحدة، وكذلك على اليجاه محمد الذي كان يخشى القمع. فقام اليجاه محمد بطرد مالكوم إكس الذي أسس منظمة سياسية خاصة به، وعلى عكس مارتن لوثر كينغ، لم يكن مالكوم إكس يسعى لا لحل وسط مع الدولة ولا لاندماج السود. كان يطالب قبل كل شيء بالانفصال عن البيض. وكان ذلك يعني أنه لا مانع لديه من أن تقوم البرجوازية البيضاء، ودولتها، بقمع العمال البيض، شريطة أن تدع البرجوازية الصغيرة السوداء تبني سلطتها الخاصة بها وفعل الشيء نفسه مع العمال السود. كان التوجه القومي للمسلمين السود يدفعهم للمطالبة بتواجد متاجر وشركات يملكها السود فقط في أحياء السود، وأن يعود مال مجتمع السود في المقام الأول لأرباب العمل السود.

أغتيل مالكوم إكس في عام 1965، 15 شهرا بعد طرده من أمة الإسلام وبموافقة محمد اليجاه. وكان مالكوم إكس في خضم تطوره الفكري. فبعد الحج إلى مكة بدأ يوضح بأن جميع البيض ليسوا "شياطينا"، وبدأ يعلن مناصرته للاشتراكية. كما بدأ يرى بأن قومية السود تؤدي بهم إلى طريق مسدود، وشرع يبحث في اتجاهات مختلفة ولا أحد يعلم ما كان سيؤل إليه تطوره. وكان مليئا بالتصميم للمضي إلى نهاية المطاف، وهذا ما يفسر تأثيره على جيل كامل. وإذا كان موته قد أراح المدافعين عن النظام الاجتماعي، فإنه مع ذلك قد احتفظ بمكانة كبيرة بين جماهير السود. فـ"سيرته الذاتية" قرأها مئات الآلاف من الناس، وكان يسمع تسجيلاته جمهور أوسع بكثير من صفوف المسلمين، وذلك لأن خطابه كان يتوجه إلى العديد من السود، وخاصة في الجنوب، الذين كان عليهم أن يتنظموا عسكريا في سبيل الدفاع عن أنفسهم، كما فعل روبرت ف. ويليامز.

انتفاضة الغيتوات والسلطة السوداء (والبلاك بور)

عندما اغتيل مالكولم إكس، كانت الانتفاضة تتفجر في غيتوات المدن الكبيرة. في حينها، كان نصف السود يعيشون في الشمال حيث كان السود يشكلون سدس سكان نيويورك وربع سكان شيكاغو وثلث سكان ديترويت. وكانوا، في هذه المدن، ضحايا للعنصرية والبطالة والتمييز في العمل، وذلك بتشجيع من قبل أرباب العمل وأحيانا بتواطؤ بعض النقابات. وكما رأينا، فقد تم بناء غيتوات حقيقية مؤلفة حصرا من السكان السود حيث كان أغلبهم فقراء، وبمقابلها أحياء مخصصة للسكان البيض. وكان الفصل العنصري يمارس أيضا في المدارس. وحتى حينما كان يمكن للسود ممارسة حقهم في التصويت، فقد كانوا عرضة للاستغلال والبؤس. وكان عنف الشرطة ضدهم لا يتعرض للعقاب في معظم الأحوال. فعلى سبيل المثال، فقد أودت شرطة لوس انجليس بحياة 65 شخص أسود خلال عامين ونصف العام.

وفي تموز/ يوليو عام 1964، عندما أقدم شرطي على قتل شاب أسود عمره 15 عاما، اشتعل حي هارلم في نيويورك. وجاء هذا العصيان بعد اسبوعين فقط من اعتماد قانون الحقوق المدنية (Civil Rights Act) الذي حظر ممارسة التمييز العنصري، وكانت تلك طريقة العصاة للقول بأنهم لايتأملون شيئا من هذا القانون، ولا يعتقدون به. وفي غيتو واتس في لوس انجليس، اندلع العصيان في 11 آب / أغسطس عام 1965 على وقع ممارسة الشرطة اعتداء على شاب أسود واستمر العصيان هذا ستة أيام، وتم خلاله مهاجمة الشرطة والبيض. فتم إلقاء القبض على 4000 شخص وقتل 34 وجميعهم من السود. وكان ذلك ايضا أسلوب العصاة، بعد عدة أيام من صدور قانون حق الانتخاب، للتعبير عن عدم ثقتهم به. وكانت أعمال العنف هذه ذات طابع جماهيري، حيث شارك فيها حوالي 80.000 شخص. وفي شيكاغو، قتل ثلاثة سود خلال أعمال العنف عام 1966. وفي كليفلاند، من نفس العام، تم قتل أربعة. وفي ديترويت، في عام 1967، قام الجيش بقمع عصيان ذهب ضحيته 43 قتيلا و1200 جريحا وتم اعتقال 7200 شخص ودمر أكثر من 2000 مبنى. واستمر هذا حتى أواخر الستينيات.

وكان شعار البلاك بور مستوحى مباشرة من انتفاضة الغيتوات هذه، بدءا من انتفاضة واتس. ثم تبنت العديد من المنظمات هذا الشعار ولكن الانتفاضة هي التي منحته الحياة. فتبنته "لجنة التنسيق اللاعنفية للطلاب" (SNCC) التي كانت تنظم منذ عام 1960 الاعتصامات في المطاعم والمحلات التجارية. وكانت هذه اللجنة بقيادة راب براون الذي كان يقود حملة ضد حرب فيتنام وهو صاحب مقولة "العنف هو من انتاج أمريكي كما حال فطيرة الكرز"، وكان يطلب من السود بتصويب بنادقهم ضد الحكومة. وقاد اللجنة ايضا ستوكلي كارمايكل، وهو ناشط شاب في الحقوق المدنية اعتقل عشرات المرات خلال الاعتصامات و"رحلات الحرية" والمظاهرات السلمية.

وسرعان ما تم التنديد بـ"لجنة التنسيق اللاعنفية للطلاب" ليس فقط من قبل الصحافة، بما في ذلك صحافة الليبراليين البيض، ولكن أيضا من قبل الجمعية الوطنية لترقية الملونين. فشعار البلاك بور كان يتعارض مع سياسة الاندماج التي كانت تدافع عنها هذه الاطراف. ان شعار البلاك بور الذي لاقى نجاحا سريعا، كان بشكل ما امتدادا وتجذرا لحركة الحقوق المدنية. فبعد حصولهم على المساواة القانونية، بدأ السود بتوحيد صفوفهم لزيادة قوتهم الاقتصادية والسياسية. وعلى اختلاف تياراتها، كانت حركات البلاك بور تقع ضمن الحركة القومية السوداء، وليس ضمن حركة الصراع الطبقي. فـالبلاك بور لم تكن تطمح للإطاحة بسلطة الطبقة البرجوازية البيضاء - كما أنها لم تكن لديها الامكانية للقيام بذلك. وبشكل ما كانت تمثل أيضا مصالح البرجوازية الصغيرة السوداء التي باتت تريد جني حصتها. ولكن على أية حال، لم يكن هناك أية جهة فعالة تدافع عن وجهة النظر الثورية البروليتارية في الولايات المتحدة، ولم يكن هناك من يطرح على الحركة السوداء هذه السياسة. فكان لا مفر من ولادة الحس القومي لدى السود وذلك لأن الاضطهاد الذي عانوا منه كان يحمل دائما صورة الرجل الابيض. فاختلطت بذلك انتفاضة السود الاجتماعية ضد الاستغلال والبؤس مع انتفاضتهم ضد التمييز العنصري.

لكن نجاح البلاك بور كان يعبر عن شيء آخر غير الشعور القومي. فهو يعبر عن تجذر وعي وحراك الملايين من الرجال والنساء الذين بلغوا مستوى في التسييس وفي الانخراط في النضال، فجعلهم على استعداد لتلقي الضربات والمخاطرة بوظائفهم وبحياتهم. وكتب تيارنا السياسي في عام 1967 : "إن الولايات المتحدة [... ] تعيش حربا اجتماعية فتاكة وقد أخذت شكلها الأكثر راديكالية، ـ أي الانتفاضة المسلحة في المدن، وهو شكل كان قد اختفى من أوروبا منذ فترة طويلة وبدى أنه لن يعاود الظهور في البلدان ذات "المستوى المعيشي المرتفع". فالمشهد في واتس لا ينقصه غير المتاريس ليصبح مشابها إلى أحياء الماريه (Marais) الباريسي والـكرواروس (Croix Rousse) في مدينة ليون الفرنسية أبان انتفاضة عمال النسيج منذ أكثر من قرن".

وقد كان لطرح مسألة السلطة طابعا ثوريا، وهو ما لم تقم به الحركة العمالية الأميركية أبدا من قبل. ففي أحياء السود، كان النشطاء في حالة نزاع مع السلطات والشرطة. وأعلنوا عن عدم اعترافهم بالحكومة وعن رفضهم للدولة وجيشها وعدالتها. ولم يكن هؤلاء النشطاء عشرة أو مئة بل كانوا آلافا موزعين في العديد من المدن.

كما كانت البلاك بور تناضل ضد حرب فيتنام. وكانت هذه الحرب الرهيبة من فعل أقوى دول العالم والتي، تحت غطاء محاربة الشيوعية، قامت بالقصف المكثف على الشعب الفيتنامي بسبب رفضه الخضوع لها. وفي عام 1968، كان هناك نصف مليون جندي أميركي في فيتنام، من ضمنهم العديد من السود، ذلك لأن معظم الجنود الذين يخوضون الحرب كانوا من الطبقات الفقيرة. لكن الأمريكيين من أصل إفريقي كانوا يعارضون الحرب على نحو متزايد. وفي عام 1967، عندما رفض محمد علي كلاي الالتحاق بالجيش قائلا "ليس لدي أي عداء ضد الفيتكونغ (Vietcong)" و"أيا من الفيتناميين لم ينعتني يوما بكلمة زنجي"، فإنه كان يعبر عن شعور واسع النطاق بين السود. "لماذا يطلبون مني أنا، من بين الذين يسمونهم بالزنوج، بارتداء الزي العسكري للذهاب إلى 16.000 كم من بيتي لرمي قنابل وقذائف على رجال ملونين بينما السود هنا يعاملون مثل الكلاب ويحرمون من الحقوق الأساسية للإنسان؟". فتم جراء ذلك تجريد كلاي من لقب البطولة وسحبت رخصة الملاكمة منه لعدة سنوات. ولكن الملايين من السود كانوا فخورين بموقفه. وحتى مارتن لوثر كينغ المعتدل أدان في نهاية المطاف الحرب. كما أدى اغتيال لوثر كينغ في عام 1968 إلى التمرد في عشرات المدن، ليس الواحدة تلو الاخرى، بل في نفس الوقت. فأعلن الرئيس جونسون تدخل الجيش والحرس الوطني ليقوم بقتل العشرات من "العصاة" وأصيب آلاف آخرون بجروح. كان هذا فشل للإصلاحية واللاعنف : فسياسة "محبة العدو" و"الكشف عن الخد الآخر" بدت دون جدوى.

وفي جميع أنحاء العالم، دفعت سياسة الولايات المتحدة في فيتنام إلى خروج الملايين من الناس إلى الشوارع. فاجتاحت الاحتجاجات أجزاء كبيرة من العالم، وكانت الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. إسبانيا، إيطاليا، بلجيكا، اليابان، مصر، ألمانيا، بولندا، جميعها شهدت حركات احتجاجية خاصة بين الطلاب، ولكنهم لم يكونوا الوحيدين. ففي أيار/ مايو عام 1968 جاء الإضراب العام في فرنسا، وفي تشيكوسلوفاكيا، دفع ربيع براغ الجيش الروسي للتدخل. وفي المكسيك قام الجيش بقتل مئات المحتجين.

الفهود السود (البلاك بانتر)

كانت البلاك بور إذا حركة جذرية. وإحدى منظماتها، وربما الأهم، كانت حزب الفهود السود الذي أسسه هيوي نيوتن (Huey Newton) وبوبي سيل (Bobby Seale) في مدينة اوكلاند الكاليفورنية في عام 1966. وكان "حزب الفهود السود للدفاع عن النفس" ينخرط ضمن تقليد مالكوم إكس، بالرغم من عدم ادعائه الهوية الإسلامية. كما كان ناشطوه يبيعون "الكتاب الأحمر الصغير" لماو تسي تونغ، وكانوا يحاولون خلط الماركسية بالقومية السوداء مع كل التناقضات التي تترتب على ذلك. كما كانوا ينددون بحرب فيتنام ويشرحون بأن الحملة الصليبية الأمريكية التي تشن في العالم بإسم الحرية ما هي إلا قناع نفاق في الحقيقة هدفه سحق حركات تحرر الشعوب. وكانوا يجندون الناشطين من بين شباب الغيتوات الاكثر فقرا، فكانوا يمنحونهم الفخر والكرامة مع نمط في اللبس كان يميزهم : زي من الجلد الأسود مع قلنسوة وكفوف سوداء ونظارة سوداء. وكانوا يحملون السلاح بهدف "ضبط" شرطة أوكلاند التي كانت شرسة وعنصرية. فإذا ما أقدمت الشرطة على اعتقال أسود، فإنهم كانوا يظهرون بالمرصاد ويقرؤون مقتطفات من القانون الجنائي مما يجبر الشرطة للتراجع عن اعتقاله لتجنب الحرج. فلاقوا نجاحا سريعا وكبيرا، ففي أربع سنوات، نظموا فصائل في أكثر من 68 مدينة تضم آلاف الأعضاء. وسرعان ما تورطوا في عدة حوادث اطلاق نار مع الشرطة. كما شكلوا ميليشيات صغيرة قامت بعمليات ابتزاز أموال وضرب وحتى قتل المخبرين والمعارضين. فكانوا يتحدون جهاز الدولة بشكل ما، كما حصل في أيار/ مايو 1967 عندما أقدموا على اقتحام مسلح لمجلس ولاية كاليفورنيا. فكلفهم هذا الهجوم ردا شرسا حيث ألقي القبض على عدة مئات من النشطاء في عام 1969، كما قام مكتب التحقيقات الفدرالي بتصفية العديد منهم، كزعيمهم في شيكاغو، فريد هامبتون، الذي اغتيل في سريره في عملية مداهمة قامت بها الشرطة. وتم أيضا فبركة العديد من الأدلة والتهم المزورة لتحييد الآخرين. ونظم برنامج الاستخبارات كوينتلبرو (COINTELPRO) الذي كان قد أنشئ في عام 1950 ضد الشيوعيين، مئات العمليات ضدهم.

وفي الأشهر التي تلت ذلك ايضا، شهدت السجون، التي كان يقبع العديد من الشباب السود فيها، احتجاجات تحت راية البلاك بور. ففي عام 1970، في سجن سوليداد في كاليفورنيا، تم قتل أحد حراس السجن. وكان جورج جاكسون من بين الرجال الثلاثة الذين اتهموا بقتله، حيث كان يطلق عليهم إسم "الأخوة سوليداد". وجاكسون، ذو الـ28 عاما، كان يقبع في السجن منذ عشر سنوات بعد ان حكم بسبب قيادته سيارة كان يريد الهرب بها مع صديق له بعد سرقة الأخير 70 دولارا من محطة وقود - وكانت هذه مسيرة العديد من غيره من الشباب الافروـ أمريكي. وأنتهى أمر جورج جاكسون بأنه قتل في السجن بعد عام واحد، قبل أن تبرئ المحكمة الاخوين سوليداد الاخرين. وفي عام 1971، نشبت حركة تمرد في سجن أتيكا في ولاية نيويورك خلفت 39 قتيلا. وتم ملاحقة أنجيلا ديفيس ضمن قضية "الاخوة سوليداد"، وهي كانت أستاذة فلسفة شابة في جامعة كاليفورنيا، وعضوا في الحزب الشيوعي وفي الفهود السود. وقد حاولت إدارة الجامعة فصلها في عام 1969، أثناء حملة تعيينات بناء على طلب حاكم الولاية آنذاك، رونالد ريغان، الذي أصبح في وقت لاحق رئيسا للولايات المتحدة. لكنها لم تنجح حيث أمرت المحكمة بإعادتها إلى منصبها. وبعد اتهامها في عام 1970 بتهريب الأسلحة التي استخدمها الأخ الأصغر لجورج جاكسون لتنفيذ عملية احتجاز رهائن في محكمة، قام مكتب التحقيقات الفدرالي بتعقبها والقبض عليها. فقامت على أثر ذلك حملة واسعة لإطلاق سراحها وسراح جميع السجناء السياسيين، وتمت تبرئتها في عام 1972.

لكن حركة السود كانت قد بدأت بالانحسار. وبات حزب الفهود السود تشوبه الانقسامات الداخلية وتسحقه الضربات التي تلقاها من مكتب التحقيقات الفدرالي. وتمكنت منظمات أخرى من المقاومة بشكل أفضل، ولكنها أخذت مواقف أكثر وسطية، كما هو حال "أمة الاسلام"، حيث فقدت طابع التمرد والعصيان الذي ميزها أيام مالكولم اكس. فكانت تسهر في الحفاظ على مواقعها متجنبة المواجهة مع السلطة وتابعت الترويج لبرنامجها "الرأسمالية السوداء"، رأسمالية هي الاخرى غير عادلة، مع فارق أن السود لديهم نفس الفرص المتاحة للبيض. وأصبحت أمة الاسلام معتدلة أكثر فأكثر لينتهي بها المطاف بأن تفقد شعبيتها لدى الجزء الأكثر تمردا من السود، ولا سيما الشباب.

الانتفاضة السوداء، فرصة ضائعة ؟

وهكذا كانت نهاية حقبة دامت عدة سنوات كافح خلالها الملايين من الرجال والنساء الرافضين للخضوع : في الجنوب وفي الشمال كان هناك العمال وسكان الغيتوات وكذلك فئات يصعب في العادة تنظيمها كمستأجري الاراضي الزراعية والعمال المنزليين، من النساء والرجال والمراهقين وحتى الأطفال. إن غضبا كهذا هو الذي يغذي الثورات. فحتى اللاعبين الرياضيين أدخلوا الانتفاضة إلى داخل المجمعات الرياضية التي من المفترض أن تكون معقلا محايدا، كما حصل ذلك خلال دورة الألعاب الأولمبية في المكسيك في عام 1968 عندما رفع العداءان تومي سميث وجون كارلوس قبضتيهما، منحنيا الرأس، من أعلى المنصة، أثناء النشيد الوطني الأمريكي، كتعبير عن غضب شعب بأكمله. كما أن عمق هذه الانتفاضة هو الذي يفسر القمع العنيف الذي تعرضت له والذي كان بحجم الخوف الذي ولدته في نفس الطبقة البرجوازية.

ونظرا لدور الولايات المتحدة في العالم، كانت انتفاضة السود متابعة من قبل المضطهدين في جميع البلاد. فمنذ نشأتها، كانت محل اهتمام في أفريقيا السوداء بشكل خاص، حيث كانت عدة شعوب تكافح ضد الهيمنة الاستعمارية، وكان بإمكانها وبسهولة ربط نضال السود الأميركيين بنضالها. ولا يقتصر الأمر على أفريقيا السوداء. فعندما قامت الحكومة الأمريكية بتجريد محمد علي كلاي من حزام البطولة، خرج عشرات الآلاف من المصريين إلى شوارع القاهرة للاحتجاج. وكما كتب تيارنا في مجلة النضال الطبقي في عام 1967، كانت الانتفاضة السوداء "أملا للبشرية جمعاء" (انظر الملحق). فلو تمكن السود من اجتذاب الطبقة العاملة البيضاء للانخراط في النضال، فإن الرأسمالية الأمريكية، حارسة النظام الإمبريالي، لاهتزت وتزعزعت بأكملها. بدون ثورة أميركية، لا يمكن تحقيق الاشتراكية على صعيد العالم، ولن يكون هناك تحرر وطني في البلدان المضطهدة من قبل الامبريالية. أما لو امتدت انتفاضة السود إلى بروليتاريا البيض، فإن كل شيء كان سيصبح ممكنا. ولهذا السبب كان لانتفاضة السود أهمية مميزة في هذا السياق.

ولكن السود كانوا يشكلون فقط 8/1 سكان الولايات المتحدة وربما 5/1 الطبقة العاملة. أما في مدينة ديترويت الكبيرة لتصنيع السيارات، أصبح السود يشكلون الأغلبية، خصوصا في الوظائف الأقل مهارة. إن تمرد وحراك خمس الطبقة العاملة خلال خمسة عشر عاما يشكل أمرا هاما. وكان للطابع الجماهيري للنضال، الذي كان يأخذ منحى انقلابيا في بعض الأحيان، عواقب على المجتمع بأسره. ولذلك فالرهان كان بمعرفة مدى إمكانية انتشار هذه الانتفاضة إلى العمال البيض الذين كانوا أيضا مستغلين من قبل نفس الرأسماليين. في هذه الحالة، كان سلطة الدولة نفسها ستصبح مهددة.

ولكن ذلك لم يحصل. لقد كان البروليتاريون السود على العموم أكثر تصميما وأكثر تمردا من البيض، وكانوا أيضا أكثر وعيا على المستوى السياسي. لقد رأينا كيف حرصت البرجوازية الأمريكية على ألا يتحقق الاتحاد بين السود والبيض الفقراء. وكان ذلك الحال خلال حركة الحقوق المدنية وخلال تمرد سنوات الـستينيات. فقد اعتمدت البرجوازية دائما على العنصرية التي كانت موجودة في الطبقة العاملة، انطلاقا من أن العديد من العمال البيض كانوا يشعرون بالحياز على امتياز ما يجب الحفاظ عليه، كون حالتهم كانت أقل سوءا من السود.

وعلى الرغم من هذا، فقد خاض العمال البيض والسود عدة معارك نضالية جنبا إلى جنب. فعلى سبيل المثال، أثناء انتفاضة ديترويت في عام 1967، انضم البيض الفقراء من الجنوب ومن بولندا إلى المتمردين السود، وشكلوا ربع ضحايا القمع. وحصل نفس التحالف في العديد من الإضرابات المحلية الأخرى، وكذلك ضد حرب فيتنام خاصة في صفوف الجنود. كان هذا دليلا على أن سياسة موجهة بهذا المنحى كان بإمكانها أن تلقى صدى.

إن فشل الوحدة بين السود والبيض الفقراء يعود قبل كل شيء إلى غياب حزب عمالي يناضل في هذا المنظور. إذ لم يكن هناك في الولايات المتحدة حزب ثوري ولا حتى حزب عمالي مستعد لخوض الكفاح. وإذا كان من الممكن لحزب كهذا أن يتعزز في حالة كالانتفاضة السوداء، إلا أنه لا يمكنه أن يولد بطريقة عفوية. لقد رأينا كيف أن الحزب الشيوعي قد انقطعت صلته مع السود بسبب سياسته خلال الحرب العالمية الثانية، وقد أضعفه في وقت لاحق القمع المكارثي في الـخمسينيات. أما قادة المنظمات العمالية الرئيسية، كنقابات الـCIOـAFL، الناجمة عن اندماج أكبر اتحادين نقابيين، فإنهم بالطبع كانوا يحاربون هكذا توجه في الطبقة العاملة.

على المستوى المحلي، كانت هناك منظمات صغيرة حددت منظورها بالنضال المشترك داخل الطبقة العاملة. كان هذا على سبيل المثال حال حزب العمال الاشتراكي SWP، الذي كان التنظيم التروتسكي الرئيسي، حتى ولو كان يشوبه تبعية نحو القوميين، وكان على أي حال ضعيفا جدا للتمكن من لعب دور على المستوى الوطني. وبطريقة أخرى، كان هذا ايضا حال رابطة العمال الثوريين السود، مجموعة تأسست في عام 1969 في ديترويت، عاصمة صناعة السيارات. وخلافا لمنظمة الفهود السود، فإن نشطائها كانوا يحاولون التواجد داخل المصانع، وليس بين الشباب المنحرفين اجتماعيا، وكانوا يريدون بناء حزب عمالي ثوري. كانوا متأثرين بالماوية وبالقومية السوداء، ولكنهم أرادوا إعطاء مضمون طبقي لانتفاضتهم. فكانوا مقتنعين بضرورة الاعتماد على الطبقة العاملة بهدف تهديد البرجوازية.

ولكن على الصعيد الوطني، لم يكن هناك أي حزب قادر على اقتراح خط سياسي كهذا. ولهذا السبب، كان تيارنا يكتب في ذلك الوقت: "إن الخطوة الأساسية الأولى هي إنشاء تنظيم ثوري للسود، مستقل بشكل صارم وعلى جميع الاصعدة على المستوى الوطني عن المنظمات الأمريكية التي يشارك فيها البيض [...] وبما أن جمهور السود لديه مستوى أعلى من الوعي، يتوجب تأسيس حزب ثوري تروتسكي، تنظيم حقيقي لقيادة معركة السود الأمريكيين. "كان بإمكان حزب كهذا، انطلاقا من انتفاضة ووعي السود، التوجه بالخطاب إلى الطبقة العاملة البيضاء للمضي بها قدما، وتحسين وعيها السياسي. إن هكذا سياسة لو اقترحت، لواجهت بالطبع العديد من العقبات، ولكن المشكلة أنها لم توجد أصلا. فبقيت انتفاضة السود معزولة في مواجهة سلطة البرجوازية والدولة الأمريكية.

من تراجع السنوات 1970 إلى اليوم

بين الأزمة الاقتصادية والأزمة الاجتماعية

طالت الأزمة الطبقة العاملة بأكملها. فأزمة الرهون العقارية العالية المخاطر ترتب عنها نحو 6 ملايين عملية حجز أملاك، وهذا خلف ما يوازي هذا العدد من عائلات مضطرة للعيش في سيارتها أو في مآو مؤقتة او في الشارع. وكانت الشركات العقارية قد استهدفت بهذه القروض الفقراء والسود على وجه الخصوص. ثم أسفرت الأزمة بتدمير الملايين من فرص العمل وزيادة كبيرة في معدل البطالة. مرة أخرى، تأثرت كل فئات الطبقة العاملة بذلك. وإذا كان مستوى البطالة الرسمي قد انخفض الآن، فذلك أيضا لأن الملايين من العاطلين عن العمل قد توقفوا عن تسجيل أنفسهم في لوائح البطالة، لأسباب مختلفة. وبهذا الخصوص، فقد كانت الأمور أكثر أسوأ بالنسبة للسود. فرسميا، تبلغ البطالة عند السود ضعف نسبتها لدى عموم السكان. في الواقع فأنها تبلغ حدود الـ 50% لدى الشباب السود، وحتى مستوى الـ 70% لدى اولئك الذين ليس لديهم شهادة الدراسة الثانوية.

وتكسب العائلة البيضاء كحد وسط ضعف ما تكسبه العائلة السوداء. ويبلغ معدل الفقر لدى السود ثلاث أضعافه لدى البيض، أي كما كان الحال في أعوام الـ 1960. كما شهد الملايين من الناس انخفاض قيمة ممتلكاتهم، وكان ذلك بأعداد أكثر لدى السود منه لدى البيض. ويبلغ الحد الوسط لمعدل الثروات العائلية لدى البيض ستة أضعاف معدلها لدى العوائل السود. وفي الولايات المتحدة، فإن حيازة المرء لبعض الأملاك لايعتبر مرادفا لليعيش بترف ونعيم ؛ فالحوزة على بعض المدخرات قد يكون ضروريا على سبيل المثال، لدفع تكاليف التعليم العالي لأبناء او لدفع نفقات العلاج الطبي أو عملية جراحية. باختصار فقد شهد السود تدهور لمستوى معيشتهم لم يسبق لها مثيل منذ أزمة أعوام الـ 1930.

وقد أدت الأزمة الاقتصادية أيضا إلى خسائر في المالية العامة للعديد من المدن وإلى هجوم وخسائرواسعة في التعليم العام من خصخصة وتخفيضات في الميزانية وإغلاق للمدارس وتسريح للمدرسين وكذلك موظفي المدارس وإلى تدهور الأوضاع المادية للتعليم (حول هذا الموضوع : انظر الى مقالة "الولايات المتحدة ـ خصخصة المدارس : هجوم ضد الطبقة العاملة"، النضال الطبقي، رقم 133، شباط / فبراير 2011). وخلافا للبرجوازية التي يمكنها الاستفادة من الخصخصة المتفاقمة للنظام التعليمي، فان الطبقات الشعبية ليس لديها سوى خيار إرسال أطفالها إلى المدارس العامة. وبما أن المدارس يتم تنظيمها وتمويلها بشكل اساسي على المستوى المحلي، فان المؤسسات التعليمية للاحياء الغنية تحظى بتمويل أعلى بكثير لطلابها من تلك المتوجدة في الأحياء الفقيرة، وحتى عندما يكون مستوى الضريبة المفروض على الاخيرة مرتفعا، كما هو الحال وبصورة عامة عادة. ويعيش السود بمعظمهم في الأحياء الفقيرة. وتنفق الدولة على الأطفال السود الفقراء في المدن الكبيرة أقل من ثلث ما تنفقه على الأطفال البيض في الأحياء الغنية. ان قلة الموارد يعني ارتفاعا لعدد الطلاب في الصفوف. وتفتقر المدارس لتجهيزات تحصل عليها مدارس الاحياء الغنية. وتدفع مدارس الأحياء الشعبية تدفع أقل اجرا لمدرسيها الأقل مهارة وتحصيلا والأقل عددا، مع تواتر فترات مهمة دون تواجد مدرس على الاطلاق. ذلك بالاضافة للحالات العديدة حيث تقوم المدن التي تواجه صعوبات مادية باغلاق المدارس بكل بساطة، وتفصل المدرسين، لتعيد في بعضالاحيان توظيف اخرين دون دورات تدريبية وبالتالي اقل تكلفة.

ان حصيلة هذه الفوارق تظهر ان 54٪ فقط من الشباب السود يستكملون التعليم الثانوي مقابل 75٪ من البيض. وإذا كان 14٪ من البالغين البيض أميين عمليا، فهذا الأمر يطال 38٪ من السود. فكيف يمكن أن يكون الواقع مختلفأ عن ذلك ؟ فيموت شاب أسود من أصل عشرة قبل بلوغه الـ 18 عاما : بعضهم نتيجة المرض ونقص العلاج المناسب، بسبب فقرهم، والبعض الآخر مقتولين على يد عنصري أو على يد الشرطة، وغيرهم ، وهم الأغلبية، مقتولين على يد شبان سود.

السجن كأفق

وإذا تمكن قسم من السود من الاستفادة من عملية الاندماج في المجتمع الامريكي، إلا أن الكثير منهم قد تعرض أيضا إلى اضطهاد واسع وأتخذ ذلك أشكالا مختلفة، بما في ذلك القتل على أيدي الشرطة. وجانب آخر من هذا الوضع المأساوي، ولا سيما لدى الشباب، هو ادخالهم السجن. وكان هذا خيارا سياسيا منذ نيكسون في سنوات الـ 1970 وصولا إلى بوش، مرورا بريغان وكلينتون. فكان الأمر يتعلق بضرورة الانتهاء من ظاهرة تواجد الشبان السود في الشوارع. وأمام فشل الحكومات المتعاقبة بتأمين عمل لهم، اختارت وضعهم في السجون.

فتم سجن العديد منهم لارتكابهم جنحات. ربع هؤلاء كان بسبب مخالفات متعلقة بالمخدرات، دون ارتكاب أعمال عنف. وأربعة أخماس الحالات كانت بسبب استهلاكهم أو حيازتهم على المخدرات، دون حتى المتاجرة بها. في عام 1980، كان هناك 41000 سجين بسبب مخالفات مرتبطة بالمخدرات، في حين يبلغ عددهم الآن نصف مليون. ويشكل السود الثلثين.

فمنذ السبعينيات، أعلن نيكسون أن المخدرات هي "العدو الأول للشعب". ففي حين كانت المخالفات بطور الانخفاض، أعلن ريغان "الحرب على المخدرات"، موضحا أن ذلك يشكل تهديدا للأمن القومي. وفي الوقت نفسه، في الثمانينيات، أغرقت وكالة الاستخبارات المركزية غيتويات السود بمادة الكراك المخدرة، واستخدمت في سبيل ذلك الأموال التي كانت مخصصة لتمويل الميليشيات المناهضة للشيوعية في نيكاراغوا. وفي عام 1986، أصدر الكونغرس قانون مكافحة تعاطي المخدرات (Anti Drug Abuse Act)، والذي زاد من قساوة العقوبات على الكراك : ففي حين كان بيع 500 غراما من الكراك يؤدي الى خمس سنوات سجن الزاميا في الماضي، أصبح بيع 5 غرامات كافيا للادانة بنفس العقوبة. كما وضع هذا القانون حدا أدنى للعقوبات بخصوص الماريجوانا، وكان البعض يروج لسياسة "عدم التسامح". وخلال التسعينيات أقرت عدة ولايات، بدء بولاية كاليفورنيا، قوانين سميت بالـ "الثلاث ضربات" (three strikes and you're out)، في إشارة إلى قاعدة في لعبة البيسبول. مبدأ هذه القوانين، على اختلافها، هو امكانية معاقبة ثالث جرم بالسجن مدى الحياة، وذلك دون إمكانية الإفراج المشروط خلال 25 عاما. فأدت هذه القوانين في كثير من الأحيان إلى ادانات عبثية وقاسية، كإدانة كورتيس يلكرسون الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة (25 عاما الزاميا) في عام 1995 بسبب كونه مدانا مرتين بتهمة السرقة في عام 1981، عندما كان عمره 19 عاما، بعد سرقة زوج من الجوارب بقيمة 2.5 دولار.. وكذلك حكم على جيري ديواين وليامز بالسجن لمدة 25 عاما بعد سرقة قطعة من البيتزا.

كمعدل، يمضي الشاب الأسود الآن أكثر وقتا في السجن منه في الجامعة. وتقوم الولايات المتحدة بسجن جزء مهم من سكانها يفوق أي بلد آخر في العالم. فمع الـ 2.3 مليون سجين، حطمت "أرض الحرية" كل الأرقام القياسية. ففي حين أن سكانها يشكلون 4.5٪ من البشرية، تستحوذ الولايات المتحدة على 23٪ من السجناء في العالم، حسب الإحصاءات. وفي حين أن السجون مليئة في فرنسا، يبلغ عدد السجناء في الولايات المتحدة، نسبيا، سبع مرات أكثر منه في فرنسا. ويشكل السود 45٪ من السجناء في الولايات المتحدة. وكمعدل، يدخل رجل أسود من أصل ثلاثة (مقابل رجل أبيض من أصل 17) السجن مرة واحدة على الأقل في حياته.

والسجن مليء بالهوائل والبشاعات. فمدة الأحكام بالسجن طويلة جدا، أكثر من أي بلد متحضر، بما في ذلك ما يخص الشباب الأقل سنا. فهناك أكثر من 500.2 من الأحداث يتراوح معدل أعمارهم الـ 16 عاما، يقبعون في السجن لمدى الحياة دون إمكانية للعفو، مبعدين بذلك عن المجتمع. ففي كل يوم يتواجد 50.000 سجين في سجن انعزالي حيث يمكث العديد منهم لعدة سنوات، وهو شكل من التعذيب : ولايمكنهم أحيانا الاتصال بالسجناء الآخرين ولايزورهم أحد، ولايرون التلفزيون ولايستمعون الى الراديو. ولا يمكنهم المطالعة، سوى الكتاب المقدس أحيانا. ولا يسمح لهم بالكتابة إلا قليلا في بعض الأحيان. استراحتهم الوحيدة تتلخص بإمكانية ممارسة التمارين الرياضية خارج الزنزانة لمدة ساعة واحدة يوميا. ثم هناك عقوبة الإعدام التي طالت 1389 سجينا منذ أن أعيد تطبيقها في عام 1977، وما يزال 3070 مدانا آخرا بانتظار تنفيذ حكم الإعدام، ومعظمهم من السود، ومنهم أبرياء في بعض الأحيان وقعوا ضحية تحقيقات أو محاكمات مزورة.

كيف ولماذا يتواجد هذا الحشد من الناس في السجن؟ هنالك الأسباب السياسية التي أشرنا إليها، وكذلك أسبابا اجتماعية. إن هذه الكارثة قد بدأت بالتضخم في السبعينيات - حيث عدد السجناء أقل بخمسة أضعافه مقارنة باليوم. فالطبقات الشعبية الأمريكية قد تضررت بشدة جراء توالي فترات الركود الاقتصادي وفي كل مرة هناك انخفاض في الإنتاج وإغلاق لمصانع وتسريح لعمال وارتفاع في معدلات البطالة. وكان السود دائما أول ضحايا هذا التدهور. وأدى ذلك الى أن مئات الآلاف بل الملايين من السود أصبحوا دون أفق في الحياة.

إن ما آلت إليه مدينة مثل ديترويت بولاية ميشيغان، ذات الغالبية السوداء، والتي فقدت تدريجيا فرص العمل في مجال الصناعة، يشكل رمزا لما طال السود : فبعد أن بلغ عدد سكانها 1.5 مليون نسمة في عام 1970، هبط العدد إلى 713.000 عام 2010، ولم يبق للباقين فيها أي أفق سوى العيش بفضل أعمال ووظائف صغيرة ومؤقتة أو البطالة واقتراف الجنحات. بالنسبة لكثير من هؤلاء الشباب الذين لا يمنحهم المجتمع أي أفق، يصبح السجن محطة متكررة خاصة وأن أسباب الحبس كثيرة وتافهة.

في السنوات الأخيرة، تراجعت بعض الولايات قليلا عن هذه القوانين القمعية. فسياسة السجن هذه مثيرة للاستياء وعبثية بعض الشيء، وذلك حتى من وجهة نظر المجتمع البرجوازي. أولا، بسبب التكلفة عالية جدا التي يتطلب بناء مئات السجون، ذلك وإن كانت بعض الشركات الكبيرة تستفيد من تشغيل السجناء مقابل أجور زهيدة. كما أن هذه الساسة القمعية قد بلغت أقصى حدودها دون أن تقل نسبة ارتكاب الجرائم. فأولئك الذين دخلوا السجن بسبب جنحة صغيرة، طالما ما يصبحون، لدى خروجهم منه، مجرمين متمرسين. وفي عام 2010، خفض الكونغرس عقوبة السجن الاجبارية بسب مخدر الكراك، ومنذ ذلك الحين، خففت العديد من الولايات من مستوى عقوباتها مما أدى إلى تخفيض عدد السجناء. ولكن لا يزال هناك في السجن مئات الآلاف من مرتكبي الجنح الصغيرة، والأزمة الاقتصادية تدفع إلى زيادة الجريمة وبالتالي الإدانات.

وبعيدا عن السجون، إن لسياسة السجن الواسعة النطاق لمرتكبي الجنح الصغيرة نتائج على المجتمع بأسره. فان ثلثي الأطفال السود يكبرون في أسر ذات معيل واحد. كما أن السجناء غير مسموح لهم بالتصويت في الانتخابات، أما أولئك الذين أدينوا بارتكاب جرائم فيحرمون، في العديد من الولايات، من حقوقهم المدنية مدى الحياة. وبالتالي يحرم ما يقرب الستة ملايين أميركي من حق التصويت، ويطال هذا الحرمان السود سبع مرات أكثر من بقية السكان، بمعدل واحد من أصل ثلاثة عشر. وفي عام 1998، في عهد كلينتون، صوت الكونغرس على حظر المنحة الدراسية الجامعية على المدانين بجرم متعلق بالمخدرات. ويطال هذا الحظر عشرات الآلاف من الشبان، وأحيانا بسبب حيازة كمية بسيطة من الماريجوانا فقط (ولكن هذا الحظر لا يطال المغتصبين ولا القتلة). وفي عهد كلينتون أيضا، قرر الكونغرس طرد هؤلاء من مساكن الدولة التي تمولها الحكومة الفدرالية. وهذا يعني أن السجين إذا ما أطلق سراحه وجاء للعيش مع زوجته وأطفاله، فإنه يعرض عائلته لإمكانية الطرد من منزلها. كما حظرت عدة ولايات على أصحاب السوابق من الحصول على المساعدات الاجتماعية والغذائية، وتطلب عدة ولايات من السجناء السابقين بدفع تكلفة سجنهم. وفي سوق العمل، من الشائع أن تتضمن استمارات الطلب على حقل بعنوان "أدين بتهمة جنائية" (convicted for felony) والتي تشكل عائقا كبيرا للحصول على عمل. وباختصار، فإن حيازة المرء، ولو لمرة واحدة في حياته، على بضعة غرامات من الكراك، تعرضه ليس فقط للإدانة، بل أيضا لحرمانه، بعد خروجه من السجن، من إمكانية إعادة الانخراط في الحياة الاجتماعية. فلا يبق لديه أمل في كسب لقمة عيشه غير... التورط من جديد بارتكاب الجنح والعودة إلى السجن.

والآن ؟

إذن، وفي الختام، ما هي آفاق السود الأمريكيين اليوم ؟ اليوم، وبعد ستين عاما على مقاطعة حافلات مونتغومري، يعيش عدد كبير من السود في أحياء يشكلون فيها الأغلبية. وإذا كان التمييز العنصري قد تراجع في أشكاله الاكثر سوء ووحشية خلال سنوات الـ 1960 والـ 1970، فذلك تم بفضل الثورة العظيمة التي اجتاحت أقوى دولة في العالم. وقد واجهت الحركة السوداء القمع الشديد، ليس فقط في الجنوب ولكن في جميع أنحاء البلاد، مع اعتقال العديد من النشطاء وسجنهم وحتى تصفيتهم من قبل الدولة وزبانيتها. وحتى اليوم، وبعد مرور 40 عاما، مازال النشطاء يدفعون حريتهم كثمن لتحديهم السلطة، مثل ناشط الفهود السود ألبرت وودفوكس المسجون في زنزانة انفرادية منذ 43 عاما والذي رفضت للتو ولاية لويزيانا الإفراج عنه. كذلك هو حال موميا أبو جمال القابع في السجن منذ عام 1981 بسبب جريمة قتل هو بريء منها. وقد دفع كثيرون حياتهم ثمنا لذلك. واليوم قد تم تصفية جزء من كوادر الحركة السوداء في حين أن البعض الآخر محبطون معنويا، وماتبقى قد أندمجوا في جهاز الحزب الديمقراطي. في المقابل، لا يزال هناك جمعيات حقوق مدنية كجمعية الـNAACP وشبكة العمل الوطني. كما يوجد هناك العديد من الكنائس السوداء وكذلك أمة الإسلام. وأخيرا، ما زال هناك وعي أسود ناتج عن التجارب المشتركة من العنصرية والتمييز والاحداث التاريخية أيضا. وهذا ما أظهره الحراك الحاصل في الأشهر الأخيرة.

ولكن لا يمكن للمرء الحديث عن حركة سوداء مماثلة لحركة أعوام 1950 و1960 والتي مثلت نموذجا لسائر الطبقة العاملة الأمريكية وللمضطهدين في جميع أنحاء العالم. لقد كانت انتفاضة واسعة ضد الاضطهاد العنصري، ولكنها قامت أيضا بهز السلطة الأمريكية القوية، وذلك مع عفوية الانتفاضة بشكل عام. كان السود بطريقة أو بأخرى نقطة ضعف الرأسمالية الأمريكية. ولقد سمحت انتفاضتهم بالحصول على كرامتهم وكذلك أيضا على بعض الحقوق الديمقراطية الأساسية التي توافق برجوازية الدول الغنية على منحها لتفادي مخاطر حصول ثورة حقيقية. ففي مواجهة عنف سلطة الدولة رد السود مستخدمين العنف الخاص بهم. وإذا لم تتحول انتفاضة أعوام 1960 إلى ثورة، فذلك يعود لأن السود المتمردين لا يمكنهم بقواهم فقط تدمير السلطة البيضاء، سلطة البرجوازية. كانوا يمثلون القسم الاكثر كفاحا والأكثر وعيا للطبقة العاملة، ولكن العمال البيض بمعظمهم لم يشاركوا في الانتفاضة السوداء. لم يشاركوا في الانتفاضة كنضال مشترك ضد الرأسمالية. وبغياب الحزب الشيوعي الثوري، لم تقترح أية جهة سياسة ذات ثقل منظوركهذا، وهو منظور لا يمكن ارتجاله.

واليوم، لا يزال الـ 40 مليون أميركي من أصل إفريقي يمثلون جزءا كبيرا من الطبقة العاملة الأمريكية. وكما أظهرت الحراكات التي أعقبت جرائم القتل العنصرية في فيرغسون وبالتيمور، فإن لديهم وعي أكثر للقمع وللاستغلال مقارنة مع باقي العمال. ولكن ذلك لا يمنع من وجود الأوهام ـ وهي كثيرة بخصوص أوباما - ولا من تحطم المعنويات، خصوصا بين أولئك المهمشين من قبل المجتمع. ولكن الوعي بالانتماء إلى الطبقة العاملة، وبتعارض مصالحهم مع مصالح البرجوازية، هو أعلى لدى السود مقارنة مع البيض. فالسياق السياسي قد تغير في الولايات المتحدة. فعلى الطبقة العاملة الأمريكية مواجهة عقود من المساومات النقابية والتراجع فيما يخص ظروف العمل والتنظيم والتقاليدها النضالية ايضا. وإذا ما حدثت فورة غضب، يمكن للعمال السود بالتأكيد لعب دور قيادي فيها. ولكن بالنسبة لهؤلاء كما بالنسبة للعمال البيض، إن استرداد الحقوق المفقودة ووضع حد لتدهور الأوضاع المعيشية يتطلب إيجاد مسار نضال مشترك ضد الاستغلال الرأسمالي والدولة التي تجسده. فمواجهة النظام الرأسمالي يشكل السبيل الوحيد للتخلص من اضطهاد السود الأمريكيين بشكل نهائي، وكذلك لإنهاء اضطهاد العمال في العالم أجمعه عبر انهاء الاستغلال.

ملحق

نعيد نشر هذه المقالة المنشورة في 8 تشرين الاول / أكتوبر 1967 في مجلة الصراع الطبقي من قبل منظمة "الصوت العمالي"، وهي سلف منظمة "النضال العمالي" في فرنسا.

ثورة السود الأميركيين: أمل للبشرية جمعاء

منذ ثلاث سنوات والولايات المتحدة الأمريكية، القوة العالمية الاولى ومعقل الامبريالية، تعيش حربا اجتماعية فتاكة وقد أخذت شكلها الأكثر راديكالية، ـ أي الانتفاضة المسلحة في المدن، وهو شكل كان قد اختفى من أوروبا منذ فترة طويلة وبدى أنه لن يعاود الظهور في البلدان ذات "المستوى المعيشي المرتفع". فالمشهد في واتس لا ينقصه غير المتاريس ليصبح مشابها إلى أحياء الماريه (Marais) الباريسي والـكرواروس (Croix Rousse) في مدينة ليون الفرنسية أبان انتفاضة عمال النسيج منذ أكثر من قرن".

صحيح أن ما يحصل اليوم في الولايات المتحدة ليس انتفاضة عمالية ولكن تفجر لغضب ويأس للسود الذين لم يعودوا يتقبلوا الوضع المفروض عليهم. وهذا ليس تمردهم الأول، وقد سبق حدوث تمردات مهمة خلال الحرب العالمية الثانية.

في الحقيقة، إذا كان السود يكافحون بسبب عدم المساواة العرقية التي تعتبر القاعدة في الولايات المتحدة، فإن جذور هذا التفاوت تكمن في التقسيم الطبقي للمجتمع.

فإذا كان انتمائهم إلى أقلية عرقية مضطهدة يفسر مكوثهم في الأحياء الفقيرة ومعانتهم من الاستغلال المفرط في أسوء الوظائف وكون أغلبيتهم عاطلين عن العمل، إلا أن تقسيم المجتمع إلى طبقات هو ما وراء وجود الأجور الضئيلة والبطالة والمساكن الفقيرة. إن كل هذا لم يخترع خصيصا من أجل اهانة السود، بل إنه نتاج المجتمع الرأسمالي الصناعي. والتمييز العنصري لم يحضر سوى ليلون بالأسود طبقات البروليتاريا المستغلة بإفراط. ونحن نشهد نفس الظاهرة في أوروبا، مع الفرق الوحيد أن الطبقات الدنيا للبروليتاريا تتكون من البيض، ولكن "الأجانب" كالإسبان والبرتغاليين والأتراك والعرب.

ففي مجتمع قائم على استغلال الإنسان للإنسان، ومهما كانت درجة قساوة الاستغلال، فمن غير المستحسن التميز بخصوصية ما كالعرق أو الدين أو العرف. فالطبقة الحاكمة سوف تجد سريعا مبررا بيولوجيا أو دينيا أو قانونيا للوضع الذي تفرضه على الطبقات الأخرى.

وإنه بالتحديد كون التقسيم الطبقي للمجتمع هو المسؤول عن ما يعيشه السود، تشكل انتفاضة هؤلاء تهديدا للرأسمالية الأمريكية. فالبرجوازية الأمريكية لايمكنها أن تفعل شيئا للسود. فلإزالة المشكلة، فإنه سيتعين عليها أن تكون قادرة على القضاء على الاستغلال المفرط، وعلى الأحياء الفقيرة وعلى البطالة، أي القول بإزالة نفسها. ولنستشهد فقط، من اجل التذكير، بالعنصرية المتأصلة في جهازها القمعي.

وبطبيعة الحال، فإن السود لا يكافحون للقضاء على البطالة، ولكنهم يكافحون كي لا يصبحوا ضحاياه الرئيسيين، وحتى لا يشير لون بشرتهم تلقائيا الى الشخص الذي يجب أن يطرد من العمل أو الذي لن يتم تعيينه. ولكن ذلك أمر مستحيل في المجتمع الأميركي، ما دام هناك عاطل واحد عن العمل. فالانقسام الطبقي موجود بغض النظر عن الاضطهاد العنصري، ولكن عندما يكون هناك تقسيم عنصري حيث هناك اضطهاد اجتماعي، فإن الاضطهاد الاجتماعي يأخذ بالضرورة تلك المسارات، السهلة والمكرسة من خلال الممارسات، للاحكام المسبقة العنصرية وكراهية الأجانب. وتتخلص من هذا القانون العام فقط الأقليات التي جعلها التاريخ حائزة بطريقة أو بأخرى على مزيد من الثقافة من الجماعة العرقية المكونة لغالبية السكان، أو أن التطور التاريخي جعلها تندمج بالطبقة المسيطرة.

وإنه حتما هذا التناقض بين مطالب السود واستحالة المجتمع الامريكي الاستجابة لها من جهة، والعنف الذي يلجئون اليه بشكل متزايد من جهة اخرى، ما يدفع "أصدقاء السود" في العالم للقول بان انتفاضتهم ليست "بناءة".

إذ كتب مراسل صحيفة نوفل اوبسرفاتر (Nouvel Observateur) مؤخرا : " راب براون (Rap Brown) ليس وحيدا بعنصريته وكراهيته وتعطشه اليائس والميؤوس منه للانتقام : إن أمريكا مليئة بأفراد كراب براون حيث يفكرون ويتكلمون ويتصرفون مثله. والبيض، أصدقاء السود الذين يناضلون منذ سنوات لأجلهم، يتفرجون على هذه الظاهرة بعجز ودون عزيمة".

إن هؤلاء البيض الذين كافحوا حتى الآن لصالح السود، مع النجاح الذي نعرفه، سوف يجدون دون أي شك تغيرا كبيرا باستسلامهم لهذا العجز.

لكن انتفاضة السود الأميركيين لربما هي، من بين كل احداث العالم، الحدث الاكبر أهمية لمستقبل البشرية.

فبعد أن كان استسلامها هو القاعدة، وبعد أن كانت المنظمات الأكثر نفوذا بينها هي المنظمات الإصلاحية مثل الـ NAACP التي كان ينادي قادتها باللاعنف، ها هي الجماهير السوداء منذ بضع سنوات تخرج الى الشوارع، ليس في سبيل التسول ولكن للنضال، والقادة الأكثر شعبية بينهم هم، على أمثال راب براون وكارمايكل، الذين يدعون لسياسة العنف. ومن المؤكد اليوم ان وعي السود بوضعهم قد تطور، فهم يعرفون بأن مطالباتهم القانونيه تواجه بالحيل القانونية، وبان مظاهراتهم السلمية تجابه بقمع الشرطة، وبان اللاعنف يواجه بالكلاب البوليسية على المسالمين. إنه الجهاز القمعي الأمريكي الذي وبحكم الضرورة قد خلق هذا الوعي لدى السود و وأدخل المجتمع الأمريكي برمته في طريق لن يخرج منه إلا بعد تحولات عميقة.

لكن يجب ألا يكون هناك وهم لدى الاشتراكيين. فإن ما أدركه السود هو أن ظلمهم يقوم على العنف، وأن العنف لا يمكن مجابهته إلا بالعنف، وأن هذا العنف الممارس ضدهم يعتمد على جهاز متخصص ألا وهو سلطة البيض، ولذلك فمن الضروري أن يكون للسود سلطتهم الخاصة، سلطة سوداء. إن هذا لأمر عظيم وفي غاية الاهمية، فهذا الوعي هو ثورة بحد ذاته عندما يطال فئة ذات أغلبية عددية، أو على الاقل ذات اهمية عددية مقارنة مع التشكيلات الاجتماعية الأخرى.

ولكن السود لا يمكنهم أن يدمروا، بفضل سلطتهم الخاصة، "سلطة البيض" التي هي سلطة البرجوازية الأمريكية. وعلاوة على ذلك فإنهم لا يستطيعون أن يحلوا محلها. وإن كانوا مدركين لضرورة تسلحهم بجهاز دولة خاص بهم في سبيل الدفاع عن أنفسهم، إلا أنهم ليسوا مدركين لضرورة تدمير الرأسمالية وكامل البنية الطبقية للمجتمع الأمريكي. إن بإمكانهم اكتساب هذا الوعي بسرعة خلال النضال ولكن الامر يحتاج إلى نشوء منظمات سوداء تقود المعركة من هذا المنطلق وحول هذا البرنامج.

ولكن السود لا يمكنهم أن يدمروا بقواهم فقط "سلطة البيض" التي هي سلطة البرجوازية الأمريكية. وعلاوة على ذلك فإنهم لا يستطيعون أن يحلوا محلها. وإن كانوا مدركين لضرورة تسلحهم بجهاز دولة خاص بهم في سبيل الدفاع عن أنفسهم، إلا أنهم ليسوا مدركين لضرورة تدمير الرأسمالية وكامل البنية الطبقية للمجتمع الأمريكي. إن بإمكانهم اكتساب هذا الوعي بسرعة خلال النضال ولكن الامر يحتاج إلى نشوء منظمات سوداء تقود المعركة من هذا المنطلق وحول هذا البرنامج.

ويشكل تطور وعي شخصيات القادة عنصرا تقيميا هاما لدرجة تطور وعي السود.

فرجل مثل مالكولم إكس قد تطور من الإصلاحية الاقتصادية الدينية للمسلمين السود (من المحلات التجارية والبنوك والمدارس التي يديرها السود بهدف خلق اكتفاء ذاتي اقتصادي للسود داخل اطارالمجتمع الأمريكي) إلى النضال المنظم والعنيف ضد سلطة الدولة وأجهزتها من شرطة وعسكر. فمن منطلق قومي بحت، ومن زاوية الإسلاموية، توصل إلى الوعي بالطابع الدولي لهذه المشكلة من خلال اكتشاف أن نضال السود الأميركيين ضد دولتهم مرتبط بنضال السود الأفريقيين ضد الإمبريالية. وبالمثل، راب براون، وكارامايكل اللذان انتقلا من الدعوة لللاعنف إلى الترويج للعنف الذي سوف يولد التطور الاجتماعي. كما انتقلوا من وجهة النظر الامريكية البحته إلى الوعي بهوية نضال كوبا وفيتنام ضد حكومة الولايات المتحدة نفسها. ومع ذلك، فإنهم لم يدركوا أن نضالهم لن ينجح إلا مع تدمير الرأسمالية وإقامة مجتمع لا طبقي.

وهم مستعدون لتدمير المجتمع الأمريكي، على الأقل بحسب ما يزعمون، ويمكن للمرء أن يصدقهم بما أنهم يخاطرون بحياتهم بإعلانهم هذا الأمر. لكن قولهم هذا يهدف للابتزاز والتهديد بغية نيل حقوقهم؛ أي بعبارة أخرى: "استجسبوا لمطالبنا وإلا سوف نقوم بتدميركم". لكن هؤلاء القادة لا يدركون أنه في سبيل الحصول على حقوقهم لا بد من تدمير المجتمع الأمريكي فعليا.

لهذا السبب فإن تمرد السود الاميركيين إن كان ثوريا بمكوناته الموضوعية، إلا أنه لم يتخذ حتى الآن مسار الثورة الاجتماعية.

من الصعب التنبؤ بمسار الحركة وبتطور قادتها. حتى الآن يمكننا القول بأن السود قد أدركوا قيمة العنف كوسيلة للتحول الاجتماعي لكنهم لم يدركوا أهداف ونطاق التحول الذي يمكن أن يلبي مصالحهم.

وإن كف قادة هذه الحركة عن الاعتقاد بالإصلاحية المسالمة وإن تخلوا عن المثالية (الطوباوية) بإمكانية تكوين دولة منفصلة اراضيها داخل الدولة الاميركية، واذا كانوا يكافحون من اجل خلق دولة داخل الدولة، أي خلق قوة قادرة على التعامل مع جهاز الدولة البيضاء، فانهم يبقون بشكل كامل على أرضية الفكر القومي للبرجوازية الصغيرة، الراديكالي في الوسائل والإصلاحي في أهدافه، وإنهم لا يؤمنون بإمكانية تحطيم المجتمع الطبقي، ويتصورون امكانية اجبار البرجوازية وفي نهاية المطاف سائر المجتمع، على المساومة وإعطاء السود مكانة اجتماعية تعادل مكانة البيض وذلك عن طريق التهديد باستخدام العنف او باستخدامه. ان المجتمع الأمريكي غير قادر على تقديم ذلك، فلهذا السبب تبقى الإصلاحية العنيفة في فحواها غير فعالة كشأن الإصلاحية الخاضعة.

ومع ذلك، يجب علينا أن لا نقلل من أهمية ما ستقدمه الحرب الشاملة، التي يتكلم عنها هؤلاء القادة، من إيجابيات إلى السود على المدى القصير، خاصة وأن لديهم، ومن دون شك، آذانا صاغية وثقة بين الجماهير السوداء (ويكفي رؤية انحياز القادة السياسيين السود المعتدلين الى المقولات "المتطرفة" للمعرفة بأن البضاعة "اللاعنفية" والخاضعة ليس لها شعبية في الوقت الحالي).

فالحكومة والولايات، ولكي لا تتحول أعمال العنف إلى قاعدة، قد توافق على بذل بعض الجهود الاقتصادية والاجتماعية تجاه السود. والشرطة يمكنها، أمام التهديد، أن تكف عن ممارساتها العنصرية. والسكان البيض يمكنهم، منها تضامنا مع السود الذين يدافعون بجدية عن حقوقهم، وأيضا تخوفا من هؤلاء، أن يحدوا من عنصريتهم.

لكن كل هذا لن يذهب بعيدا إذ أنه ما دام هناك خمسة أو ستة ملايين عاطل عن العمل في الولايات المتحدة، فإنه من الصعب أن لا تكون أغلبيتهم من السود. كما أنه في ظروف صعبة، فإن أفضل التشريعات الاجتماعية، وإن كانت مطبقة بالشكل الأفضل، لا بد من أن تنقلب دائما ضد من كانت من المفروض أن تحمي (فعلى سبيل المثال، وبين الأمريكيين السود ،ساهمت المساعدات المخصصة للأمهات المنفصلات عن أزواجهن إلى تزايد حالات الفصل في الأسر. وفي فرنسا نفسها على سبيل المثال، أدت الزيادات على وقت العمل الاضافي إلى تشجيع أصحاب العمل على تفاديها ودفعت بالعمال إلى السعي إليها).

إذن كل ذلك لن يقدم الأمور بعيدا، ولكن إن حسن ذلك قليلا من حالة الأميركيين السود، فسيكون أمرا عظيما وسيشعر به وكأنه تحرر حقيقي. وهذا سوف يعطي للسود الوعي بأنفسهم من خلال الشعور العنصري، وسوف يسمح لهم ذلك، من خلال الخوف الذي يبثونه، باستعادة الوعي بقيمتهم.

لذلك فإن تطرف القادة السود مثل براون وكارمايكل، وتطرف مرتكبي أعمال العنف من واتس أو ديترويت، هو ليس فقط السياسة الوحيدة الممكنة للأميركيين السود، ولكنها السياسة الوحيدة الصائبة.

في هذا المسار، سوف يتزايد عدد الذين يتبعون دعوة القادة الحاليين الذين يدعون للانتفاضة وسيصبح هؤلاء القادة ممثلين للسود أكثر فأكثر.

ومع ذلك، فعلى المدى الطويل، تشكل هذه السياسة طريقا مسدودا: فبعد نشوة النجاحات الأولي، سوف يجد جمهور السود أنفسهم في وضع مختلف في الشكل ولكن متطابق في الجوهر.

إن الجماهير السوداء على مستوى مختلف من الوعي عن بقية البروليتاريا الأمريكية. فالسود هم أقل تعليما ولكنهم يعطون درسا لجميع شعوب الأرض: فمن أجل تحرير أنفسهم، على المظلومين بناء سلطتهم الخاصة. ان هذا الدرس قد نسوه من يسمون بالشيوعيين،من ورثة الثورة الروسية، إن كانوا قد فهموه يوما ما، وقد أساءت فهمه البروليتاريا في الدول الغربية في حين أن البروليتاريا في الولايات المتحدة لم تكترث به يوما.

إن الأكثر استغلالا بين المستغلين في المجتمع الأميركي اليوم هم الأكثر تقدما في مسار التقدم الاجتماعي، مسار الثورة، الأزمة التي تحبك في المجتمعات المتطلعة لنظام جديد.

ومن الواضح أنه على السود الكفاح من أجل مصالحهم. وإن نجاح النضال المفتوح على صعيد كسب الحقوق الأساسية العرقية والاجتماعية والاقتصادية هو ما سيمكن جماهير السود من أن تصبح على بينة من قوتها ودور العنف التحرري. ومن خلال نجاحاتهم سيجند المقاتلون مكافحين آخرين وسيجدون حلفاء لهم. فليس هناك من ثورة من دون قتال ونجاحات جزئية تساعد على شد لحمة الجماهير وعلى تقوية حزمهم بتجربة الكفاح.

فمدعي الاشتراكية الذي يعتقد أو يكتب أن على السود الأميركيين عدم استخدام العنف في ظل الوضع الراهن، بحجة أن البروليتاريا الأمريكية برمتها، البيضاء والسوداء، هي القادرة على الاستيلاء على السلطة، يرتكب في الحقيقة خطأ فادحا. فإنه وحده نضال الجزء الذي يحمل أكبر روح قتالية، أي السود، ما سوف يوصل البروليتاريا برمته إلى نفس درجة الوعي والرؤية الواضحة لوحدة مصالحه رغم تنوعه العرقي. إن الثورة في الولايات المتحدة لا بد أن تمر من خلال نضال السود.

ومن بين أهم الصعوبات في المسألة هو أن جماهير السود، كقادتهم، لا تدرك الدور الذي تستطيع أن تقوم به كل مكونات البروليتاريا. فبعد عنصرية رجال الشرطة يلاقي السود عنصرية العمال البيض. وهؤلاء هم من يعاشرون في حياتهم اليومية في العمل أو من يعيشون بالقرب منهم والذين يعتقدون إن إبعاد السود من أحيائهم سوف يمكنهم من إبعاد الفقر عنهم، من أولئك المفتقرين للثقافة للتمكن من إخفاء عنصريتهم إلى أولئك الأغنياء ما فيه الكفاية للظهور وكأنهم كرماء معهم. كما أنه ليس لدى السكان السود حاليا أي سبب للاعتقاد بأن الطبقة العاملة يمكن أن تكون حليفة لهم في أي حال من الاحوال.

في سبيل رؤية هذه الامكانية، على المرء التحلي برؤية شاملة للمجتمع، تخلو من العاطفة. ويجب تأمل القهر الاجتماعي أو العنصري فكريا، وألا يكون المرء غارقا فيه كليا، للتمكن من استيعابه. كما يجب على المرء التمكن من تقدير ما ستقوم به مجموعة من الأفراد أمام المشاكل المستقبلية التي ستواجهها، دون أن يتأثر بما تفعله هذه المجموعة اليوم من مساوئ مهما كان قدرها. فالجماهير السوداء ككل، لا تملك حاليا هذا المستوى من الوعي الذي لم تبلغه أية طبقة أو فئة على مدى عقود. إن قسما صغيرا وحده من بعيدي النظر ومن خلال التحليل الماركسي، يمكنه امتلاك رؤية استراتيجية للمعركة القادمة.

لذلك، في الوضع الحالي، لا يمكن لأي منظمة سياسية مؤلفة من البيض، أو ذات أغلبية بيضاء، أو حتى مع أقلية من البيض، التغلب على الحذر المحق لجمهور السود واكتساب الثقة لقيادة كفاحهم في الطريق الوعر الذي انخرطوا فيه. فالسود الأمريكيون لن يعطوا ثقتهم إلا للسود، الذين قد يخذلونهم، لكنهم قد جربوا البيض في السابق. إن الوعي الذي اكتسبوه بضرورة استعمال العنف وانشاء سلطة للمستغلين يقوم على أساس هذه التعارض البسيط بين الأسود والأبيض.

تجاهل هذا الامر يعني التخلي عن النضال.

إن القيادات الحالية للحركة السوداء، الأكثر راديكالية بينها، قد تطورت كثيرا. هل سيتمكنون، في خضم النضال، من اكتساب الوعي الاشتراكي، والرؤية الواضحة للصراع الطبقي القائم ولحاضر ومستقبل المجتمع الأمريكي والإنسانية، ولكيفية انخراط نضال السود في هذا المسار، والاستراتيجية والتكتيكات اللازمة لذلك؟

لا يمكننا التنبؤ بذلك. لقد تطوروا كثيرا حتى الآن، ويمكنهم أن يتطوروا اكثر. ولكن يجب أن لا نخدع أنفسنا ، فخطابهم الراهن المتعلق بالطبقة العاملة الأمريكية ليس إلا غوغائية من مستوى متدن. فالفرد الأسود الأقل وعيا في البلاد لا يمكنه القول بأسوأ مما يقولون. فإن هذه القيادات لا تتجاهل فقط بل تنكر فكرة وجود أية أرضية مصالح مشتركة بين البروليتاريا البيضاء والبروليتاريا السوداء. من هذا المنطلق، ومهما كانت تصريحاتها حول الاشتراكية، فإنها تبقى في سياق البرجوازية الأمريكية، وعلى أسس الرأسمالية والطبقات الاجتماعية، وضمن مجال الاستغلال والبطالة التي يشكل السود ضحاياها الرئيسيين. فيمثل هؤلاء القادة ما مثله قادة جبهة التحرير الوطني للجزائريين: راديكالية أيديولوجية لبرجوازية صغيرة تتأهب ضد حالة معينة ولكنها لا تؤثر على النظام الاجتماعي القائم، ذلك رغم استخدامها للعنف ضد هذا النظام. وتفجيرات البوجاديين (Poujadistes) في كورسيكا، وأعمال العنف للفلاحين في الشمال الغربي ووسط فرنسا هم من نفس الفكر.

لربما أثناء الكفاح سيظهر رجال آخرون وكوادر آخرون وقادة جدد، سينظرون الى العلاقة القائمة بين نضال جماهيرالسود في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل مصالحها المباشرة من جهة، والتي تشكل الحد الأدنى لبرنامج النضال، وبين الصراع الطبقي والاستغلال الرأسمالي من جهة أخرى. ويدركون أن ما نشهده هي المعارك الأولية ـ يقوم بها الأكثر وعيا من بين المستغلين أيا كان مصدر هذ الوعي ـ للحرب التي لا يمكن أن تنتهي إلا في القضاء على المجتمع الطبقي، أو على العكس، في إقامة الهمجية الفاشية على صعيد العالم حيث تطغى معايير العرق والزمر الدستورية على العلاقات الطبقية : مزيج من فاشية ألمانيا، والفصل العنصري في جنوب افريقيا والإقطاع الياباني، هذا ما قد تؤول اليه الفاشية على صعيد العالم التي ستقوم بتكريس الهيمنة الأمريكية على سكان الكوكب.

إن كل طاقة المنظمات الثورية الأمريكية كما مثيلاتها في العالم، يجب أن تتجه في الوقت الحاضر إلى تسهيل ظهور وتجمع مثل هؤلاء الأفراد. والخطوة الأساسية الأولى هي إنشاء تنظيم ثوري من السود، مستقل بشكل صارم، وعلى جميع المستويات، عن المنظمات الأمريكية التي تنطوي على البيض. الأمر ليس بإنشاء منظمة جماهيرية. فكون السود يتحلون بأعلى مستوى من الوعي، يتوجب خلق حزب ثوري تروتسكي يشكل تنظيما حقيقيا لخوض كفاح السود الأمريكيين.

ويجب على هذا التنظيم قيادة المعركة: فإنه في النضالات الجزئية، بدءا من الآن، سوف يتمكن السود من رفع مستوى وعيهم. وهكذا سوف يتمكن هذا التنظيم من كسب مكانته السياسية بين الجماهير. ويجب عدم المماطلة بالقول بأن الأولوية هي لتروييج الاشتراكية وبأن السود والبيض، بفضل هذا الترويج، سوف يصبحون على بينة من مصالحهم المشتركة، وأنه على السود الانتظار لحضور هذا اليوم.

ويجب على هذا التنظيم قيادة المعركة: ففي النضالات الجزئية، ومن الآن، ستتمكن جماهير السود من رفع مستوى وعيها. وبتنظيم نفسه من أجل الكفاح سيكتسب التنظيم السياسي خبرات نضالية. ويجب عدم المماطلة بالقول بأن الأولوية هي لترويج الاشتراكية وبأن السود والبيض، بفضل هذا الترويج، سوف يصبحون على بينة من مصالحهم المشتركة، وأنه على السود الانتظار لحضور هذا اليوم.

فوحدة المصالح هذه يجب أن تظهر من خلال النضال وفي المعركة وفي التكتيكات المستعملة، لتصبح أمرا جليا في نظر الأقل انفتاحا على هذه الفكرة. إن النشاط الصحيح هو الذي يرفع مستوى وعي الجماهير، في حين أن الترويج يمكنه على الأكثر رفع مستوى وعي عدد قليل من الأفراد. ففي بعض الفترات، إن هكذا عمل ترويجي يشكل رد فعل شخصي يؤدي إلى الابتعاد عن المصالح الحقيقية للصراع الطبقي.

إن لن يتمكن التروتسكيون من قيادة الحركة السوداء في الوقت الحاضر، وكما هي الأن، وفقا لمسارها وامكانياتها الخاصة، فإنه لن يبقى أمامهم، خلال بضع سنوات أو حتى شهور من الزمن، غير الدعم غير المشروط لكارمايكل وغيره، ومنحهم، إرضاء للضمائر، صفة الاشتراكية اللاواعية والمتسامية . في الوقت الحاضر، يجب الدعم بالأفعال أعمال كارمايكل وراب براون، وفي نفس الوقت الشجب، وبقوة، حدود هذه الأعمال.

ومع ذلك، فلن يكون كافيا خلق حزب ثوري مستقل من السود دون تحديد الاستراتيجية والتكتيك الذي سيتبعهما تجاه باقي البروليتاريا الأمريكية. فجماهير السود المعبئين في منظماتهم الخاصة للدفاع عن أنفسهم يمكنهم التأثير بشكل حاسم على وعي البروليتاريا من ذات البشرة البيضاء.

ويمكنهم، بفضل عددهم وقوتهم وانضباطهم، ازاحة القيادات البيروقراطية لبعض النقابات. ويمكن لمنظماتها الكفاحية التدخل بشكل مناسب في الصراعات الاجتماعية التي تطال في نفس الوقت البيض والسود. فحملتها حول حرب فيتنام تستطيع خلق رد فعل دفاعي للبروليتاريا بأجمعها. ومن السابق لأوانه تفسير ما ستكون تلك الاستراتيجية والتكتيك. فالمرحلة الأولى من الصراع هي بالتحديد بإعطاء السود التماسك والانضباط والقوة. فالتماسك والانضباط والقوة لا ينصهر إلا بنيران المعارك. هذه هي الخطوة الأولى. والجماهير السوداء هي بصدد انجازها من دون الثوار الماركسيين. والثوري الماركسي لا يظهر عفويا بل إنه يحتاج إلى تكوين. والانتماء إلى التجارب الثورية الماركسية هو عامل لا غنى عنه والمنظمات التروتسكية فقط يمكنها تأمين ذلك. هنا تكمن المسؤولية التاريخية لهذه المنظمات. فالقادة الذين يتم تكوينهم عفويا في النضال هم براون أو كارمايكل. فلديهم على الأقل حسنة تجسيد الراية التي تجمع المكافحين. ويقع على عاتق الثوريين الماركسيين إثبات عدم انتمائهم للعقلية البرجوازية الصغيرة ككارمايكل ومن تبعه، وبفعالية اقل.

وإذا ما ظهرت منظمة تروتسكية بين جمهورالسود الأميركيين فإن ذلك من شأنه، بشكل غير متوقع كما حصل عديدا في تاريخ العالم في السنوات الأخيرة، أن يحطم قلعة الرأسمالية العالمية، عبر صراع طبقي حيث العامل القومي أو العرقي كان سائدا في البداية.

والتشقق سوف يهدم السد. فالسود الأمريكيون قد قطعوا خلال ثلاث سنوات طريقا طويلا. وسيظهرون للعالم أنه ليس من الضروري التحلي بتاريخ ثوري للتقدم على مسار مستقبل الانسانية. إنهم سيخلقون ويبنون الأداة التي ستمكنهم من التحرر وسيحررون سائر العالم في نفس الوقت، ليتم خلق مجتمع دون طبقات على مستوى العالم حيث العنصر الأبيض سيكون الأقلية على الارجح وسيتمتعون بالحرية وبإنسانية مجتمع اشتراكي.