موجة المعارضة في الدول العربية - 2011

Εκτύπωση
ترجمة

من مجلة النضال الطبقي. عدد 134، مارس 2011

23 فبراير 2011

ما تزال نيران التمرد مشتعلة في جزء كبير من العالم العربي الممتد كقوس من جنوب البحر المتوسط إلى شرقه، من المغرب إلى اليمن. ولقد أدت التحركات إلى سقوط ديكتاتور تونس، بن علي، بعد حكم دام ثلاث وعشرين عاما، ومبارك الذي استمر في حكم مصر ثلاثين عاما. وقد طالت موجة المعارضة هذه بشكل مشابه الجزائر، والأردن، واليمن، وإمارة البحرين الصغيرة، وموريتانيا وجيبوتي وليبيا.

غير أن الأمور اخذت منحى أكثر دموية في ليبيا، خاصة مع القمع الدموي الذي يمارسه القذافي. وهي تشبه، حين كتابة هذا النص، الحرب الأهلية والتي يصعب التنبؤ بمسارها المستقبلي.

ومن أسباب انتقال عدوى التمرد طبعا وجود اللغة والثقافة المشتركة. لكن الدور الأكبر يأتي من تشابه هياكل المجتمع والوضع السياسي في هذه البلدان على تنوعها : ديكتاتوريات متكئة على الجيش، وأنظمة بوليسية يتآكلها الفساد، وانعدام الحريات والحقوق الديمقراطية الأساسية.

وترتكز كل هذه الديكتاتوريات على اقتصاد متخلف مرهون بالاقتصاد الخارجي. ما يعني أنها راضخة للإمبريالية ولتكوينات اجتماعية تتميز بتفاوت معيشي صارخ بين طبقة غنية وطبقات موضوعة في حالة من البؤس المستمر. وفي بعض الحالات، تؤمن الثروات المختلفة، الطبيعية كالنفط أو الاصطناعية كقناة السويس، المردود الكافي لقادة الدولة كي يتركون بعض الفتات لباقي المجتمع.

ولكن هذا المجال لقادة الدولة في التعاطي ليس متوفرا في كل الدول. وحتى لو توفر، فالوضع يختلف عندما يبلغ عدد السكان أكثر من ثمانين مليون نسمة كما هو الحال في مصر، مقارنة مع بضعة إمارات صغيرة مجزئة على هوى التنافس بين شركات النفط. ولكن بعض هذه الإمارات الغنية الشبيهة بملهى للسياح، يشكل فيها العمال المهاجرون الشبه مستعبدون القسم الأكبر من الطبقة العاملة، وتتشابه فيما بينها بالنسبة للتكوين الاجتماعي، مع سلطات بوليسية تلبي مصالح الولايات المتحدة وتفرض التفاوت الاجتماعي بالهراوات وحتى بالرصاص إذا استلزم الأمر.

وبمجرد قيامها بهذا الدور، تلعب هذه الدول دور الحامي للنظام الإمبريالي، ذلك مهما كان توجه سياستها الخارجية. فهي تقوم بمهمة كلاب الحراسة للشركات الكبيرة في الدول الإمبريالية المهيمنة على الاقتصاد عبر تواجدها في الاقتصاد الداخلي أو عبر ما تحققه من أرباح في التبادل التجاري الدولي.

حتى النظام الليبي في عهد القذافي، الذي لعب لعدة سنوات غوغائية المعاداة للامبريالية، لم يخرج عن هذا الدور الجوهري مقارنة بنظرائه المترتبطين علنا بالقوى الإمبريالية الكبرى. فلم يكن للديكتاتور الليبي أية مشكلة للدخول في الصف. وقد تميزت السلطات الفرنسية كالمعتاد بالاحتفال، بطريقة مثيرة للاشمئزاز، باسترجاع الصداقة مع الديكتاتور الذي يذبح شعبه اليوم بالأسلحة التي اشتراها من "ديمقراطيات الغرب الكبرى".

أما في الجزء الشرقي من العالم العربي، ترضخ منطقة الشرق الأوسط لمراقبة شديدة من قبل القوى الامبريالية، إن بسبب مواردها النفطية أو بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي. وفي معظم هذه البلدان تتجلى تبعية الأنظمة للإمبريالية بشكل واضح حيث أن لمنظماتها العسكرية صلات وثيقة مع الغرب، و قد تم تدريب كبار الموظفين في هذه المؤسسات في سان سير* في فرنسا أو في المدارس العسكرية الأخرى في انكلترا أو الولايات المتحدة.

وتعود الجذور العميقة للانتفاضة المتنامية في الدول العربية إلى البؤس الكبير بين الجماهير المستغلة، وفي تدني أجور العمال التي تبلغ في مصر أربع مرات أقل من تلك التي في تركيا، الأمر الذي شكل حافزا للشركات الرأسمالية الغربية للانتقال إلى ضفاف النيل. وأيضا في بؤس الفلاحين. وفي البطالة المتفشية حتى عند البرجوازية الصغيرة المفكرة، ذلك رغم حيازتها على شهادات علمية متنوعة. ويبدو أن هذه الفئة من "الخريجين العاطلين عن العمل" تلعب دورا هاما في الانتفاضة، كما حال الشاب المتعلم محمد البوعزيزي الذي أصبح رمزا للتمرد في تونس، فبعد محاولته العيش من بيع الخضروات، انتهى إلى حرق نفسه حتى الموت نتيجة تواصل إذلال الشرطة له، معطيا بذالك إشارة البداية.

يضاف إلى ذلك دور أزمة الاقتصاد الرأسمالي. فعواقبها كارثية على الطبقات المستغلة في البلدان الامبريالية نفسها. أما في البلدان التي يعيش جزء كبير من سكانها على حافة الفقر، فمن شأن ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية أن يؤدي إلى مجاعة.

مساوئ الأنظمة بالنسبة للبرجوازية

إلا إن الأنظمة العسكرية المقنعة بعض الشيء الحاكمة في هذه البلدان، لا تأتي دائما بالفوائد على الطبقة الوسطى ولا حتى على الإمبريالية. فعندما يقوم الجيش بفرض سلطته دون منازع لمدة خمسين عاما كما الحال في مصر، من الطبيعي أن يطوق أيضا إلى زيادة قوته الاقتصادية. فالسلطة العسكرية في مصر تحتل مكانا هاما في الاقتصاد، وتسيطر بشكل مباشر على صناعات بأكملها، ليس فقط في مجالي الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية، بل أيضا في مجالات متنوعة مثل صناعة الأغذية الزراعية، صناعة البلاستيك، والبناء، وتشييد المساكن، والسياحة، الخ. (يقال أن الكثير من المنشآت في منطقة شرم الشيخ السياحية هي من ملك جماعة مبارك). وكذلك في القطاعات الاقتصادية المتبقية حيث يبقى وصول البرجوازية المحلية إلى المعلف مرهون بالعلاقات التي تربطها بالسلطة السياسية.

وبالإضافة إلى ذلك، فالدكتاتور نفسه، وخصوصا عندما يبقى على رأس السلطة لعقود من الزمن، يصبح لديه أيضا ميل طبيعي لتعزيز مكانة عائلته وحلفائه. فتقوم جماعة السلطة السياسية بالتعدي على سلطة البرجوازية الاقتصادية نفسها. وسنوات حكم بن علي الأخيرة كانت مليئة بروايات عن قيام جماعته، ولا سيما عائلة الطرابلسي التي تنتمي إليها زوجته، بإبعاد أعضاء من البرجوازية عن الصفقات الأكثر ربحا.

إذن يؤدي الدفاع عن النظام البرجوازي إلى سلطة من المافيا تدفع البرجوازية ثمنها في نهاية المطاف. وذلك ليس حال البرجوازية المحلية وحدها، فحتى شركة نستله العملاقة، التي خدمها حكم بن علي الديكتاتوري عبر إبقائه أجور العمال التونسيين منخفضة، اضطرت لتقديم هدية لعائلة الطرابلسي على شكل أسهم في الشركات المحلية التابعة لها. فتغذية كلب الحراسة مكلف طبعا، ولكنه، علاوة على ذلك، يتجرأ على عض ساق مربيه!

أما في مصر، فينسب لعائلة مبارك ثروة تتراوح بين 40 و70 مليار دولار، وهو ما يقارب ثروات أقدم وأغنى سلالات البرجوازية في العالم! تأتي هذه الثروة الهائلة من خزائن الدولة ومردودات قناة السويس وغيرها من المصادر العديدة. وهي بذلك أموال لم تملئ أجياب البرجوازية.

وكما جاء في توضيح في صحيفة لوموند* الفرنسية، على لسان المفكر الليبرالي في شؤون رجال الأعمال والخبير الاقتصادي في معهد كارنيجي للشرق الأوسط في بيروت ، لاهسن آشي*، أن ديكتاتوريات الشرق الأوسط هي المسؤولة عن استبعاد الجيش "للمواطنين العاديين" (حسب تعبيره) الراغبين في الاستثمار، أو إجباره لهم على التواطؤ مع السلطة في سبيل تحقيق مشاريعهم، أي التشارك معها، وذلك تحت قناع "السوق الحرة". ثم يواصل انتقاداته قائلا (انظر الملف الاقتصادي في لوموند، 8 فبراير 2011) : "وقد احتكر أشخاص في السلطة المؤسسات المخصخصة وحصلوا على امتيازات بالنسبة للعقود مع الدولة، وحتى أن بعضهم يراكم المناصب السياسية التي تسمح لهم بتوجيه القرارات المالية أو الاقتصادية في الدولة بشكل يناسب مصالح شركاتهم". ويستنتج بأسف أنه "في ظل هذه الظروف، يصبح المواطن البسيط الذي يريد الاستثمار أو إنشاء شركة ما، مجبرا على مواجهة الفساد، وعدم امكانية الحصول على قروض، وعدم فعالية إدارة الدولة، وهيمنة الشركات القائمة، ووحشية العدالة، وصعوبة الحصول على مساعدات من قبل الدولة".

ونجد حالة شبيهة إلى حد ما في عهد هتلر في ألمانيا، وإن كان السياق مختلفا كون ألمانيا دولة امبريالية غنية. فالبرجوازي المتأصل كان يتذمر من دون شك عندما كان يضطر لدعوة المأجور السابق عند الجزار إلى مائدة الطعام كونه قد أصبح جنرالا في البوليس السري! ذلك إن لم يكن مجبرا على إطاعته. لكنه لم يكن للبرجوازية الألمانية خيار آخر لأنها كانت بحاجة إلى هذا النظام في سبيل الحفاظ على مكانتها الاجتماعية وإضعاف الطبقة العاملة.

غير أن الحال لا يتطابق مع بن علي في تونس ومبارك في مصر. فتوازن العلاقات بين البرجوازية ومن يدافع عن مصالحها من حكام الدولة يختلف عندما تكون البرجوازية غنية وقوية كالتي في ألمانيا الإمبريالية، مقارنة مع وضع البرجوازية في بلد متخلف حيث، وإن كانت لا تقل جشعا عن الأولى، إلا أنها تفتقر إلى المكانة والوزن في المجتمع من أجل قهر الطبقة العاملة. لكن السيطرة شبه الكاملة للديكتاتور وعشيرته والجباية التي يقومون بها على الأرباح تؤدي إلى تذمر المستثمرين في هذه البلدان رغم امتنائهم لهم بتوفير عمال يقبلون أجورا بائسة. وفي مقابلة تلفزيونية مع السيدة باريزو، رئيسة تجمع أرباب العمل في فرنسا (ال ميديف*)، بعد رحيل الدكتاتور بن علي، تلفظت باريزو الصعداء مشيرة إلى أنه قد أصبح من الصعب فعلا في الآونة الأخيرة تحقيق أرباح في تونس!

ويشاطرها كريستوف دو مارجري* هذا الرأي، وهو معني بشكل كبير بما يحدث في الشرق الأوسط، كونه مدير شركة توتال النفطية، حيث قال : "يمكننا اعتبار رحيل الرئيس بن علي أمرا جيدا" مضيفا بالنسبة لتونس ومصر (في صحيفة لو جورنال دو ديمانش * في 13 فبراير 2011)، "إن سقوط هذه الأنظمة لا يربكنا، لا يجب اعتبار أرباب العمل وحوشا يفضلون العمل مع الحكام المستبدين". طبعا، طبعا ...

هذه الشركات الكبيرة لا تتصرف كوحوش إلا عندما تتعرض مصالحها للخطر بشكل مباشر وسريع. ذلك ما اعتقده، عن حق أو عن خطأ، مسؤولوا شركة الموز "يونايتد فروت" في غواتيمالا أيام أربينز*، ومسؤولوا شركات النفط في إيران أيام مصدق، وأولئك في النحاس في شيلي أيام أليايندي* وغيرهم الكثيرين في هذا العالم حيث لا نحتاج إلى البحث بعيدا لنجد أن وراء الانقلابات ضد السلطات البرلمانية، يد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ومال الشركات الكبيرة.

الوجه البرلماني للإمبريالية

أدركت الامبريالية على مر السنين، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي لطالما كانت وراء الإنقلابات العسكرية والتي حمت الديكتاتوريين بواسطة أجزهتها الاستخبارية، أن بإمكان الأنظمة البرلمانية أو ما شابهها أن تكفي لتحقيق مشاريعها.

فبطرس بطرس غالي، على سبيل المثال، وهو الأمين العام السابق للأمم المتحدة ووزير سابق في عهد مبارك ومدافع عن نظامه حتى آخر لحظة، قال، عند قيام أولى المظاهرات في القاهرة، أن الشيء الوحيد الذي يلوم مبارك عليه هو تلاعبه في الانتخابات البرلمانية السابقة، وعدم إعطائه أي مجال للمعارضة. وأضاف ما مضمونه : لكان من شأن ذلك السماح بالتعبير عن السخط في البرلمان بدلا من الشارع.

لعل هذا الخادم القديم للامبريالية أخطأ في نسب كل هذه المحاسن للنظام البرلماني في بلد فقير، حيث أن أعمال الشغب كانت لتقع على أية حال. فبالإضافة لغياب الحرية، كان للثورة ضد الرئيس بن علي أسباب أخرى كالبطالة وغلاء المعيشة. وقد حصل عدد لا يحصى من الثورات في الهند، هذا البلد الذي تدعوه البرجوازية "أكبر ديمقراطية في العالم"! لكن مع ذلك، في ما قاله بعض من الصحة. على أي حال، فالدول الإمبريالية الأمريكية أو الفرنسية بدأت، بعد فترة طويلة لم تسمح فيها بوجود أي نظام يشابه النظام البرلماني في البلدان التي تحت هيمنتها الاقتصادية المباشرة، بتليين سياستها تدريجيا.

ففي الزمن الذي كان بإمكان الحركة العمالية تهديد مصالح البرجوازية، لم تكن الأخيرة لتسمح بوجود منصة برلمانية تمثل هذه الحركة، ولو حتى في برلمان زائف. لكن خطورة الحركة العمالية الثورية قد قلت منذ فترة طويلة. ثم جاء بعدها، في فترة الحرب الباردة، احتمال وصول نظام مساند للإتحاد السوفياتي إلى السلطة، إن لم يتم تزوير الإنتخابات بشكل كاف لمنع ذلك. الأمر الذي جعل الولايات المتحدة، خلال السبعينيات، من أولى الدول التي فرضت الديكتاتوريات في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية، لا سيما مع تخوفها من تكرار التجربة الكوبية في هذه الدول المحيطة. وكذلك فعلت فرنسا في في دائرة نفوذها التي تضم مستعمراتها الأفريقية السابقة. من هوفواه بوانيي في ساحل العاج إلى الامبراطور بوكاسا الأول في إفريقيا الوسطى، وغيرها العديد من الديكتاتوريات القاسية في إفريقيا وفي غيرها من الدول النامية. ذلك حتى في أوروبا، مع فرانكو وسالازار المتبقين من حقبة أخرى، يضم إليهم العقداء اليونانيون في عام 1967.

وقد بدأت الديمقراطية الكاريكاتورية بالظهور حتى قبل تصدع الاتحاد السوفياتي، وذلك تحت ما سمي بالتعددية الحزبية. فالبلدان الأفريقية من جانبها قد بدأت منذ الثمانينات بتطبيق هذا الشكل من الحكم البرلماني. فأتاح هذا النظام للطبقة الراقية الضئيلة العدد اللعب في انتخابات مزورة في غالب الأحيان، فيرفض الفريق المهزوم نتيجتها، ولكنها تسمى انتخابات رغم كل هذا. أما الجماهير المستغلة فلم يصبح لديها المزيد من الحريات أو الحقوق الديمقراطية، وما انفكت تخضع لتعسف الشرطة أو الجنود، للابتزاز والرعب. ويبقى التنافس على المناصب حصرا على من يسمون بالنخبة في هذه البلدان.

هذا التحول في الأنظمة الإفريقية لم يشمل دول المغرب العربي. فما فتأت المغرب تحت سيطرة "صديقنا الملك"(حسب مقولة المتوافدين على السلطة في فرنسا). وفي تونس، أقيل بو غريبة عن السلطة على يد وزير داخليته، بن علي. وفي مصر، حل مبارك مكان السادات، ليس حتى عبر انتخابات مزورة، بل بفضل خيار قائد القوات المسلحة.

إن الخيار الاستراتيجي للقوى العظمى في اتجاه أنظمة شبه برلمانية أو ذات تعددية حزبية على كل حال، لم يذهب إلى حد طرد الطغاة الذين خدموا مصالحهم بشكل جيد. وعلى الأغلب، قاموا بالتخلص منهم عندما تحولت سلطة هؤلاء إلى هوس في السرقة أو إلى جنون العظمة الشديد، كما في حالة موبوتو وبوكاسا*. إذ أصبح بعض الطغاة فعلا يأخذون مكانا كبيرا حولهم.

وتظهر الوقائع في تونس بوضوح كيف أن الإمبريالية الفرنسية مكتفية تماما من نظام بن علي رغم تصرفه كالمافيا. فرؤوس الأموال الفرنسية ما انفكت عن البحث عن استثمارات في تونس. والأرباح الكبيرة التي حققت بفضل تدني أجور العمال سمحت بتوزيع الرشاوى لقادة الدولة. كما أن الوزراء وغيرهم من خدام البرجوازية السياسيين وعائلاتهم كانوا يقبلون بسعادة بما كان الديكتاتور يتيح لهم من إمتيازات.

وقد حصل الأمر ذاته في مصر : فإذا كان أوباما الآن يتعجب للإنتقال الديمقراطي، ديمقراطية نسبية جدا طبعا كونها مجسدة بمارشال، فمبارك كان قد حصل، طوال الثلاثين سنة الماضية، على التأييد والتمويل من قبل الولايات المتحدة وإنها لم تتخل عنه إلا عندما أصبح ذلك ضروريا في محاولة لتهدئة التمرد ضده.

وإذا كانت الليونة في السياسة الإمبريالية لا تذهب إلى حد طرد الديكتاتور الذي يخدم مصالحها، فإنها تقبل بالانتقال نحو نظام برلماني حين يسمح ذلك بتغيير رأس النظام دون تغيير ما تبقى.

فلنقل بوضوح أن هذا التغيير الموصوف بالديمقراطي لن يغير شيئأ في الفروقات الاجتماعية الصارخة ولا في السيطرة الاقتصادية للطبقة الراقية، ومن ورائها سيطرة الامبريالية، على ظهر الطبقة العاملة الرازحة تحت الفقر. وهو لن يغير شيئا حتى في الديكتاتورية. لأن الديكتاتورية، ما معناه القمع بواسطة أجهزة الدولة كالشرطة والجيش والدوائر الحكومية، ليست فعل رجل واحد يسيطر على السلطة. فالنظام البرلماني في الهند يضاهي، في مجال كبت الفقراء والمستغليين، أشرس الديكتاتوريات.

وفي حين أن البرلمان المنتخب في الهند لم يتعرض، على عكس باكستان المجاورة، للتفكيك ولا حتى للتهديد بانقلاب عسكري، يأتي الاستقرار في المجتمع الهندي، ذي الفوارق الاجتماعية الكبيرة، من دمج الفوارق العائدة إلى نظام الطبقات العشائرية المتخلف ضمن النظام البرلماني الحديث. فماذا يعني، على سبيل لمثال، القبول ببعض أشخاص ينتمون إلى العشائر "الدونية" أو حتى إلى طبقة "المنبوذين" داخل برلمان نيودلهي في حين يطبق نظام الطبقات العشائرية بقوانينه، بحماية الدين، على المجتمع بكل مستوياته ؟

ولطالما تمكنت الامبريالية من دمج وضم التكوينات الاجتماعية المتخلفة إلى تشكيلها الاجتماعي. فالطابع المفبرك للبرلمان في ساحل العاج لا يقتصر على الغش في الانتخابات بل يتجلى أيضا بالمبارزة القائمة حاليا بين أوواتارا وغباغبو. فلطالما تكيف هذا النظام البرلماني مع تناحر الديوك من ملوك ونبلاء في المناطق الصغيرة ومع الكثيرين غيرهم ممن أخرجهم الاستعمار من النفتلين ليؤمن لهم مكانهم في ساحل العاج المستقل.

أما الديمقراطية في الدول الامبريالية الغنية فإنها قد أسست، في قسم كبير منها، عبر قيام البرجوازية خلال الحقبة الثورية، بتدمير هذه الأشكال الاجتماعية المتخلفة. لكن حتى في هذه الديمقراطيات الحديثة نجد بقايا سخيفة كالمؤسسة الملكية في بريطانيا، مع القصور وعربات الخيل وحفلات الزواج الملكية.

وإن كان لها شكل كوميدي أكثر منه تراجيدي - ذلك دون نسيان أن المؤسسة الملكية مكلفة - فإن الديمقراطيات في الدول الامبريالية ترتكز قبل كل شيء على ثرواتها الكبيرة. هنا، على حسب ما قال تروتسكي، استمرت الديمقراطية البرجوازية في بريطانيا وتأصلت بواسطة نهبها لمستعمراتها الشاسعة. كذلك يمكننا القول بالنسبة لفرنسا. أما الولايات المتحدة الأميركية فديمقراطيتها تستند إلى نهب العالم بأسره، وخاصة دول أميركا الاتينية.

وطالما يشكل الفقراء في الدول النامية القسم الساحق من الشعب، فلا مكان لديمقراطية فعلية. وحتى الصين التي استطاعت، بفضل الثورة الفلاحية التي قادها ماو تسي تنغ عام 1948، أن تنزع من تكوينها ملامح التفاوت الاجتماعية الأكثر تخلفا، نجده اليوم هذه الفروقات تزداد سوءا مع الرأسمالية الجامحة، ومعها الوسائل لقمع الفقراء. والمشكلة هي، في الصين أو غيرها، ليست فقط باستحواذ الحزب الواحد على السلطة بشكل ديكتاتوري، بل أيضا بوزن الإقطاعيين المحليين الثقيل والهمجي. فإن مر ذلك عبر حزب يطلق على نفسه صفة "الشيوعي" لا يغير شيئا من طبيعة الأشياء.

مدى الحركات الاحتجاجية

إن حركات الاحتجاج في العالم العربي هي بلا شك مهمة سياسيا، ومن شأنها أن تغير الوجه السياسي للبلدان المعنية. وما يؤدي إلى تغيير موازين القوى هو انخراط فئات محددة من الشعب في هذه الاحتجاجات. لكن، من أجل فهم ديناميكية هذه التحركات، من المهم أن نعرف ما هي القوى الاجتماعية المشاركة، ما هي مصالح كل منها، وما هي علاقاتها المتبادلة.

يكمن وراء عبارة "الانتقال الديمقراطي" طموحات الجماهير الكبيرة في المزيد من الحرية والحقوق، بدءا من إمكانية توفير الغذاء، انتهاء بالرغبة في تغيير لدى الطبقة البرجوازية نفسها.

ومن المهم أن نفهم بوضوح أن أحدا لا يستطيع أن يتنبأ مدى تطور حركة الاحتجاج في الدول العربية، أو ما إذا كان هناك من تطورات ستحصل. كما أنه من الغباء الإدعاء مسبقا أن جل ما نستطيع فعله هو توفير طاقاتنا ل"إسقاط" بعض الحكام الذين شاخوا في استبدادهم، والذين بأي حال ستقصيهم سنيهم التي هرمت، وإتاحة الفرصة للقوى الإمبريالية الكبرى لإعادة رسم هذه الديكتاتوريات على أشكال برلمانية زاهية.

ومن الحماقة أيضا الإطلاق بفخر اسم "ثورة" على ما يحدث في الدول العربية. وإن كان من الممكن أن يؤدي الحراك إلى ثورة بما أن الجماهير تتعلم من خلال الحراك والمواجهة بين الطبقات الاجتماعية، وهو السبيل الوحيد لها للتعلم.

إذا، طالما هناك حراك، فالأمل موجود. وعلينا أن نتذكر أيضا أن الطبقة العاملة في روسيا، التي تحملت كافة عيوب المجتمع الإقطاعي والقمع من قبل القيصر، قد بدأت ثورة يناير 1905 بغناء الأناشيد وراء الكاهن لإيصال "الشكاوى بشكل محترم" إلى القيصر. على الرغم من أن هذه الطبقة قد سحقت في نهاية المطاف من قبل قوى عسكرية عليا، ولكنها في الوقت نفسه تعلمت التسلح لتؤدي إلى زعزعة النظام الإمبراطوري المتمركز منذ قرون، وتعلمت بشكل خاص إنشاء مجالس العمال "السوفياتية" التي أنبأت لزمن طويل ما المؤسسة التي يمكنها تجسيد السلطة العمالية. فكان لهذه الطبقة، في بداية ثورة 1917، الرد الفعل السريع لجمع السلاح والرغبة للتواصل مع عساكر الجيش الروسي في سبيل تحفيذهم على التمرد على قادتهم. والأهم من ذلك قامت بتشكيل مجالس السوفيات بشكل طبيعي هذه المرة. أما الانتقال من ثورة شباط/فبراير إلى ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1917، واستيلاء البروليتاريا على السلطة فإن ذلك قد استلزم وجود الحزب البلشفي. طبعا أنه من دون هذا الحزب، لم يكن من الممكن لثورة أكتوبر أن تحدث. لكنه لم يكن بقدور الحزب البلشفي فعل أي شيء في عام 1917 دون الخبرة الجماعية التي اكتسبتها مجمل المستغلون في تجارب العام 1905 وفبراير 1917.

وللعديد من الدول العربية في الماضي البعيد او القريب، تجارب غنية في الحركات العمالية النضالية. وقد انفجرت الطبقة العاملة على الساحة السياسية في الثلاثينات في فلسطين والعراق. وعادت لتنفجر بعد الحرب العالمية الثانية في مصر واستمرت حتى الخمسينات حين استولى عبد الناصر على السلطة. كما كانت الحركات المنتسبة إلى الشيوعية قوية في العراق والسودان.

لكن الحركة العمالية المنظمة كانت قد وقعت تحت سيطرة الستالينية، وهي مدرسة سيئة فعلا بالنسبة للطبقة العاملة التي كانت ماتزال تشق طريقها. وقد تعرض آلاف العمال المناضلين ليس فقط للقمع من قبل القوى الانكليزية والفرنسية الكبرى المهيمنة في ذلك الوقت على منطقة المغرب العربي والشرق الأوسط، ولكن أيضا للتشرذم الفكري بسبب الستالينية. وقام ستالين، من خلال خنق صوت الشيوعيين الثوريين، بتميهد الطريق لجيل من الشباب الضباط مرورا بعبد الناصر في مصر وقاسم في العراق، إلى ضباط آخرين في سوريا، لتجسيد "القومية التقدمية"، وهي كناية عن ديكتاتوريات تعاطت مع الشعب بشكل أبوي بعض الشيء في البداية، ثم بشكل أقل تدريجيا، لتصبح في النهاية سلطة عسكرية. وجاء بروز الحركات الاسلامية ليكمل تحولها في نهاية المطاف.

لكن بروليتاريا الدول العربية الآن هو أكثر تعدادا وأكثر شبابية بكثير من بروليتاريا فترة ما بين الحربين العالميتين. عليه تعلم كل شيء، وباستطاعته تعلم كل شيء، وخاصة إذا وجد في هذه الدول، بين الشباب المفكرين وحاملي الشهادات المتفرقة المهمشين عن سوق العمل، من بإمكانهم استرجاع الممارسات الشيوعية الثورية.

وإذا استطاعت الحركات المعارضة الحالية تحقيق وتكريس بعض الحريات، وإن كانت ضئيلة، على الجيل الحالي استغلال هذه الفرصة لإعادة إحياء الماضي الشيوعي الثوري، ذلك مثلا من خلال قراءة الكتب في سبيل تعميق ثقافتهم، وعبر توصيل أفكارهم إلى الطبقة العمالية. إذا حقق هذا، يصبح بإمكاننا إذن توقع "ثورة عربية حقيقية"، وهي ثورة البروليتاريا والمستغلين في هذه الدول.

*

سان سير Saint-Cyr :

لوموند : Le Monde

لاهسن آشي : Lahen Ashy

باريزو : Parisot

ميديف : MEDEF

كريستوف دو مارجري : Christophe de Margerie

يونايتد فروت : United Fruit

أربينز : Arbenz

أليايندي : Allende

موبوتو : Mobutu

بوكاسا : Bokassa