مصر: الإنهاك يصيب نظام مبارك مجلة النضال الطبقي - 2005

Stampa
ترجمة

مجلة النضال الطبقي - عدد 92 
2005-11-17

 

بعد اقتراع انتخابات الرئاسة، حيث أعيد دون مفاجأة انتخاب رئيس الجمهورية بنسبة 88.6 % من الأصوات، انخرطت مصر بدءا من 8 نوفمبر في انتخابات أعضاء مجلس الشعب، أي الانتخابات التشريعية. والواقع أنم هذه الاخيرة لا تنطوي على رهان حقيقي اكثر من انتخاب الرئيس. فبيد الحزب الحاكم، الحزب الوطني الديمقراطي، كل سبل ضمان أغلبية بمجلس الشعب، وعلى كل حال ليس لنواب هذا المجلس سلطة فعلية بوجه الرئيس. لكن، بعد اكثر من عشرين سنة من حكم مبارك المتواصل، يبدي نظامه أمارات إنهاك. ولا يمكن للازمة الاقتصادية والاجتماعية، وكذا النزاعات الدائمة بمنطقة الشرق الأوسط وعواقبها، علاوة على منظور وجوب تأمين خلافة الرئيس الذي بات مسنا، الا أن تسبب شقوقا في جهاز الحكم وفي المجتمع.

ولم يعد الطابع القمعي للنظام، الذي لم يتخل طبعا عن أساليبه البوليسية في الاعتقال والسجن التعسفي وإساءة المعاملة والتعذيب، فعالا كما في السابق ولا كفيلا بمنع أشكال الاستياء من التعبير عن نفسها. كما يمنح هذا الوضع فرصا لمختلف القوى السياسية المعارضة ، رغم ان أكثرها وزنا، مع الأسف، هي الاتجاهات الاسلاموية. وبوجه خاص يتقدم اكثر فاكثر على الساحة السياسية، كما أكدت أولى نتائج الانتخابات التشريعية، حزب الإخوان المسلمين، بعد ان فاز منذ أمد طويل بمكانة كبيرة داخل المجتمع.

عواقب الأزمة الاقتصادية

منذ سنوات يعاين السواد الأعظم من شعب مصر، البالغ اليوم 73 مليون نسمة، تدهورا لشروط حياته الكارثية أصلا.

كانت حقبة عبد الناصر بالنسبة لقسم كامل من السكان إفادة من بعض الحقوق الأولية. وكان إنشاء ضمان اجتماعي، وتشريع عمل يضمن عطلا مؤدى عنها وتحديدا لساعات العمل، والتأميم وتوسيع القطاع العام، مع إحداث فرص العمل المطابقة، وبناء سكن شعبي، يعني إفادة الكثيرين لأول مرة من شروط حياة لائقة إلى حد ما. لكن السنوات اللاحقة، في ظل أنوار السادات ثم مبارك،كانت تراجعا على هذا الصعيد. فقد فتحت سياسة الانفتاح الاقتصادي في عهد السادات طريق إضفاء ليبرالية على الاقتصاد بضغط من الرساميل الإمبريالية والبرجوازية المحلية، المتلهفين إلى تملك نتاج استغلال الشعب المصري.

تنتشر، إلى جانب الفقر المدقع بالقرى واغلب أحياء المدن، ثروة برجوازية من أثرياء جدد، يسكنون بعض أحياء العاصمة ومناطق الفيلات المظللة بحدائق وافرة قرب الصحراء. ويبدو ان هذه الشريحة الاجتماعية ترى نفسها ممثلة بالنظام. ليس ذلك أمر بقية السكان الذين يعانون بشدة من نتائج الأزمة الاقتصادية.

التضخم ظاهر، وبوجه خاص منذ يناير 2003، لما جرى خفض قيمة الجنيه المصري قياسا على الدولار الأمريكي بنسبة 40%. والواقع ان العملة المصرية فقدت، منذ وصول مبارك إلى السلطة عام 1981، زهاء 90% من قيمتها. وان كان خفض العملة قد مكن من إنعاش الصادرات الصناعية وبالتالي من تعويض جزئي لعواقب أزمة قطاع النسيج - واساسا القطن، فقد أدى أيضا إلى ارتفاع حاد للأسعار الداخلية، ومن ثمة جعل تلبية الحاجات الأساسية اشد صعوبة على من يعيش بأقل من 2 يورو في اليوم، وتلك حال ثلاث أرباع المصريين.

وقد حاولت الحكومات المصرية، على نحو دوري، التخلي عن دعم المواد الأساسية، الذي يبقيها بمتناول السكان الفقراء. وقد تراجعت اضطرارا خشية التسبب في انفجار اجتماعي كالذي حدث في يناير 1977، مع ما شهدته القاهرة من أعمال عصيان. هكذا تضطلع الحكومة، منذ إبريل 2004، بمد أفقر السكان ببطاقات حصص تتيح لهم التزود بحد أدنى من المواد الأساسية مثل الخبز والزيت والسكر والشاي والعدس. لكن هذا لا يخفف إلا بشكل نسبي عواقب سياسة كارثية على الفئات الشعبية.

تؤدي خصخصة المنشآت العمومية الكبرى، المحدثة في الحقبة الناصرية، وألوف التسريحات المرافقة، وتقطيع تلك المنشآت إلى وحدات صغيرة تمنح للقطاع الخاص، إلى إضفاء هشاشة على هذا القسم من المجتمع المصري الذي كان استفاد من فرص عمل قار ودخل، ضئيل لكنه مضمون. وغالبا ما تضم هذه المنشآت الكبيرة، بقطاع النسيج( الغزل والحياكة)، أو صناعة مواد البناء أو التعدين، آلاف العمال وما تزال تمثل قسما هاما من اليد العاملة، لكن هذا القسم يشهد انخفاضا سريعا.

ويشكل قانون الشغل بهذه المنشآت إطارا مرجعيا محترما إلى هذا الحد أو ذاك. وقد كان قانون عمل جديد، أصدره النظام عام 2003، قد قلص حقوق العمال. فالأجور الدنيا تحددها لجنة استشارية للعمل ثلاثية، حيث يجب ان يتفاهم ممثلو الحكومة وأرباب العمل والنقابات للسهر على مسايرة الأجور للتضخم. وبالنظر إلى تكوين هذه الهيئة، ثمة شك في ان تبقي توجيهاتها، ان كانت تطبق، الأجور بعيدا وراء التضخم الفعلي، المقدر حاليا ب20% سنويا حسب الملاحظين الخارجيين.

و زاد القانون الجديد حدة هشاشة عقود العمل. لكن أرباب العمل حظوا بتسهيل كل المناورات المتعلقة بإغلاق المنشآت او التسريحات أاسباب اقتصادية. ولم يعترف بحق التنظيم النقابي الا في إطار نقابة عضو الاتحاد الرسمي والتابع للحكومة GFTU ، ولم يعترف بحق الإضراب الا مشروطا بجملة تقليصات مثل سابق الإعلام مدته عشرة أيام.

لكن خارج هذه المنشآت، ثمة في الواقع80% من العمال، المستخدمين في آلاف المنشآت الصغيرة بالمدن، والضواحي العمالية، أو " المدن الجديدة التابعة" المنبثقة من الصحراء او المغروسة في دلتا النيل، معرضون للاستغلال دون أي حماية قانونية عمليا.

ثم هناك مئات الآلاف والملايين الآخرين، الأشد حرمانا، الذين يشكلون جماهير معدومي عمل قار. ولا شك ان معدل البطالة ابعد من الرقم الرسمي 9% ويصل إلى 20 أو 30 % من السكان البالغين سن العمل، وحتى 40% ببعض أحياء القاهرة الشعبية. ويتطور سوق عمل غير مهيكل في المراكز الحضرية، مشكلا ملاذا للباحثين عن عمل مياومة. و باستمرار يضخم دفق من العمال المهاجرين من القرى هذه كتلة العمال ذوي الموارد الهزيلة هذه.

ومن الأشد فقرا، ضمن المهن الصغيرة العديدة التي تؤمن عيش سكان المدن، ثمة عشرات آلاف جامعي القمامة- "الزبالين"- الذين يخرجون ما تنتجه الأحياء من آلاف أطنان النفايات. لكن تجدر الإشارة مثلا إلى أن 30 ألف من زبالي جنوب شرق القاهرة حرموا، منذ2002، من قسم من نشاطهم بعد توقيع بلديات القاهرة والإسكندرية عقود جمع ازبال مع مجموعات دولية مثل الشركة الأسبانية FCC والإيطالية Jacuzzi أو الفرنسية Onyx . على هذا النحو ستخرج شركات النظافة متعددة الجنسية تلك قسما من المبالغ التي تدفعها دولة مصر بموجب تلك العقود، بينما يحرم من كان يعيشون ببؤس من هذا العمل من دخلهم.

واخيرا يمثل مشكل السكن، بالنسبة للسواد العظم من سكان مدن مصر(64% من المصريين عام 2000)، مشكلا غير قبل للحل. يعيش ملايين من سكان القاهرة بشكل دائم في المقابر الخمس المحيطة بالمدينة، منها مدينة الأموات الشهيرة المحولة إلى أحياء صفيح واسعة. وقد بنيت 65% من المساكن بشكل غير قانوني، على بقعة شاغرة او مربع ارض زراعية او على رصيف أو سطح. ولن يتقدم حل مشكل السكن لان السكان يتزايدون بسرعة وكثير من الشباب يبحثون دوما عن مساكن جديدة مستقلة. ويبدو ان سياسة الدولة في إكثار الأحياء الجديدة(سيتضاعف عددها 3 مرات في العقد المقبل) هبة لمقاولي البناء الكبار والصغار، وليست حلا فعليا لمشكل سكن سكان لا يكفي دخلهم لدفع إيجار.

شقوق في الدكتاتورية

منذ 24 سنة وحسني مبارك، البالغ 77 سنة، يحكم مصر. فقد خلف عام 1981 أنوار السادات الذي اغتالته جماعة إسلامية اعتبرته خائنا لما وقع اتفاقات كامب ديفيد مع اسرائيل. وإلى غاية الانتخاب الرئاسي الأخير، كان يعاد تنصيب مبارك رئيسا كل ست سنوات بواسطة استفتاء باقتراح من مجلس الشعب. وفقط بضغط من إدارة جورج بوش الأمريكية، الساعية إلى إضفاء ظاهر حق على خطاباتها عن دمقرطة مزعومة للعالم العربي، جرى لأول مرة تنافس مرشحين عديدين في انتخابات الرئاسة الاخيرة. وطبعا لم يمنع التعدد الشكلي لهذه الانتخابات إعادة انتخاب مبارك، مما يعني استمرار ديكتاتوريته 6 سنوات إضافية. ومع ذلك تظل مسألة خلافته مطروحة، وتهز محيطه والدوائر القيادية للحزب الوطني الديمقراطي.

وقد اعد الرئيس خلافته جيدا. فعلى نحو مألوف بالمنطقة، حيث يميل المستبدون إلى اعتبار وظائفهم تكليفا وراثيا، وضع مبارك ابنه جمال مبارك بالمقدمة، ودفعها إلى قمة الحزب الوطني الديمقراطي. ولا يخفي رجل البنوك السابق هذا، على رأس مجموعة من الاقتصاديين الليبراليين المكونين بالمدرسة الأمريكية، عزمه على دفع خصخصة القطاع العام حتى النهاية، وإخضاع الاقتصاد المصري بكامله لقوانين السوق أيا كانت العواقب الاجتماعية. وحسب تصريحاته ستكون تلك العواقب من اختصاص... وزارة الداخلية.

ولم يخل صعود ابن الرئيس من احتكاكات. ففريقه يهدد، داخل جهاز الحزب الوطني الديمقراطي، مواقع عدد من القادة. كما قد يرى كثيرون في سياسة الخصخصة التي أعلنها جمال مبارك خطرا على مناصبهم بالمقاولات العامة، ويخشون استبعادهم من غنيمة تقاسم تلك المقاولات بين الذئاب الفتية المحيطة بابن الرئيس. بل يندد البعض بما تنطوي عليه هذه السياسة من مخاطر مواجهات اجتماعية لا جدوى منها.

هكذا تجنح مسألة الخلافة إلى توسيع شقوق قائمة بين مختلف الزمر وعصابات المافيا المكونة للحزب الحاكم، المتنافسة غالبا للفوز بهذا المنصب او ذاك بالجهاز او للدفاع عن زبائنها.

لكنها بوجه خاص تنطرح في وضع يزداد به الطعن في النظام. هذا سواء من جهة سياسته الاقتصادية وعواقبها، أو سياسته الخارجية لا سيما انحيازه شبه التام للولايات المتحدة الأمريكية في مسألة فلسطين او قضية العراق. كما ان الانطباع بوجود نوع من التردد بالقمة يحث عددا من أشكال الاستياء على البروز، حتى داخل جهاز الدولة.

هكذا شهدت القاهرة شهر مايو الأخير مظاهرة آلاف القضاة بدعم من المحامين. احتج القضاة بسبب رواتبهم الهزيلة والمتوقفة إلى حد بعيد على تنقيط الوزارة، وطالبوا باستقلال حقيقي وهددوا حتى برفض القيام بدورهم المألوف في التصديق على العمليات الانتخابية. "لدينا انطباع أنها اللحظة المواتية التي لا فرصة بعدها، فلن تعود ثانية في العاجل": هذا قول أحد القضاة بصدد تلك المظاهرة.

وعلى النحو ذاته، كشف مسؤول شرطة سابق، في كتاب نشر بداية العام، الطريقة التي يستعمل بها النظام الشرطة ليؤمن النتائج المفيدة له في الانتخابات. وابرز الكاتب أيضا كيف ان عناصر الشرطة التي قد ترفض هذا الدور مهددة بالعقوبات وحتى بالمحاكمة والسجن.

وساهم افتتاح الفترة الانتخابية، ولو أن النتائج كانت متوقعة، في رفع الكمامات عن الأفواه. فبدفع المرشحين المتنافسين إلى التعبير عن انتقادات بقصد استمالة الناخبين، في وضع اضطر به النظام إلى التسامح معها قليلا أو كثيرا، ساهمت حملة الانتخابات في تشجيع تعبيرات عن الاستياء بشكل محدود لكنه فعلي. وقد مس ذلك فئات ذات امتيازات مثل أساتذة الجامعات والطلاب، لكن عمال بعض المصانع كذلك.

سعت الحركة المصرية من أجل التغيير، التي أطلقها في متم 2004 عدد من المثقفين ومجموعات اليسار تحت شعار "كفاية"، إلى تنظيم الاحتجاج على السلطة وعلى أساليبها، وذلك حول مطلب انتخابات حرة وانصراف مبارك. لكنها ظلت عمليا منحصرة بالوسط المثقف ولم تنجح مظاهراتها في تجاوز ألف شخص. لكن الدال في الأمر أن النظام اضطر، رغم محاولات قمع الحركة- منها هجوم البوليس بعنف على مظاهرة في متم يوليوز 2005- إلى التسامح معها خشية ان يؤدي قمع بالغ العنف إلى إفساد صورته بالخارج ، وبوجه خاص إلى استثارة رد فعل تضامني، واخيرا إلى تلك العدوى إلى يسعى إلى منعها.

الإخوان المسلمون

يظل نظام مبارك، رغم هذه الشقوق، نظاما صلبا. لكن مسألة القوى السياسية التي قد تمده بنفس جديد، ولو جزئيا، مطروحة كذلك.

لا جدال ان القوة الاعمق انغراسا بين السكان، بما فيهم سكان الأحياء الفقيرة بالمدن، هي حزب الإخوان المسلمين. وان كانت الجماعة قد أكدت على الدوام اقتصارها على الدعوة إلى الإسلام، فقد تصرفت دائما بما هي حزب. وربما تشرف اليوم على القيام بذلك اكثر.

استفادت الجماعة، بعد تأسيسها من طرف حسن البنا عام 1928، من دعم ممثلي بريطانيا بمصر. كان هؤلاء يعتبرون هذه القوة المحافظة والرجعية ثقلا موازنا للاتجاهات القومية والتقدمية التي كانت تهز مصر بينما البلد تحت نير الإمبريالية رغم نيل الاستقلال الشكلي عام 1922.

وقام الإخوان المسلمون ثانية بهذا الدور في السنوات بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت صعود عاما لمطالب الطبقة العاملة وتعبئتها وتنظيمها. وكانت الجماعة تصرح بوضوح بعدائها للشيوعية، وحتى تعاطفها مع الفاشية. لكن بوجه خاص، تمكن الإخوان المسلمون، بإعلان تاييدهم لقيام"دولة إسلامية، وبتكريس أنفسهم للدفاع عن الممارسة الدينية، من بلورة الاتجاهات الأشد رجعية بالمجتمع المصري حولهم.

شهد هذا المجتمع حتى سنوات 70 علمنة وتحديثا للسلوك. لكن منذ اكثر من عشرين سنة، يشهد المجتمع موجة أسلمة بتأثير مجموع القوى الدينية، التي تقوم جماعة الإخوان داخلها بدور كبير.

أتاح لها حضورها بالمساجد، وبالمحيط بها من جمعيات محلية، نسج علاقات متعددة مع السكان. غالبا ما تقوم هذه الجمعيات بدور مساعدة اجتماعية لا غنى عنها، مقدمة الإسعاف لافقر الناس، ومانحة دعما مدرسيا او، مثلا، وجبات مجانية بمناسبة رمضان والإفطار أو بمناسبة حفلات إسلامية أخرى. لكن "الإخوان" يسيرون أيضا بشكل مباشر مستوصفات طبية او عيادات تتيح لقسم من السكان الإفادة من العلاج على نحو اسهل في الغالب مما في المشافي العمومية المهترئة والمكتظة.

لكن تأثير الإخوان المسلمين يساهم، في الآن ذاته، في فرض الالتزام على نحو يزداد صرامة بالقواعد الدينية وعودة الشروط الاجتماعية، بدءا بتلك الخاصة بالنساء، إلى الوراء. اصبح الحجاب، في ظرف 20 سنة، القاعدة بالنسبة لـ90% من النساء في بلد فرض اللباس العصري" على الطريقة الغربية" نفسه عمليا بالأقل بالمدن الكبرى. وتم تخصيص قاطرات معزولة للنساء في مترو القاهرة. واصبح الالتزام بصوم رمضان شبه مطلق، بل هب مرسوم حكومي للنجدة بفرض إغلاق المطاعم وقت الصيام. وتجدر الإشارة أكثر إلى ان الدين يفرض نفسه على الدوام بفضل الآذان خمس مرات يوميا للدعوة إلى الصلاة والعبادات، والتي توصلها عمليا إلى كل مكان مكبرات صوت قوية لا تتيح لأي كان الإفلات منها. وغالبا ما يصبح الشارع ذاته، والأماكن العمومية، أماكن للصلاة . وقد يشعر المار أوقات الصلاة انه يزعج المؤمنين. هذا لدرجة ان مكبرات الصوت التي تنقل العبادات أوقات الصلاة في البهو الكبير لمحطة قطار القاهرة أقوى من مكبرات الصوت التي تعلن أوقات انطلاق القطار!

ان هذا التطور يؤجج، في بلد يضم طائفة مسيحية هامة- تقدر بستة إلى عشرة مليون شخص- التعارضات الطائفية. وتقوم بعض الجماعات الإسلامية، وحتى بعض المستفزين، بإذكاء نار هذه التعارضات عن قصد كما جرى شهر أكتوبر بالإسكندرية. فقد تم استنساخ قرص DVD صادر عن الكنيسة القبطية، واعتباره مهينا للمسلمين، وتوزيعه على نطاق واسع، دون معرفة الفاعل، بقصد استثارة اعمال عنف ضد المسيحيين.

هكذا يميل كل فرد إلى تحديد ذاته بانتمائه إلى طائفة دينية، إسلامية أو مسيحية، ولن يؤدي هذا سوى إلى تعزيز سطوة السلطات الدينية لكل طائفة، وفوق ذاك سطوة "الإخوان" فيما يخص المسلمين.

يمثل حضور الإسلاميين الدقيق في ثنايا المجتمع أداة قوية للتحكم بالسكان، لكنه في الآن ذاته عامل نزعة محافظة اجتماعيا وكابحا لكل تعبير عن المطالب.

ان الإسلام، وحزب "الإخوان" الذي يمثل إلى حد بعيد تعبيره السياسي، اصبحا- او اصبحا من جديد- عامل استقرار أساسي في بلد يضعه كل لحظة بؤس قسم كبير من السكان على شفا انفجار الاستياء.

لكن الإخوان استنكفوا، حتى عهد قريب، عن كل تدخل سياسي مباشر. وقد كان هذا التدخل محاربا من النظام الذي يرى في الجماعة منافسا محتملا فمنعها وسجن قسما من أبرز أعضائها.

لكن هذه العلاقة بالنظام هي بالذات ما تغير. فبعد نهاية الحقبة الناصرية أخلت تلك العلاقة المكان تدريجيا لعلاقة اعقد، تضم في الآن ذاته منعا رسميا للجماعة وتسامحا معها ، بل حتى تعاونا عمليا معها.

وبدءا من سنوات 80 ، حاول الإخوان المسلمون أكثر فاكثر التدخل في الساحة السياسية ، لاسيما بتقديم مرشحين إلى الانتخابات التشريعية، الذين يقبلون كمرشحين مستقلين او متقدمين بتعاون مع أحزاب أخرى. وحصل الإخوان المسلمون، بهذه الطريقة، على 35 نائبا في سنوات 80، منتخبين في إطار " تحالف إسلامي. وفي الآن ذاته يقدمون مرشحين إلى انتخابات النقابات المهنية، فائزين بالأغلبية في نقابات الأطباء والصيادلة، ومقتربين منها في نقابات المحامين والصحافيين والمهندسين.

كما ساهم هذا الحضور السياسي بالمؤسسات في تغيير خطاب الإخوان المسلمين السياسي. كانت أيديولوجية " الدولة الإسلامية تمكنهم من الظهور بصورة حاملين لمطالب المساواة والعدالة الاجتماعية، ومن ثمة كممثلين لأفقر فئات المجتمع، مطابقين القول والفعل بعملهم في الجمعيات الخيرية. لكن مواقفهم السياسية كانت مواقف حزب برجوازي رجعي.

هكذا ساند الإخوان المسلمون سياسة "الانفتاح" التي بدأ بها أنوار السادات إضفاء الليبرالية تدريجيا على الاقتصاد بعد سنوات التدبير الناصري الموجه. وقد تجلت تلك السياسة في الاغتناء المذهل للبرجوازية ولطبقة أغنياء جديدة، كما في إفقار الطبقات الشعبية. لكنها كانت أيضا فرصة التحقق من أن مزاعم المساواة في خطاب الإخوان المسلمين لم تكن تحجب غير سياسة برجوازية مؤيدة لأوسع ليبرالية اقتصادية قلما تميزهم عن الأحزاب الأخرى.

ومؤخرا، عام 1997، ساند الإخوان المسلمون قانون إصلاح زراعي مضاد يفضي إلى طرد قسم من فقراء الفلاحين من أراضيهم.

وفي الآن ذاته، قام البرجوازيون الكبار والصغار، والأعيان، بدور متعاظم داخل الإخوان المسلمين، مقدمين لهم قسما من كوادرهم. كان الانتماء إلى " الإخوان، قد يظهر في حالات عديدة كوسيلة لتسهيل الأمور الإدارية، وتوسيع العلاقات التجارية. وحتى أوساط رجال الأعمال كسبوا وزنا داخل الجماعة. ولم يجر هذا التطور دون أزمات، حيث كانت الذئاب الوصولية الفتية تتواجه مع المناضلين التقليديين، أنصار إبقاء الجماعة في دور حامية حمى إسلام صاف متشدد. وقد انفصلت الاتجاهات الأكثر نشاطا عن الإخوان المسلمين، لتظهر بوجه خاص عند نهاية سنوات 70 الجماعة الإسلامية التي ارتمت في مواجهة مسلحة مع النظام. كانت هذه الجماعة مسؤولة عن اغتيال السادات عام 1981، وعن العديد من الهجمات، منها قتل 62 سائحا في الاقصر عام 1997.

يبدو حزب الإخوان المسلمين كانه تخلص من أكثر مناضليه تشددا، وكحزب زال به عمليا الاعتراض على التوجه نحو المشاركة في المؤسسات والتعايش مع النظام، وحتى المشاركة بالحكم. لقد بات حزب قسم "إسلامي" حقيقي من البرجوازية المصرية، متلهف إلى استلام كامل مكانته في دواليب السلطة ومعلن ذلك بطريقته في شعار الإخوان المسلمين الانتخابي "الإسلام هو الحل".

لكن الإعلان متزايد الصراحة عن سياسته البرجوازية لا يمنع الحزب لحد الساعة من الحفاظ على صلاته وتأثيره داخل أفقر الشرائح، التي قلما يجد من ينافسه فيها. وهذا ما قد يجعلهم لحظة ما مخاطبا لا غنى للنظام عنه، وهو أمر يعيه بلا شك قادة الإخوان المسلمين. لا ينحصر المشكل في الانتخابات، برلمانية او غيرها. وعلى كل حال، لا يمثل المسجلون بالقوائم الانتخابية غير قسم ممن يحق لهم التصويت، والمصوتون فعلا قسم اصغر من ذلك. يتيح هكذا نظام شراء المرشحين للأصوات، الذي ينضاف إلى مختلف أشكال التزوير والتلاعب التي مارسها ممثلو الحكم. ومن جهة أخرى، عندما يفشل الحزب الوطني الديمقراطي في منع انتخاب مرشحين مستقلين، تبقى بيده إمكانية جذب أولئك المنتخبين فيما بعد إلى فريقه البرلماني وبالتالي ضمان أغلبية، كما حدث خلال الانتخابات السابقة عام 2000.

لكن نظام مبارك، أيا كان طابعه الدكتاتوري، بحاجة، ابعد من الانتخابات، إلى امتداد في البلد وفي السكان. لحد الساعة، يستمد ذلك الامتداد، علاوة على الإدارة ذاتها، من أعيان الحزب الوطني الديمقراطي والزبائن الذين يتحكم بهم. لكن انقسامات الحزب الوطني الديمقراطي، وما يصيبه من إنهاك سياسي، تجعل تلك الإمدادات اقل فعالية. ومن جهة أخرى يتردد النظام، بفعل نقص تيقنه من ردود السكان، في اللجوء منهجيا إلى القمع.

لذا يعي النظام جيدا الإسهام الذي قد يقدمه الإخوان المسلمون، بفضل صلاتهم بالسكان، وهذا ما يدفعه منذ سنوات إلى قياس سلوكه معهم بدقة متناهية. فبعد الإقدام على اعتقالات واسعة في صفوف كوادر الحزب عندما يبدو لها مفرطا في الغطرسة، يقوم النظام بالإفراج عن قسم منهم. ويتساهل مع تقدم الحزب إلى الانتخابات، لكن بواسطة مرشحين مستقلين يسهل التعرف عليهم. وإذ يبقي النظام عددا كبيرا من الإخوان المسلمين في السجون، يقيم مع الجماعة تعاونا صامتا على مستويات عدة يساهم في تشجيع الخط الشرعوي الذي بات راجحا فيها.

إلى أي مدى قد يصل هذا التعاون؟ يتوقف ذلك، طبعا، على درجة إنهاك النظام في الأشهر والسنوات المقبلة، وعلى ما ستبلغ الأزمة الاجتماعية من حدة. لكن بات الإخوان المسلمون يظهرون كبديل او سند ممكن، ذي مصداقية بقدر ما قد نالوا السلطة عمليا داخل قسم كبير من المجتمع.

ردود فعل عمالية

لحسن الحظ لم يبق تدهور شروط عمل وحياة الفئات الشعبية دون رد. ففي عدد من المصانع بوجه خاص، أدى قانون العمل الجديد، وموجة الخصخصة الجديدة التي طبقها النظام في خريف 2004 ، إلى ظهور ردود فعل عمال مهددين بفقد عملهم أو متضررين من انخفاض أجورهم، بينما يستفيد أرباب العمل من تخفيف الضريبة على الشركات.

هكذا تمت، في غضون سنة، خصخصة بنك و 172 مقاولة ، بيعت بأثمان حبية وأدت إلى زوال عشرات آلاف فرص العمل. بإمكان مسيري هذه المقاولات، التي ليست صغيرة بالضرورة، ان يقرروا فجأة إغلاقها لنقل رساميلهم إلى مكان آخر، ملقين إلى الشارع قسما من العمال او رافضين أداء أجورهم بمبررات مالية غامضة.

ولا شك ان التعبير عن الاستياء العمالي تنامي بقدر اقتراب الفترة الانتخابية في خريف 2005، وبقدر ما وجب على النظام مواجهة أشكال استياء أخرى، بما فيها داخل شرائح اجتماعية أخرى. ولا شك ان عددا كبيرا من النضالات ظلت مجهولة. لكن عددا من حركات الاحتجاج، من إضرابات و اعتصامات، تمكنت من الوصول الى علم الرأي العام بمصر وبالخارج.

هكذا شهدت المنطقة الصناعية قليوبيا، شمال شرق القاهرة، حركة احتجاج ضد خصخصة مصنع النسيج ايسكو Esco . دامت 3 اشهر. بيع المصنع في سبتمبر 2004 دون إخبار العمال الـ450 رغم انهم يملكون 10% من أسهمه. ورفض رب العمل الجديد أداء المنح، التي تشكل قسما كبيرا من الأجر، وتربص بالتقاعد وبفرص العمل.

شنت مجموعات عمالية الإضراب، واعتبرته النقابة الرسمية المنضوية في الاتحاد النقابي الموالي للحكومة غير شرعي ، خلال اعتصام نظمه العمال طيلة يومين أمام بناية النقابة وسط القاهرة. وفي بعد اعتبر رب العمل بدوره مطالب العمال" غير مقبولة" .

اعتصم العمال أمام المصنع، طيلة 7 أسابيع، مطوقين بقوات الشرطة التي تمنعهم أحيانا حتى من التزود بالطعام، وهذا ما ندد به بعض العمال بإضراب عن الطعام. و في الأخير تنازل رب العمل، واعاد النظر في بعض عقود العمل الموسمية، ومنح بعض العمال المسرحين تعويضا بمبلغ 10 الاف جنيه ( زهاء 1500 يورو) لاحالتهم على المعاش المبكر، و أداء ثلاثة اشهر من متأخرات الأجور.

وفي حالات أخرى تقرر القيام بالإضراب للحصول على منحة تتيح سد نقص الأجور. ففي مصنع النسيج مصر المنوفية، المستخدم لـ1000 عامل ، ثلثهم نساء، شن إضراب 3 أيام في غشت الأخير: يبلغ الأجر المتوسط 200 جنيه( زهاء 30 يورو)، بينما لا يتقاضى ثلث العمال سوى 130 جنيه، ولم يحصلوا على أي زيادة منذ 1979. ومنذ 10 سنوات لم يحصوا على أي منحة من أي نوع.

وشملت الحركة قطاعات أخرى، مثل النقل بالإسكندرية ، حيث انتزع العمال أداء متأخرات أجورهم، وشركة المصايد المصرية التي أوقف بها مشروع الخصخصة، او الشركة المصرية للإنارة التي احتل عمالها المصنع، حسب جريدة الأهرام، وشغلوه طيلة ستة اشهر.

وقام عمال مقاولة الأسمنت تورة، التي ستشتريها الشركة متعددة الجنسية أسمنت فرنسا، باعتصام للمطالبة بضمان الأجور، إلى ان ردت الحكومة عرض الشركة المشترية. وكان عرض آخر، قدم بعد فترة، يضم التزاما بالامتناع طيلة 3 سنوات عن أي تسريح جماعي ووعد بمنح في الستة اشهر اللاحقة.

وحدثت إضرابات أخرى، كما في شركة المشاريع الصناعية ناصر-سيتي، حيث طالب 100 عامل باستقالة المدير المتهم بعدم صرف أجور شهرين وباختلاس مبالغ الاشتراكات الاجتماعية، او الشركة العربية للألمنيوم بالإسماعيلية من اجل الحصول على تعويض اجتماعي مستحق غير مدفوع.

وعلاوة على عمليات الخصخصة، استعمل أرباب العمل مبررات أخرى لتسريح العمال بلا أي إجراء آخر: اغلق مصنع مواد البناء من مادة الأميانت، اورا-مصر، أبوابه بعد صدور مرسوم حكومي في سبتمبر 2004 بمنع استعمال هذه المادة الخطيرة، بعد تأخير طويل!. وبكل بساطة قام مالكه بالغ الثراء بتسريح كافة العمال دون اكتراث بدخلهم ولا أي تعويض للأضرار التي ألحقها الأميانت بصحتهم. لكن العمال ناضلوا طيلة شهور للحصول على حد أدنى من التعويض المالي.

على هذا النحو يبدو أن تليين قبضة الدكتاتورية قد قاد عددا من العمال إلى جرأة التعبير عن مطالبهم والنضال من اجلها، دون مخاطرة آنية بقمع عنيف او السجن. جلي انه أمر إيجابي رغم ان السياق العام سياق نكوص سياسي واجتماعي.

المعارضات الأخرى

هذا لأنه ليس ثمة، بوجه تنامي تأثير الإسلاميين وسطوتهم على المجتمع، من معارضة للنظام على يساره. لا يظهر الحزب الشيوعي، الممنوع، سوى في إطار التجمع الوطني التقدمي الوحدوي المعروف اكثر باسك " التجمع" والذي يعلن انه "ماركسي". والواقع ان التجمع، وضمنه الحزب الشيوعي، قلما يتميزان عن الأحزاب البرجوازية التي تندد باستمرار مبارك في الحكم باسم " الديمقراطية". هذا لدرجة تشكل،عشية الانتخابات، "جبهة وطنية من اجل التغيير" تضم على السواء التجمع والحزب الديمقراطي الناصري، و"الوفد الجديد" الذي استعاد اسم الوفد، الحزب الديمقراطي البرجوازي التاريخي بمصر، وحركة كفاية، وحزب العمل(حزب إسلامي). وتجب الإشارة إلى ان عدم ضم هذه" الجبهة من اجل التغيير" ، المنظمة حول الوزير الأول السابق عزيز صدقي، لحركة الإخوان المسلمين ليس اختيارا لمؤسسي الجبهة بل لأن "الإخوان" لا يريدون الجوار "الماركسي" للتجمع.

على اي حال، يتعلق الأمر في احسن الأحوال بتجمع ديمقراطي برجوازي قاسمه المشترك معارضة مبارك.

ليس لهذه الجبهة، ولا للتجمع وحده، ولا للحزب الشيوعي، أي دلالة بنظر الجماهير الشعبية، التي لا يمكن وعدها من هذا الجانب بأي حل لما تواجه من مشاكل مأساوية.

تجدر الإشارة أيضا في انتخابات نوفمبر 2005 هذه إلى ان مناضلين من مختلف المشارب حاولوا سد هذا النقص، بالأقل حسب ما بوسعهم. تلك حال مركز الخدمات النقابية، وهو هيئة معارضة نقابية قدمت أربعة مرشحين عماليين مستقلين، منهم مسؤولها كمال عباس في مقاطعة حلوان، الضاحية العمالية جنوب القاهرة. ومن جانب آخر قدمت مجموعة الاشتراكيين الثوريين-القريبة من حزب العمال الاشتراكي البريطاني- مرشحا في حي امبابة الشعبي بالقاهرة.

لكن الأخطر، ما خلا هذه المبادرات، هو غياب تام عمليا، على صعيد الأحياء والمنشآت، لمناضلين يمثلون معارضة طبقية. وان غياب هذه المنافسة هو ما يفسر إلى حد بعيد سطوة الإخوان المسلمين. فانفرادهم بالوجود بين الجماهير، وبروزهم كمدافعين عن الفقراء والعدالة الاجتماعية، يجعلهم على أهبة استعمال وصولهم إلى الحكم لصالح البرجوازية، او قسم البرجوازية الذي سيثق بهم.

ان المشكل المطروح، بينما تبرز الردود الطبقية، ويبدو ان الإخوان المسلمين يقتربون من السلطة السياسية، لكنهم باتوا يمارسون السلطة بالمجتمع، هو إرساء معارضة عمالية، من خلال مناضلين عازمين على الدفاع حتى النهاية عن المصالح الاجتماعية والسياسية لطبقتهم.

17 نوفمبر 2005.

تعريب المناضل-ة