مصر بين ديكتاتوريتين ودروس حراكات "الربيع العربي" *** نص مفصل *** 2013

Print
ترجمة

********

حلقة ليون تروتسكي - 22 نوفمبر 2013

********

عناوين الفقرات

مصر : من الاستقلال الى انقلاب "الضباط الأحرار"

من السادات الى مبارك : الانفتاح الاقتصادي والتقارب مع الإمبريالية

الحراك في فترة يناير ــ فبراير 2011

دور الإخوان المسلمين

"التحول الديمقراطي" المزعوم ... في محاولة للحفاظ على الجوهر

إضرابات وحراكات عمالية بعد سقوط مبارك

فوز الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية

الإخوان المسلمون في السلطة

نشوء ائتلاف مناهض لمرسي

عودة الجيش إلى السلطة

ماهي آفاق العمال ؟

مصر بين ديكتاتوريتين ودروس حركات "الربيع العربي"

حلقة ليون تروتسكي - 22 نوفمبر 2013

في 17 ديسمبر 2010، أي منذ ما يقارب الثلاث سنوات، أقدم الشاب البائع المتجول محمد البوعزيزي على حرق نفسه. كان يريد بهذا الاسلوب الاحتجاج على مصادرة عربته من قبل الشرطة. خرجت تظاهرات في الايام التي تلت، وبالرغم من القمع، توسعت الاحتجاجات ووصلت الى تونس العاصمة. في 14 يناير، ترك الدكتاتور بن علي السلطة على عجل ليلجأ الى المملكة العربية السعودية، ذلك بعد أن مكث في السلطة لمدة 24 عاما.

كان ذلك بداية لموجة صاعقة هزت العالم العربي، هذه المنطقة الممتدة كقوس حول البحر الابيض المتوسط، من موريتانيا في المغرب وحتى الشرق الاوسط.

في الاشهر الاولى أصاب الهلع كل الانظمة في المنطقة من انتشار عدوى الحراك. وكان خوفها في محله. فحركات الانتفاض كان لديها دائما طابع الانتشار، كعدوى، فتجتاز الحدود، وذلك حتى قبل اختراع الانترنت. والرقابة الاكثر تشددا لم تقدر على منع البث الفضائي من نشر صورا لآلاف المتظاهرين في تونس وهم يهتفون شعار "إرحل"، فشوهدت هذه الصور في كل العالم العربي، وخصوصا على قناة الجزيرة، هذه القناة الاخبارية التي تبث باللغة العربية وعلى مدى الساعة.

إن جماهير هذه المنطقة تشعر، ومنذ وقت طويل، بالانتماء الى كيان واحد. ذلك ليس فقط بسبب اللغة أو الدين الاسلامي، وهو أبعد من ان يكون الدين الوحيد في المنطقة، بل لأن لديهم ماض مشترك وتاريخ غني خصوصا بالنضال ضد السيطرة الاستعمارية التي عانوا منها جميعا. وفي الآونة الاخيرة، بعد الحرب العالمية الثانية، سادت العالم العربي بأجمعه، وخلال عشرين سنة، انتفاضات ضد السيطرة الاستعمارية، وكان المنتفضون واعيين بأن صراعهم واحد.

ذلك كما أن حال الجماهير العربية اليوم يقرب بعضها من الآخر، فالتخلف والبؤس والقهر سيان في جميع بلادها.

وكان النظام السياسي في البلاد العربية عبارة عن دكتاتوريات، ييقودها حكام منذ عقود عدة، كما كان حال بن علي. ومبارك الذي حكم مصر منذ 1981 كان قد صرح عام 2005، بعد فوزه في انتخابات رئاسية صورية، بأنه سيبقى رئيسا حتى أنفاسه الاخيرة. لازال مبارك حيا ولكنه لم يعد رئيسا... كان مصيره كمصير الكثير من الطغاة الذين سبقوه. فالجماهير بحراكاتها قد خلقت وضعا سياسيا جديدا في جميع أنحاء العالم العربي.

لم يكن لهذه الحراكات، في مختلف البلدان، نفس العمق ولا نفس الطابع. ففي ليبيا وسوريا تلت سريعا أولى التظاهرات اشتباكات بين قوات مسلحة وميليشيات من أصول وانتماءات متنوعة لا تشكل أي منها أي تقدم بالنسبة للجماهير.

في تونس ومصر، كانت هناك حراكات واسعة شاركت فيها عدة فئات من المجتمع، فكان ولا يزال لديها طابع شعبي. في هذين البلدين، شاركت الطبقة العاملة في الحراكات، وقام آلاف العمال بالإضراب وبالتظاهر وبمواجهة القمع.

وبعد ما يقارب على الثلاث سنوات من بدء حراكات لـ "الربيع العربي"، من المشروع محاولة تقييم التغيرات التي حدثت واستخلاص العبر من الأحداث التي هزت العالم العربي، والتساؤل عن الآفاق الحالية للجماهير الشعبية.

لقد اخترنا تكريس الجزء الاساسي من هذا العرض للأحداث في مصر. ذلك لأنها شهدت الحراكات الاكثر ضخامة وحيث كان للفئات الشعبية أكبر نسبة مشاركة. وكذلك لأن مصر تقوم بالدور الريادي في العالم العربي أجمعه، إن من حيث كونها البلد العربي الأكثر تعدادا للسكان مع ما يزيد على ال85 مليون نسمة، وخصوصا من حيث تأثيرها على العالم العربي منذ وقت بعيد، في المجالين الثقافي والسياسي، كما سنتطرق لذلك في هذا العرض.

مصر : من "الاستقلال" الى انقلاب "الضباط الاحرار"

لا يمكن فهم المشاكل التي تتعرض لها مصر اليوم دون الرجوع الى تاريخها الحديث. وبصورة خاصة لا يمكن فهم تخلف مصر الحالي دون ذكر سيطرة الامبريالية البريطانية عليها.

في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت مصر لا تزال تحت السيادة الإسمية للإمبراطورية العثمانية الشاسعة والتي شملت شمال أفريقيا، باستثناء المغرب، والشرق الأوسط بأكمله. الحاكم المصري محمد علي بدء بسياسة إصلاح وتحديث كي يجعل من دولته قوة إقليمية، لكن مشروعه هذا قد بدأ في فترة أضحى فيها الشرق الأوسط عرضة لمطامع فرنسا والمملكة المتحدة اللتان أفشلتا جهوده ونجحتا في إخضاع مصر لسيطرتهما.

وشكل بناء قناة السويس مرحلة حاسمة لخضوع مصر. فبغرض تمويل المشروع، غرقت الدولة المصرية في الديون وأضحت تحت وصاية المانحين الفرنسيين والبريطانيين. كما أصبحت قناة السويس ملكا لشركة فرنسية ـ بريطانية، كرمز للسيطرة الامبريالية. ثم في عام 1882، قامت بريطانيا بنشر قواتها في البلاد لتصبح بذلك الحاكم الحقيقي لمصر. وبعد أن بقيت رسميا مقاطعة من الإمبراطورية العثمانية حتى عام 1914، أصبحت مصر دولة مستقلة رسميا في عام 1922 وبنظام ملكي. لكن في الواقع، كانت مصر شبه مستعمرة لبريطانيا التي كانت تؤمن سيطرتها عليها بتواجد دائم لقواتها العسكرية.

إنهم البريطانيون الذين قاموا بتطوير زراعة القطن في مصر وذلك بهدف التعويض عن ما كان ينقص مصانع الغزل والنسيج في بريطانيا من قطن أمريكي اثناء الحرب الأهلية الامريكية. وهكذا تطورت صناعة الغزل والنسيج بشكل نسبي، لكن بقي تطوره عموم الاقتصاد المصري ضئيلا وظل يعتمد على رأس المال الأجنبي من أصل أوروبي.

عشية الحرب العالمية الثانية، كانت مصر بلد ذات أغلبية ريفية ساحقة. وكانت أقلية من كبار ملاك الأراضي تسيطر على الارياف : 3000 عائلة غنية جدا تتقاسم حوالي 20% من الأراضي في حين كان السواد الأعظم من الفلاحين المصريين يعتاش عبر زراعة مساحات صغيرة وبوسائل بدائية. هذه العائلات الكبيرة من ملاك الأراضي الكبار كانت تتكيف بشكل جيد للغاية مع النظام الاستعماري وكانت توفر الأساس الاجتماعي للنظام الملكي. كانت هذه العائلات تقضي وقتا أكثر في القاهرة والإسكندرية أو في عواصم أوروبا منه في ارياف مصر المحرومة.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكما في عموم الشرق الأوسط، تصاعد شعور التمرد بحدة ضد الوجود الإمبريالي ليطال جميع طبقات المجتمع تقريبا.

في هذا السياق وقعت في 25 يناير 1952 اشتباكات بين قوات الشرطة المصرية والجنود البريطانيين. وفي اليوم التالي، في 26 يناير، اندلعت تظاهرات وإضرابات في جميع أنحاء مصر كما حصلت اشتباكات عنيفة جدا في القاهرة. كان هذا بداية نهاية النظام الملكي الذي أطاحه انقلاب عسكري بعد بضعة أشهر، في يوليو 1952.

إن مجموعة الضباط التي قادت الانقلاب العسكري تحت قيادة محمد نجيب، والتي سميت بـ"الضباط الأحرار"، كانت متأثرة بالأفكار القومية التي انتشرت ايضا الى جزء من الجيش وإلى قادته.

وعند وصولهم إلى السلطة، أطلق "الضباط الأحرار" عملية الإصلاح الزراعي التي وضعت حدا أقصى لمساحة الاراضي المملوكة. وكان الهدف القضاء على الأملاك الكبيرة، وهي الداعم التقليدي للنظام الملكي وللطبقات الغنية المرتبطة بالإمبريالية. لم يغير هذا الإصلاح، المحدود جدا، وضع أغلبية جماهير الفلاحين، فالتقديرات تشير إلى أنه قد تم اعادة توزيع 13% من الاراضي إلى 8% فقط من سكان الريف.

بعد عامين، قام جمال عبد الناصر، وهو من مجموعة الضباط الاحرار، بالاطاحة بنجيب فارضا نفسه قائدا اساسيا. كان هدف عبد الناصر تأكيد استقلال مصر في وجه القوى الامبريالية الكبرى وخصوصا البريطانيين. وكزعيم قومي، سعى عبد الناصر لتطوير اقتصاد مصر، الأمر الذي أدى به إلى مواجهة الإمبريالية.

كان بناء سد على نهر النيل في أسوان سيسمح بتنظيم فيضانات النهر وبزيادة الإنتاج الزراعي. في عام 1956، وأمام رفض الولايات المتحدة تسليف مصر المال اللازم لبناء السد، توجه عبد الناصر إلى الاتحاد السوفييتي الذي، في بحثه عن حلفاء في وجه الولايات المتحدة، كان قد عرض عليه المساعدة.

وبهدف توفير الموارد المرجوة، أعلن عبد الناصر، في 26 يوليو 1956، تأميم قناة السويس، متحديا بذلك، وبشكل علني، القوى الإمبريالية التي وضعت مصر تحت سيطرتها منذ أكثر من قرن من الزمن. فقامت الحكومتان الفرنسية والبريطانية، وبالتعاون مع دولة إسرائيل، بحملة عسكرية على مصر وذلك تبعا للتقاليد الاستعمارية المعتادة. وفي نوفمبر1956، تم إنزال قوات فرنسية ـ بريطانية في بورسعيد على قناة السويس. لكن الإمبريالية الأمريكية، التي كانت مرتاحة لرؤية منافسيها يخرجون من الشرق الأوسط، أمرت بإيقاف العملية، فاضطرت فرنسا والمملكة المتحدة إجلاء قواتهما، منذلتان.

وبخروج عبد الناصرفائزا من هذه المواجهة، فانه قد أصبح، ولفترة طويلة، رمزا للنضال ضد الاستعمار في العالم العربي.

قامت الدولة، بدأ من الستينات، بتأميم الجزء الاكبر من الاقتصاد. وعلى الرغم من خطاب عبد الناصر المزين بالاشتراكية، فان هذه السياسة لاتمت بشيء الى "الاشتراكية". فكزعيم قومي يسعى لتعزيز الاستقلال الاقتصادي لبلاده، لجأ عبد الناصر الى استخدام اقتصاد الدولة تعويضا لضعف البرجوازية المحلية. واستفادت مصر من مساعدة الاتحاد السوفييتي الذي كان، على سبيل المثال، يشتري منها القطن بسعر أعلى من السعر العالمي، فضلا عن تواجد مهندسين وفنيين سوفييت في مصر بهدف تحسين الانتاج.

وفي تطلعه لتعزيز قاعدته الجماهيرية، سن النظام تشريعات اجتماعية أدت الى بعض التحسن في أوضاع العمال المعيشية. فحدد أسبوع العمل في الصناعة ب42 ساعة. ونص أحد القوانين على وجوب توزيع 25% من أرباح كل مؤسسة على الموظفين، منها 10% بشكل مباشر، و5% عبر فوائد اجتماعية وسكنية. كما تعهدت الحكومة على توظيف جميع الشباب الخريجين من المدارس الثانوية والجامعات في الادارة وفي القطاع العام.

لكن، وبحسب قول عبد الناصر نفسه، فاذا كانت الحكومة "قد منحت" العمال بعض الامتيازات، فإنها لا تعترف بحقهم في أن يطالبوا. و منذ البداية، أظهر النظام ريبته تجاه الطبقة العاملة وحاول ترهيب العمال إذ أقدم الضباط الأحرار، بعد وقت قصير من وصولهم إلى السلطة، على إعدام إثنين من قادة إضراب عمال الغزل والنسيج.

وفي عام 1957، تم إنشاء اتحاد نقابي وحيد، وهو الاتحاد العام لنقابات عمال مصر. وكان ذلك يهدف ضبط الطبقة العاملة ضمن الإطار الذي كان النظام يريد فرضه. وتجدر الاشارة الى أنه بين عامي الـ1962 و1986، كان رئيس الاتحاد العام لنقابات مصر يعين في منصب وزير الشغل.

رافق هذا الطابع الأبوي للسلطة قمعها الشديد للحركة الشيوعية التي كان ناشطوها يملؤون السجون. كانت هذه الحركة الشيوعية ضعيفة ومنقسمة، وكان نفوذها في الطبقة العاملة لا يزال ضئيلا. وكون هذه الحركة قد تأسست في الثلاثينيات من القرن العشرين فلم يعرف نشطائها سوى المدرسة الستالينية التي لم تعد وقتها مدرسة شيوعية، فتعلموا على الاخص كيف يصبحون نشطاء قوميين باسم "النضال ضد الإمبريالية". والتحق قسم منهم كليا بنظام عبد الناصر، ولكن ذلك لم يجنبهم دخول السجن، ذلك لأن عبد الناصر لم يكن يسمح بوجود أية حركة أو تيار مستقل من شأنه ان يؤدي لظهور معارضة في وقت ما.

وهكذا استمر النشطاء الشيوعيون، من خلف قضبان زنزاناتهم، بتقديم الدعم للنظام وذلك لأن عبد الناصر، كونه حليفا للاتحاد السوفييتي، ظل يعتبر ممثلا للـ "الاشتراكية العربية".

وشهدت مصر تطورا صناعيا نسبيا دام عدة سنوات، لكن مواردها المحدودة لم تسمح لها بإنهاء حالة التخلف الناتجة عن هيمنة الاقتصاد العالمي الامبريالي. فوجدت الدولة المصرية نفسها في طريق اقتصادي مسدود وكانت تزداد ديونها باستمرار.

بالإضافة الى ذلك، كان هناك الضغط العسكري الممارس عليها من قبل الدولة الإسرائيلية. فاسرائيل كانت قد أسست عام 1948 عبر طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من أراضيهم وبعد حرب مواجهة مع الدول العربية، ومن بينها مصر. وفي عام 1956، اجتاحت القوات الإسرائيلية مصر إلى جانب الفرنسيين والإنجليز. وفي عام 1967، هاجمت الدولة الإسرائيلية مصر وألحقت بها هزيمة قاسية بعد حرب خاطفة سميت بـ "حرب الأيام الستة" والتي فقدت مصر بنتيجتها صحراء سيناء وبقيت قناة السويس مغلقة حارمة مصر من موارد مهمة.

وفي عام 1973، شنت مصر بدورها هجوما مفاجئا ضد إسرائيل التي واجه جيشها صعوبات في البدء ولكنه تمكن من السيطرة على الموقف بعد ذلك. لكن الهدف السياسي لمصر - الانتقام من الاهانة في هزيمة 1967 واستعادة السيطرة على قناة السويس ـ قد تحقق الى حد ما. وهكذا كان لحالة الحرب الدائمة وتعاقب الصراعات ثقل متزايد على كاهل الاقتصاد المصري وبطريقة غير محتملة.

من السادات إلى مبارك: الانفتاح الاقتصادي والتقارب مع الإمبريالية

بعد وفاة عبد الناصر في عام 1970، جاء أنور السادات خلفا له في السلطة، وهو أيضا كان ينتمي إلى مجموعة الضباط الأحرار لكنه قام بتحول مفاجئ في عام 1974، وذلك باعلانه ضرورة "الانفتاح" اقتصاديا، وهذا يعني الانفتاح على رأس المال الخاص. وفي عام 1977 حاولت الدولة رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، لكن إعلان هذا الاجراء أدى الى اضطرابات واحتجاجات دامت عدة أيام في مدن مصر الكبرى، مما اضطر الحكومة إلى التراجع.

ومن الناحية السياسية تراجع النظام عن الخطاب الاشتراكي. ففي عام 1978 غير الحزب الواحد اسمه السابق من الاتحاد الاشتراكي العربي إلى الحزب الوطني الديمقراطي.

وشكل توقيع معاهدة السلام مع اسرائيل في عام 1979 مرحلة هامة. فقد سمح ذلك لمصر باستعادة سيناء والثروات النفطية المتواجدة هناك. والأهم من ذلك، تمكنت مصر من الحصول على عناية الولايات المتحدة الخاصة حيث أصبحت احدى حلفائها المميزين في المنطقة وحصلت منها بحكم ذلك على مساعدات عسكرية. وبحصولها على أكثر من 1.3 مليار دولار حاليا، تقع مصر في المرتبة الثانية بعد إسرائيل على قائمة الدول المستفيدة من الدعم العسكري الأميركي.

لذلك اعتبر القوميون السادات خائنا للقضية العربية وأدى ذلك الى اغتياله في عام 1981 من قبل مجموعة من الاسلاميين. وكان خليفته حسني مبارك أيضا من أوساط الجيش، لكنه كان ينتمي لجيل أصغر سنا، وكان قد تألق أثناء حرب عام 1973. وقام مبارك بتفعيل سياسة "التحرير الاقتصادي" الليبرالية التي كانت لا تزال محدودة مع هيمة القطاع العام بشكل كبير على الاقتصاد.

وتسارعت عملية الخصخصة في بداية التسعينيات. فمقابل الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، تعهد مبارك بتفكيك القطاع العام وبالانتهاء من احتكار الدولة على الاقتصاد وبخفض الدعم للمنتجات الاستهلاكية.

وفي عام 1992، تم تغيير الإصلاح الزراعي لصالح المالكين وذلك بالسماح بزيادة إيجار الأراضي، كما ذهب هذا القانون المضاد للإصلاح الزراعي الى أبعد من ذلك بسماحه للمتملكين الكبار ولسلالتهم بالمطالبة بأراضيهم التي صودرت منهم في عام 1952.

وفي عام 2004، سرعت الحكومة الجديدة برئاسة أحمد نظيف من وتيرة الخصخصة.

جعلت هذه السياسة الاقتصادية، المسماة بـ"التحررية"، القطاع الخاص أهم قطاع وظيفي في البلاد. لكن الاقتصاد لم يزداد "حرية"، بل تم توزيع قطاعاته حسب شهوات من كانوا في أروقة السلطة فكانوا أكبر المستفيدين من عملية الخصخصة هذه.

والمسفيد الأول كان مبارك نفسه الذي قدرت ثروته الشخصية لدى سقوطه عن السلطة بـ 70 مليار دولار. وعلى ما يبدو كان مبارك يملك عدد كبير من المباني المشيدة في منتجع شرم الشيخ.

وعلى سبيل المثال، يمكننا التكلم عن "ملك الفولاذ " المصري، أحمد عز، كنموذج لرجال الاعمال المنتمين الى الدائرة المقربة من السلطة. فمجموعته هي أكبر منتج للصلب في العالم العربي وكان هو نفسه عضوا في الامانة العامة للحزب الوطني ألديمقراطي، الحزب الحاكم، وكان عضوا في البرلمان ورئيسا للجنة الميزانية. وكذلك فإنه كان مقربا من جمال مبارك، نجل الرئيس.

ومن بين المغتنين بفضل ثقل الدولة في الاقتصاد هناك كبار قادة الجيش. فالجيش يسيطر على جزء مهم من الاقتصاد يقدر ما بين 20 و40%. ولا أحد يعلم بالضبط حجم هذه السيطرة لأن المعلومات الخاصة بالميزانية العسكرية لا تنشر للعلن وذلك لأسباب تتعلق بـ"أمن الدولة". ولكن ما يسعى هؤلاء القادة تأمينه هو سيطرتهم على الاقتصاد !

فالجيش يسيطر على أراض ومصانع للأسمنت ومخابز صناعية ومحطات وقود ومصانع للأسلحة وكذلك مصانع للغزل والنسيج ومصانع لتعبئة قناني المياه وفنادق في المنتجعات السياحية التي كانت تستقبل مئات الآلاف من السياح كل عام.

وهكذا، كان بعض العساكر يحتلون مراكز هامة، كمدراء مصانع ومدراء متاجر كبيرة، سمحت لهم بزيادة ثرواتهم الشخصية. والجيش يحظى بيد عاملة مجانية، خاصة في قطاع الزراعة، وذلك بفضل 500.000 مجند إلزامي يعمل قسم منهم بشكل إجباري خلال خدمته العسكرية ومن دون أي مقابل.

وأخيرا، لا بد لنا، في حديثنا عن البرجوازية المصرية، إلا إن نتطرق الى عائلة ساويرس المعروفة بكونها الأغنى في مصر، ومن بين الستين الأكثر ثراء في العالم. وينتمي أكبر أفراد هذه العائلة سنا، بعمر الـ82 سنة، إلى عائلة من ملاكي الاراضي الكبار. وكان قد شهد تأميم شركته في عهد عبد الناصر. وبعد وصول السادات الى السلطة، عاد إلى مصر وأنشأ شركة "أوراسكوم" لتصبح امبراطورية في مجال البناء. وأكمل الأولاد مشروع أباهم. فأحدهم اليوم هو ثاني أكبر مساهم في المجموعة الفرنسية "لافارج" لإنتاج الاسمنت، والثاني قد طور شركة اتصالات تليفونية بالمشاركة مع "فرانس تليكوم"، والأخير قد اتجه الى السياحة بالتعاون مع شركة "كلوب ماد" ومجموعة "أل في أم أش".

وهكذا فهناك برجوازية قد اغتنت بشكل كبير في السنوات الاخيرة، وهي بصورة عامة متصلة برأس المال الغربي كما يظهر ذلك مثال عائلة ساويرس. فهناك ثروات قد تراكمت في قطاع العقارات مع تشيد مراكز تجارية ومباني للأغنياء ومجمعات فنادق في منتجعات سياحية شاسعة. كل هذه النشاطات سمحت لأقلية بالاغتناء بشكل فاحش، ولكنها لم تسمح لغالبية المصريين بالخروج من الفقر. بل على العكس، فإن السنوات الاخيرة التي اغتنت خلالها هذه الاقلية مثلت تراجعا للغالبية العظمى، سنوات ازدادت خلالها الفوارق الاجتماعية.

إن حدة هذه الفوارق كبيرة في مصر حيث 40% من السكان يعيشون بأقل من دولارين في اليوم وحيث تطال الأمية 30% من المصريين و60% من النساء. وتنتشر البطالة والفقر اكثر عند النساء. وقد اشارت الصحافة الى تزايد عدد النساء المحكوم عليهن بالسجن بسبب الديون. ومن بين اسباب الديون على العوائل هناك الدروس الخصوصية التي يدفعها غالبية المصريين لأولادهم، وذلك حتى في الاوساط الشعبية، بسبب إفلاس النظام التعليمي. وقد لاحظت منظمات غير حكومية في السنوات الاخيرة تزايد عدد الاطفال الذين يعيشون في الشوارع بعد أن تخلت عنهم عوائلهم. وبالإضافة الى الفقر، تتحمل النساء عبء التقاليد البالية : يقدر حاليا أن 90% من النساء في مصر قد تعرضن للختان.

لم تعد مصر ذلك البلد الريفي كما كان حالها عام 1952. فاليوم، 70% من المصريين يعيشون في المدن، وذلك بسبب التنمية الصناعية وخاصة لأن الملايين من الفلاحين هربوا من بؤس الارياف.

لقد أصبحت القاهرة في غضون سنوات عاصمة ذات 19 مليون نسمة. ويلجئ 40% من السكان على الاقل إلى ما يسمى "السكن غير الرسمي"، أي انهم يستقرون حيث يجدون مساحة شاغرة، وذلك بحسب إمكانياتهم ومن دون سند ملكية.

ويخطط مشروع "القاهرة 2050" لإعادة هيكلة البنية المدنية إلى إبعاد سكان هذه العشوائيات نحو مدن جديدة سوف تبنى في الضواحي. ولكن السكان يرفضون العيش في هذه المدن الخالية من التجهيزات ومن المواصلات. وفي السنوات الاخيرة حدثت عمليات إخلاء قسرية مما أثار ردود فعل واشتباكات دورية مع الشرطة.

ويحصل سكان هذه الاحياء غير الرسمية على رزقهم عبر الاعمال "غير الرسمية" أيضا، بحسب المصطلح الشائع اليوم. ويبدو أن هذا "القطاع غير الرسمي" يشغل اكثر من 60% من الـ 27 مليون عامل في مصر. أي أن غالبية العمال محكومة بالعيش من أعمال صغيرة، وبأجور يومية في معظم الحالات دون معرفة ما سيحل بهم في اليوم التالي. أما أولئك الذين لم يجدوا عملا فإذ بهم يبيعون السجائر والتليفونات أو اي شيء يمكن بيعه...

إن ما يزيد عن الـ50% من الشباب عاطلون عن العمل ومجبورون بتدبير أمرهم بهذه الطريقة. ولهذا خرج العديد منهم الى الشارع ليعبر عن غضبه منذ عام 2011.

كما يوجد في مصر طبقة عاملة بالمعنى الحديث وهي مكونة من 4 الى 5 مليون عامل يعملون في مصانع الغزل والنسيج وفي مصانع الحديد والصلب وفي البنية التحتية للموانئ على طول قناة السويس وفي شركات الادوية. وتعد مصر كثالث بلد منتج للسيارات في افريقيا، إذ قامت مجموعات "جنرال موتور" و"بي أم دبليو" و"تويوتا" و"نيسان" بتشييد مصانع للتجميع يعمل فيها آلاف العمال. إن هذه الطبقة العاملة مستغلة الى حد كبير، فغالبا ما يدوم العمل 12 ساعة يوميا، وستة أيام في الاسبوع، وذلك بأجر يقل عن الـ 100 يورو شهريا.

إن هذه الطبقة العاملة تشكل قوة اجتماعية كبيرة يفوق ثقلها حجمها العددي الضعيف نسبيا. فالطبقة العاملة تكتسب قوتها، في مصر كما في أي مكان آخر، بفضل تمركزها في المدن الكبرى وفي حوالي أربعين مركز صناعي كبير يضم كل منها عشرات الآلف من العمال. فباستطاعة هؤلاء العمال تنظيم أنفسهم بسهولة أكبر من الفئات العمالية الاخرى بهدف الدفاع عن أنفسهم ورفض الاستغلال. وتشكل هذه الطبقة العاملة قوة أقلقت النظام أكثر من مرة خلال السنوات الاخيرة.

كان على الطبقة العاملة الدفاع عن نفسها وذلك لأن الخصخصة قد أدت، كالمعتاد، إلى تسريح للعمال وإلى إعادة النظر بالمكافآت وبالمشاركة في الارباح التي أقيمت في عهد عبد الناصر، وكذلك إلى التراجع عن "امتيازات اجتماعية" متعددة كالرعاية الصحية والسكن.

ولاقت هذه الهجمات ردود فعل من قبل العمال. فوفقا لصحفية مصرية، شهد العام 2006 220 اضراب، وسجلت إحدى المنظمات 580 نشاط مطلبيا في العام 2007. وفي عام 2007 خصوصا، حصلت إضرابات كبرى لعمال مصنع مصر للغزل والنسيج في المحلة الكبرى في دلتا النيل. فقد قام الـ 25000 عامل في هذه الشركة بتحدي السلطة، على الرغم من القمع، مطالبين بزيادة في الاجور، وتمكنوا من الحصلول عليها. وكان لهذا الاضراب بشكل خاص صدى على المستوى الوطني.

نعم، إن الطبقة العاملة في مصر تمثل قوة وقد أثبتت قدرتها على النضال وعلى إخافة النظام. ولاقى نضالها صدى في كل البلاد حاظيا بتعاطف الاوساط الشعبية وكل معارضي الدكتاتورية.

إن الطبقة العاملة هذه قد شاركت في الحراك الذي بدأ اوائل يناير 2011 وكانت بجانب قطاعات أخرى من الجمهور، وان كان بعضها أكثر رفاهية اجتماعيا، ولكن القاسم المشترك بينها كان مناهضة نظام مبارك. كل هذه الفئات الاجتماعية، ذات التطلعات والمصالح المختلفة، وجدت نفسها متحدة للمطالبة برحيل الدكتاتور والمطالبة بالديمقراطية. وشكل هذا المطلب الحجر الاساس الموحد للاستياء في لحظة محددة، الأمر الذي وفر الزخم الجماهيري للحراك.

ال حراك في فترة يناير ــ فبراير 2011

تعاظم الاستياء اكثر فأكثر في قطاعات واسعة من البرجوازية الصغيرة. وكان الكثير مستائين من ممارسة مبارك، وبوقاحة، للتزوير العلني لكل عملية انتخابية، حيث كان يطارد المعارضين ويمارس رقابة دقيقه وغبية طالت حتى الكاتب المعروف عالميا نجيب محفوظ. وفي عام 2005، وبعد انتخابات مزورة جديدة، قام محامون وقضاة بحركات احتجاجية.

في أوساط البرجوازية الصغيرة الليبرالية هذه، حاولت المعارضة تنظيم نفسها، فنشأت حركة "كفاية" عام 2005 كمحاولة لجمع المطالبين بدمقرطة النظام.

كما كان هناك على الإنترنت أيضا حركة معارضة واسعة للدكتاتورية قام بها مدونون من "نشطاء الانترنت". كان من بينهم العديد من الطلاب العاطلين عن العمل والفاقدين الأمل لأي مستقبل مهني لهم داخل المجتمع المصري.

كما كان ضمن السائمين من اساليب الدكتاتورية عناصر تنحدر من طبقات ميسورة كوائل غنيم، على سبيل المثال، الذي كان المسؤول عن صفحة الفيسبوك "كلنا خالد سعيد"، على إسم شاب تعرض للضرب حتى الموت علي أيدي الشرطة في الإسكندرية في يونيو 2010. وكان غنيم أيضا رئيس قسم التسويق في جوجل في الشرق الاوسط.

وإنها إحدى مجموعات "مدوني الانترنت"، المسماة حركة 6 ابريل، التي بادرت للدعوة لأول تظاهرة في 25 يناير 2011. كان يومها عطلة رسمية، "يوم الشرطة"، المكرس لذكرى انتفاضة الشرطة المصرية ضد الاحتلال البريطاني عام 1952. ولم تكن هذه محاولتهم الاولى للتعبئة ضد النظام. كانوا يسعون، وهم على حق في ذلك، الاستفادة من المناخ السياسي الناجم عن رحيل بن علي في تونس. وفي هذه المرة لاقى ندائهم صدى واسعا إذ قام ذلك اليوم عشرات الآلاف من المتظاهرين، الشبان بشكل خاص، باحتلال الشوارع وتحدوا الشرطة.

ثم في يوم الجمعة 28 يناير، الذي أطلق عليه منظموا الحراك إسم "يوم الغضب"، أكدت التظاهرات في معظم المدن المصرية بأن الحركة تتطور. وحدثت صدامات مع الشرطة، وأحرقت مراكز لها، وفي القاهرة أضرم المتظاهرون النار في مقر الحزب الحاكم. ذهب ضحية القمع 300 قتيل على الاقل وفي نهاية النهار تم نشر الجيش في المدن الكبرى ليحل محل الشرطة.

وابتداءا من هذا اليوم قامت مجموعات من المتظاهرين باحتلال ساحة التحرير، الساحة الرئيسية في القاهرة. وفي الايام التالية اكتسب الحراك زخما اكبر، إذ كانت رغبة التغيير تطال كافة فئات المجتمع، وكان ذلك ملحوظا في ساحة التحرير حيث نصب الطلاب خيما فانضم إليهم في بعض الأوقات متظاهرون ينتمون لاوساط أكثر ثراء وآخرون ينتمون للأوساط الشعبية والذين انخفض مستوى معيشتهم بسبب ارتفاع الاسعار وعدم توفر فرص العمل أو بسبب قلة السكن...

ومنذ بداية الحراك ابتعد القادة الأمريكيون عن نظام مبارك وبدؤا التحدث عن الحاجة للقيام بـ"إصلاحات ديمقراطية".

وعلى عكس بن علي في تونس، لم يتنحى مبارك فورا عن السلطة. لربما كانت لديه قدرة أكبر للتشبث بالسلطة ؟ لربما ترك له القادة الأمريكيون فرصة ؟ فالشيء المؤكد هو أنهم منعوه من استخدام الجيش ضد المتظاهرين إذ قامت وزارة الدفاع الامريكية، البنتاغون، بدعوة الجيش المصري بممارسة "ضبط النفس". وعلما بالعلاقة الوثيقة التي تربط الجيش المصري والقادة الأمريكيين، فإننا نفهم أن ذلك لم يكن مجرد نصيحة. فحين اندلعت الاحتجاجات، كان رئيس أركان الجيش المصري سامي عنان في واشنطن، وهو من المؤكد أنه تلقى تعليمات في هذا الاتجاه قبل عودته الى مصر.

كان هم القادة الأمريكيين ضمان المستقبل : كانوا يريدون منع الجيش من الانخراط في الدفاع عن مبارك كي يحافظ الجيش على سمعته. وبالفعل، وبهذه الوسيلة تمكن الجيش من السيطرة على الموقف. فمكث في موقف الحكم بإعلانه بأنه لن يقمع الاحتجاجات وبأن دوره سيقتصر على كونه "الضامن للنظام العام"، إي ضد العنف أيا كان مصدره.

من جانب المتظاهرين، استقبل انتشار الجيش بالارتياح وحتى بالفرح ذلك لأن الكثير كان يعتقد بأن الجيش سوف يحميهم من الشرطة.

وبالتالي كانت هذه بداية لعملية سياسية لقادة الجيش بهدف تقديم أنفسهم كأصدقاء للشعب، حتى لو تطلب الأمر تبرؤهم من مبارك.

حاول مبارك التشبث بالسلطة حتى النهاية بإعلانه عن تنازلات، ثم عن حكومة جديدة ثم عن انتخابات حيث وعد بعدم ترشيح نفسه. وكعادته فإنه حاول أيضا إخافة محتلي ساحة التحرير عبر إرسال "البلطجية" لضرب المتظاهرين. كما كان هناك مشهد جمالة الجيزة الذين جيء بهم، على ظهر جمالهم، لمطاردة المتظاهرين... ولكن كل هذا لم ينفع : فقد أعلن المتظاهرون عن عزمهم على مواصلة الحراك حتى رحيل مبارك.

وفي الايام الاولى لشهر فبراير 2011، طال الحراك الطبقة العاملة فاندلعت إضرابات تحمل مطالب اجتماعية وسياسية. حاول مبارك في 7 فبراير إنهاء حراك العمال وذلك بإعلانه زيادة بنسبة 15% لرواتب ومخصصات تقاعد العاملين في القطاع العام. ولكن ذلك أدى الى تشجيع العمال أكثر على الإضراب والاحتجاج. وفي 9 فبراير شمل الحراك أكثر من 300.000 عاملا، وفقا لإحدى التقديرات. و واصلت التحركات العمالية في 10 فبراير تطورها.

وقد كتبت صحيفة "المصري اليوم" : " انتشرت أمس في القاهرة وفي المحافظات موجة جديدة من الاعتصامات والاحتجاجات والتظاهرات العمالية التي ضمت مئات الآلاف من الأشخاص. اختلطت المطالب الاجتماعية كالمطالبة بزيادة الأجور وتحسين ظروف المعيشة بمطالب الإصلاح السياسي".

شملت هذه الإضرابات وسائل النقل العام في القاهرة وشركة السكك الحديدية والعاملين في شركة قناة السويس والعاملين في شركة الكهرباء.

أما من ناحية القادة الأمريكيين، تزايدت الضغوط من أجل دفع مبارك خارج المسرح السياسي وأعلنوا عن رغبتهم بـ "انتقال منظم" للسلطة. ومن المؤكد أن قادة الجيش الذين بادروا لانعقاد المجلس الأعلى للقوت المسلحة في 10 فبراير كانوا قد نسقوا مع واشنطن. وفي ما كان يشبه الانقلاب، أكد هذا المجلس، عبر "البيان رقم 1"، عن نيته الاجتماع بشكل مستمر حتى إشعار آخر. وفي بيان ثاني في اليوم التالي، مع أن مبارك كان لا يزال في السلطة رسميا، وعد قادة الجيش بتنظيم انتخابات حرة وبرفع حالة الطوارئ التي فرضت في مصر منذ عام 1967 باستثناء مدة 18 شهرا قبيل اغتيال السادات في عام 1981.

استغرق الأمر بضع ساعات إضافية كي يقر مبارك بحتمية إقصائه عن السلطة وليوافق على نقله بطائرة الى مقر إقامته في شرم الشيخ في سيناء. وفي مساء 11 نوفمبر قرأ نائب الرئيس، نيابة عنه، بيانا تلفزيونيا مقتضبا معلنا تخليه عن السلطة وتكليفه المجلس الأعلى للقوات المسلحة "إدارة شؤون البلاد".

وكان على رأس هذا المجلس المشير الطنطاوي الذي كان وزيرا للدفاع في حكومة مبارك الاخيرة. ويبدو أن ولائه للنظام كان قد اكسبه لقب "كلب مبارك" في الأوساط العسكرية. إن "الانتقال المنظم" المرغوب من القادة الأمريكيين قد تحقق، ولكنه سرعان ما أظهر حدوده الضيقة.

لقد تمت الاطاحة بمبارك بأمل نزع فتيل الاحتجاجات والتمكن من إقناع المتظاهرين ببداية "الانتقال الديمقراطي السلمي" للسلطة، فيجب إتاحة الوقت للقادة الجدد لتنظيم هذا الانتقال.

دور الإخوان المسلمين

وفي سبيل إقناع الجماهير بذلك، كان قادة الجيش بحاجة لتعاون قوى المعارضة ومن بين هذه القوى استطاعوا الاعتماد على تنظيم الإخوان المسلمين الذي كان له الثقل الأكبر لدى الجماهير.

فمنذ تأسيسه عام 1928، يسعى هذا التنظيم لاحلال الشريعة الاسلامية كأساس للنظام السياسي والاجتماعي. ولكن المؤسس و"المرشد الأعلى" للإخوان المسلمين، الداعية حسن البنا لم يكن يسعى لا لمعارضة السلطات القائمة ولا للإطاحة بها. فتنظيم الاخوان قام بدعم نظام الملكية المصرية كما حصل الاخوان المسلمون، على الأقل في البدء، على دعم وتمويل المحتلين الإنجليز في سعيهم لكبح تنامي القوى القومية. وبتوسع نفوذها أصبحت الحركة قوة سياسية لها ميليشيات وخلايا داخل الجيش. فالضباط الأحرار وعبد الناصر نفسه كانوا دون شك قريبين من تنظيم الاخوان داخل الجيش إن لم يكونوا أعضاء فيه.

وبمجرد تكوينهم قوة منظمة ومستقلة الى حد ما عن جهاز الدولة، أصبح الاخوان مشتبه فيهم في نظر القيادة المصرية. فكانت السلطات تتخوف من تحولهم في فترة الأزمات الى خطر وذلك بتوفيرهم الإطار السياسي للمعارضة.

وهذا ما يفسر أن تاريخ العلاقات بين الاخوان المسلمين والسلطة المصرية هو حصيلة فترات متعاقبة من القمع، الشديد جدا بعض الأحيان، ومن التعاون.

ففي عام 1948، ومع تزايد المعارضة للنظام الملكي، تم منع جماعة الاخوان قبل أن يتم اغتيال زعيمها حسن البنا. وبعد انقلاب الضباط الأحرار قدم الاخوان دعمهم للنظام الجديد. ولكن عبد الناصر، الذي لم يكن ليسمح بوجود أي حركة مستقلة، أصدر عام 1954 مرسوما بحل جماعة الاخوان المسلمين. ثم تعاظمت حدة القمع بين عامي 1965 و1967 مع حجز الكثيرين في السجون وفي معسكرات العمل وتعرض الكثيرين للتعذيب وللاغتيال. فاضطر أعضاء الجماعة على ممارسة العمل السري التام أو على الهجرة.

في الدول العربية التي لجئوا إليها، ساهم الاخوان المسلمون في تعزيز التيارات الاسلامية المنتمية الى الحركة ذاتها والتي استطاعت في هذا الوقت الاعتماد على دعم وتمويل المملكة العربية السعودية التي كانت تحارب النفوذ الناصري والنفوذ القومي العربي.

مع وصول السادات الى الحكم، تغير موقف السلطة تجاه الإخوان المسلمين، فأطلقت سراح سجنائهم وسمحت للتنظيم بالوجود وإن لم تصرح له رسميا.

وفي سبيل تعزيز سلطته تحول السادات نحو القوى الأكثر محافظة، نحو الدين. وفي عام 1971 أضاف فقرة الى الدستور، الفقرة 2، تنص على أن الشريعة الإسلامية هي إحدى المصادر المهمة لكل تشريع. ووفقا للتنقيح الدستوري عام 1980 أصبحت الشريعة هذه المرة "المصدر الرئيسي" للتشريع. إن هذه التحريفات اللغوية كانت تخفي سياسة كان لها، على المدى البعيد، عواقب وخيمة على المجتمع المصري.

وابتداء من عام 1972، تم تشجيع قيام اتحادات إسلامية في الجامعات من أجل الحد، في الأوساط الطلابية، من تأثير الحركات الشيوعية التي كانت لا تزال مطاردة من قبل السلطة. لكنه توجب إييقاف هذه السياسة بعد اغتيال السادات من قبل مجموعة إسلامية عام 1981، وعاود النظام مرة أخرى إلى قمع حركة الإخوان. ثم تلت بعد ذلك فترة من التسامح قبل أن يعاود الاضطهاد في أواخر سنوات 1990 وذلك بعد سلسلة من الهجمات.

في الانتخابات البرلمانية عام 2005، سمح مبارك للإخوان المسلمين بتقديم مرشحين تحت راية "مستقلين"، فحصلوا على 88 مقعد أي 20% من النواب.

والأهم من ذلك، وبعيدا عن هذا التنازل السياسي المحدود، وافقت السلطة على أعطاء الإخوان المسلمين دورا في التنظيم الاجتماعي وذلك بالسماح لهم بتطوير شبكة واسعة من المؤسسات الدينية والجمعيات الخيرية. ففي الأحياء الشعبية المهمولة كليا من قبل مؤسسات الدولة الخدماتية، كان يناسب النظام أن يقوم الإخوان بتقديم المساعدات الاجتماعية للفقراء. وهكذا فقد كان النشطاء الإسلاميون ينظمون تقديم الوجبات المجانية ويقدمون الدروس المسائية لأطفال العوائل غير القادرة على دفع دروس خصوصية ؛ وكان اطباء جماعة الإخوان يعالجون مجانا الناس الأكثر فقرا. كل هذه الأنشطة سمحت لجماعة الإخوان بكسب نفوذ ودعم كبير داخل الأوساط الشعبية.

وعلى مر السنين، تعاظم نفوذ الإسلاميين على المجتمع برمته. ففي سنوات الـ1990، كان باستطاعة جامعة الأزهر الإسلامية في القاهرة فرض الرقابة على الكتب ومنعها، كما كان يمكن محاكمة أي مسلم يتخلي عن دينه ويعاقب كـ "مرتد".

ولكن التراجع الاكثر دراماتكية كان بخصوص حقوق المرأة التي، خلال بضعة سنوات، تم فرض لبس الحجاب عليها. وقد أصبح من النادر أن ترفض النساء لبسه وذلك بسبب قوة الضغوط، منها الجسدية، عليها. وهذا كله في بلد عربي شهد أول امرأة تخلع الحجاب في الاماكن العامة في عام 1919.

إن نفوذ وثقل الإخوان المسلمين قد تعاظم بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة للنظام . فقد استفاد الاخوان من الهالة التي حصلوا بسبب الاضطهاد الذي كانوا ضحيته. واستفادوا من إفلاس الحركات القومية العلمانية كحركة عبد الناصر، حيث رأت الجماهير النظام الدكتاتوري الذي آلت إليه.

فظهر الإخوان المسلمون كالمعارضين الأساسيين للنظام الذي كانوا ينددون بفساده. ولكنهم، وفي نفس الوقت الذي كان لديهم سياسة خدماتية تجاه الجمهور الأكثر فقرا، بهدف كسب دعمه، كانوا يكنون احتراما كبيرا للنظام الاجتماعي القائم.

ففي عام 1992 ايد الإخوان المسلمون التراجع عن الإصلاح الزراعي وذلك لصالح المالكين وأدانوا الحركات الاحتجاجية في الأرياف باسم الدفاع عن الملكية الخاصة. ولنفس الأسباب فإنهم قد أدانوا أيضا الإضرابات.

إن قاعدة الإخوان المسلمين الاجتماعية هي البرجوازية الصغيرة بسكل أساسي، وصولا الى البرجوازية، وهذا في الأوساط الأكثر محافظة في المجتمع المصري. والكثير من قادتهم هم من المتنفذين ومن رجال الأعمال الصغار او الكبار.

وتنعكس علاقتهم مع البرجوازية على تركيبة الأعضاء البارزين للجماعة. فالرقم اثنين لدى الإخوان، خيرت الشاطر، هو رجل أعمال ثري جدا. وحسن مالك، وهو قيادي آخر في لحركة، يدير مع ابنه مشاريع في صناعة النسيج والأثاث والتجارة.

وعلى الرغم من غوغائية خطابهم عن العدالة الاجتماعية، يمثل الإخوان المسلمون أحد أوجه الأحزاب البرجوازية المعادية للعمال وللفقراء، لكن بوجهها الاكثر رجعية.

لم يكن الإخوان المسلمون بين المبادرين إلى مظاهرات عام 2011 وهم لم يشاركوا حتى في المسيرات إلا بعد عدة ايام.

وقبل أيام من رحيل مبارك، قام نائب الرئيس بدعوتهم للمشاركة في المفاوضات الجارية مع الأحزاب المعارضة الأخرى. وبعد هذا اللقاء كف الإخوان المسلمون عن المطالبة برحيل مبارك الفوري. فالأهم، على حد تعبيرهم، هو بالدفع في اتجاه تنظيم انتخابات في ظروف جيدة.

كما قدموا ضمانات عن حسن نيتهم فوعدوا بعدم تقديم مرشح للانتخابات الرئاسية القادمة وبالحد من عدد مرشحيهم في الانتخابات البرلمانية المقبلة.

إذن، لقد وضع الإخوان المسلمون بكل ثقلهم فس سبيل دعم "الانتقال المنظم" المرتجى من كل اولئك الذين كانوا يخشون الحراك القائم.

"التحول الديمقراطي" المزعوم... في محاولة للحفاظ على الجوهر

جاءت الحكومة الأولى بعد رحيل مبارك بقيادة عسكري، وهو أحمد شفيق، الذي كان قد عينه مبارك نفسه قبل رحيله. ولكنه سرعان ما اضطر للاستقالة ولكن الذي خلفه كان أيضا وزيرا سابقا لمبارك. فباستثناء مبارك، فإن غالبية الذين قادوا البلاد خلال فترة حكمه قد بقوا على رأس الدولة.

ثم حصلت بعض الاعتقالات لبعض الوزراء الأكثر شبهة في نظر الجمهور وبعض رجال الأعمال مثل أحمد عز،"ملك الفولاذ". كما تم حل حزب مبارك ووضعت أملاكه قيد الحجز.

ولكن أجهزة الدولة، من جيش وقضاء وشرطة، بقيت بأكملها في مكانها. وحتى جهاز أمن الدولة، الشرطة السياسية للنظام، بقي موجودا، حتى بعد حله رسميا في 15 مارس الماضي، إذ لم يصيبه إلا تغيير طفيف في الإسم ليصبح الأمن القومي.

إذا بقيت السلطة نفسها برجالها ووسائلها القمعية، ولجأت، كما في السابق، الى الاعتقالات التعسفية والى استخدام المحاكم العسكرية لأكثر من 10.000 معارض، وذلك لأن حالة الطوارئ، وعلى عكس الوعد، لم ترفع إلا في 13 مايو.

واستمر استعمال نفس الوسائل الدنيئة التي كانت تستعملها الدكتاتورية، كالسعي إلى تحريض المسلمين ضد المسيحيين الأقباط الذين يمثلون حوالي 10% من السكان. كما أرتكبت انتهاكات، قد تكون مدبرة من قبل السلطة، ضد المسيحيين والذين تعرضوا بعدها للقمع عندما تظاهروا احتجاجا.

في نوفمبر 2011، استؤنفت التظاهرات في ساحة التحرير وكذلك في عدة مدن مصرية، واستبدل شعار "ارحل يا مبارك" بشعار "ارحل يا طنطاوي". كان القمع شديدا وأدى إلى سقوط عشرات القتلى وآلاف الجرحى.

وهكذا كان من الصعب على قادة الجيش المترئسين الحكومة بعد رحيل مبارك إنهاء ألاحتجاجات، إن على المستوى السياسي أو على المستوى الاجتماعي. ذلك لأن خلال كل هذه الفترة واصلت الطبقة العاملة التظاهر، وكان سقوط مبارك قد أعطى زخما إضافيا لحركة الإضراب.

إضرابات وحراكات عمالية بعد سقوط مبارك

يروي مقال في صحيفة لوموند دبلوماتيك إضراب العمال في شركة مصر للغزل والنسيج في "المحلة الكبرى"، هم الذين كان لنضالهم خلال دكتاتورية مبارك صدى على المستوى الوطني :

"في 16 فبراير الماضي (2011)، ورغم بلاغ المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي بثه التلفزيون والذي نقل عن الهواتف المحمولة، داعيا لوضع حد للحراكات الاجتماعية، توقف العمل في مصنع مصر للغزل والنسيج. نصب العمال خياما داخل المصنع ـ كما هو الحال في ميدان التحرير في القاهرة ـ وناموا هناك، معلقين مطالبهم على الجدران.

أول هذه المطالب كان استقالة السيد فؤاد عبد الحليم حسن، رئيس الشركة، المتهم بالفساد. وتخص بقية المطالب زيادة الأجور والحوافز وتوفير السكن للعمال وكذلك تحسين ظروف العمل. كما عبر العمال عن شعورهم العميق بانعدام المساواة داخل المجتمع. فأنهم يشكون على سبيل المثال من تخصيص سكن شبه مجاني لأصحاب المراتب العليا بينما يضطر العمال لاستئجار شقق في وسط المدينة وبسعر السوق".

وتروي بقية المقال نهاية الإضراب : "في 19 فبراير، وبعد عدة أيام من الأضراب، بدأت مفاوضات بين إدارة الشركة والحاكم العسكري من جهة ووفد من العمال. بدأ الحاكم العسكري بإعلان القرارات، وسط تصفيق العمال، وكانت : إقالة رئيس الشركة واستبداله بمهندس معروف وذات سمعة طيبة (...)، دفع أيام الإضراب ودرس زيادة الأجور".

يمثل هذا الإضراب نموذجا لما حدث في كثير من الشركات في الأيام التي تلت سقوط مبارك. لقد تحرك جزء مهم من الطبقة العاملة في هذه الفترة، والمطالب كانت تخص الأجور كما رحيل القادة الفاسدين والمستبدين في المؤسسات العامة. وغالبا ما كان يتم تغيير القادة بهدف كسب صبر العمال بانتظار "فترة دراسة" مطالبهم المتعلقة بالأجور.

كان ذلك على صورة ما كان يحدث في قمة البلاد. فقد تم التضحية بمبارك على أمل أن يكتفي العمال والفقراء بذلك وأن لا يحتجوا على الدكتاتورية الاجتماعية التي تمارسها الطبقات المالكة.

ومرة أخرى رأينا الجيش يحاول الظهور بأنه يقف إلى جانب الشعب.

ولكن العديد من العمال لم يكتفوا بالوعود الغامضة. فحسب بعض التقديرات، كان هناك، في عام 2011، 1400 نشاط جماعي من مختلف الأشكال ـ إضراب واعتصام وتظاهرـ شملت على الاقل 600.000 عاملا، أي ضعفي إلى ثلاثة أضعاف ما سجل في العقد السابق.

كان العمال المشاركون في الحراكات يطالبون غالبا بزيادة الأجور في المقام الأول، وفي كثير من الأحيان بحوافز كانت الشركات ملزمة قانونيا بدفعها، وهي قد تمثل حتى 80% من راتب العامل. فالعمال، مع أجورهم التي تسمح لهم بالكاد العيش، كانوا يواجهون تضخما يزيد رسميا على الـ10%، ليبلغ أكثر من ذلك بما يخص العديد من المواد الاولية الضرورية.

وسريعا ما انهمك العسكر بإيقاف الإضرابات التي وصفوها بالفئوية مع تشديد التشريعات المكافحة للإضراب وهذا منذ شهر أبريل : فكل من ينظم "مظاهرة أو نشاط قد يبطئ او يمنع عمل مؤسسة للدولة أو هيئة عامة او مكان عمل عام وخاص" فإنه سيكون معرضا لعقوبة السجن ولغرامة مالية عالية جدا. ولكن ذلك لم يثني العمال على متابعة الكفاح.

وفي يونيو 2011، حاولت الحكومة تهدئة حالة السخط بإعلانها زيادة الحد الأدنى للأجور. ولكن ذلك كان بقيمة أقل من المطالب به بصورة عامة. من جهة اخرى، لم يكن هناك أي شيء يجبر أرباب العمل في القطاع الخاص على تطبيق الزيادة، لذلك فإنه لم يطبق إلا على القطاع العام. وفي كثير من الأحيان لم يستفد من الزيادة سوى من كان لديه عقد ثابت، الأمر الذي أقصى جزءا كبيرا من عمال الشركات، وحتى الكبيرة منها، الذين لم يكن لديهم أي عقد عمل. ولهذا السبب، كانت إحدى المطالب التي كانت تتردد غالبا هي توظيف هؤلاء العمال، غير "الدائمين" من الناحية القانونية، ولكنهم غالبا ما كانوا يعملون منذ زمن بعيد في الشركات.

كما انعكس حراك جزء من الطبقة العاملة أيضا بظهور النقابات المستقلة التي كانت تسعى للتحرر من هيمنة الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، التابع للدولة. وبعد عام عن رحيل مبارك، تم تشكيل اتحادين للنقابات يجمع هذه النقابات المستقلة، ليضمان، بحسب مصادرهما، ثلاثة ملايين منتسب، وهو ما يوازي ما كان الاتحاد العام يعلن عنه كعدد منتمين في زمن مبارك.

لكن هذه النقابات المستقلة، وعلى عكس الاتحاد العام، قد تأسست بشكل معارض لإدارة الشركات، لذلك فإنها تعرضت للقمع. ودفع العديد من العمال ثمن هذا الصراع بفقدانهم عملهم وتعرض بعضهم لغرامات باهظة وحتى لعقوبة السجن.

لنأخذ، على سبيل المثال، المنطقة الصناعية من مدينة السادات، حيث يعمل 50.000 عامل في 200 شركة. ففي مايو اندلعت إضرابات مهمة : فدخل الحراك، تباعا، 9000 عامل في مصنع للصلب ومئات من عمال مصنع للخزف و5000 عامل في الغزل، وذلك من أجل المطالبة بزيادة في الأجور وتوظيف العمال المؤقتين وكذلك الحق في تأسيس نقابة. كما اندلعت اضرابات تضامنا مع 43 عاملا تم فصلهم من شركة للغزل بسبب مشاركتهم في تأسيس نقابة، وكذلك للاحتجاج ضد تدخل الشرطة ضد اعتصام على أبواب مصنع الغزل. ونتيجة لهذا النضال، ورغم كل ضغوط أرباب العمل والشرطة، تم تشكيل 12 نقابة في نهاية عام 2011.

وفي محاولة لكسب رضى هذه الحركة النقابية المستقلة الناشئة، قام العسكر في السلطة بضم أستاذ جامعي الى الحكومة، أحمد حسن البرعي، وهو أخصائي في قانون العمل ومشهور على أنه ديمقراطي. وخلال أشهر، إلتقى هذا الحقوقي بممثلي النقابات المستقلة وأعطاهم الأمل في إقرار قانون يعترف بالحرية النقابية. وبدون شك فإن هذا الجامعي كان يؤمن بذلك إذ أنه استقال في آخر الأمر من الحكومة في نوفمبر حين أصبح واضحا بأن هذا النوع من القوانين ليس لديه أية فرصة للتحقق.

خلال هذه الأشهر التي تلت رحيل مبارك لم يجرؤ قادة الجيش على قمع الإضرابات العمالية بصورة عنيفة. كما اعتبروا أن ليس لديهم القدرة لمنع العمال من تأسيس نقابات. لكنهم رفضوا منح هذه النقابات الاعتراف القانوني ذلك لأن تأسيس هذه النقابات في نظرهم ليس إلا مجرد تنازل مؤقتا، بانتظار اللحظة المناسبة لإلغائها.

وخلال هذه الفترة، أظهرت الطبقة العاملة عن قدرتها على الكفاح من أجل مطالبها ومن أجل الدفاع عن الأجور وعن ظروف العمل. ولكن هناك ظروف سياسية تتطلب منها أن تكون قادرة للذهاب الى أبعد من ذلك، الى أبعد قدراتها النضالية وأن تكون قادرة على تقديم آفاق للمجتمع بأسره.

ففي بلد فقير ومتخلف كمصر، لا البرجوازية المصرية ولا البرجوازية الإمبريالية التي تطالب بحصتها في ألأرباح، تستطيعان الاعتراف للعمال بالحريات الديمقراطية، حتى الأساسية منها، لأن ذلك يعني الاعتراف لهم بالحق بالاعتراض بوجه مستغليهم.

لذلك كان يتطلب الامر بأن تنظم الطبقة العاملة نفسها، وبأن يكون تنظيمها مستقل عن الطبقات الأخرى، كي تكون قادرة على فرض المحتوى الاجتماعي الذي تتضمنه مطالبها الديمقراطية.

فإذا كان باستطاعة البرجوازية الصغيرة، التي تظاهرات ضد مبارك، الحصول على بعض التنازلات المحدودة، فالأمر لم يكن كذلك بالنسبة للعمال. فلا البرجوازية المصرية ولا الإمبريالية هما على استعداد لتقديم تنازلات حقيقية على المستوى الاقتصادي. ولهذا فإن مجرد مطالب ديمقراطية بسيطة قد تؤدي، بفضل حق الإضراب والتنظيم، الى تحدي النظام الاجتماعي برمته.

ففي بلد كمصر، فإن الطبقة العاملة، وحتى من أجل الحصول على حقوقها الاساسية، يجب أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها، دون انتظار محامين يدافعون عن قضيتها أمام السلطة. ففيما يخص المستغلين، لا يمكن الحصول على أبسط الحقوق إلا عبر فرضها بالقوة، وإن استدعى الأمر استخدام السلاح بوجه الشرطة والجيش.

منذ بداية الحركة ضد مبارك، سعى الجيش لتقديم نفسه بأنه الى جانب الشعب، كقوة تدافع عنه ضد "التجاوزات"، وبأنه راغب بالتغيير. ولكن ذلك كان فخا. فقادة الجيش كانوا بانتظار اللحظة المناسبة للانقلاب على العمال ولإعادة النظام السابق، أي دكتاتوريتهم المعلنة جزئيا.

في وضع كهذا، لا مفر من المواجهة مع الجيش عاجلا أم آجلا. وإنه لمن الضروري أن تستعد الطبقة العاملة لذلك.

وقد لا يملك العمال القدرة على دحر الجيش بمفردهم. ولكنهم بإمكانهم إيجاد حلفاء لهم في داخله، بالمحاولة لكسب جنود الصف، المنتمين هم أيضا إلى الطبقات الشعبية. وفي كل الأحوال يجب عليهم محاولة ذلك.

لكن من أجل هذا، يتوجب على العمال تنظيم أنفسهم سياسيا لإعادة الاعتبار لحقوقهم ولحرياتهم في أماكن سكنهم وفي أماكن عملهم. وعليهم تأسيس ميليشياتهم الخاصة بهم كي يكونوا قادرين على فرض أنفسهم مقابل القوى القمعية وحتى الجيش.

في الواقع، الوضع كان يفرض على الطبقة العاملة أن تكون قادرة على مناهزة السلطة. ففي مواجهة سلطة الطبقات الغنية التي يستمر في الواقع العسكر في حمايتها، كانت الطبقة العاملة محتاجة لأن تتمكن من تجسيد البديل عن طريق نضالها وبرنامجها الخاص. فوحدها سلطة العمال وكل الطبقات الشعبية بوسعها ضمان الحريات الديمقراطية الحقيقة لكل المجتمع وضمان تغيير اجتماعي حقيقي للطبقات المستغلة.

هذا هو الاستحقاق الذي كان قائما في فترة "التحول الديمقراطي". وفي غياب البديل من جهة الطبقة العاملة، انحصر "التحول الديمقراطي" إلى صراع للقوى السياسية المدافعة عن النظام الاجتماعي القائم، ولذلك لم يكن هذا ليؤدي إلى أي تغيير يصب في مصلحة العمال والمستغلين.

فوز الاسلاميين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية

واعتبارا من فبراير 2011، بدأ التنافس على السلطة بين قادة الجيش والإخوان المسلمين. كان الاخوان قد التزموا في أول الامر بالحد من طموحاتهم ولكنهم سرعان ما غيروا من موقفهم. أما المؤسسة العسكرية فإنها لم تكن لترضى بتجريدها من سيطرتها على قمة جهاز الدولة.

في سياق المنافسة الانتخابية، كان لدى الاخوان ميزة على قادة الجيش. فهم كانوا يظهرون كقوة التغيير في مواجهة أولئك المدافعين عن امتيازاتهم وعن النظام الذي شيد أيام مبارك.

إنها هذه الصورة التي سمحت لهم بالفوز في الانتخابات النيابية التي جرت في أواخر نوفمبر 2011 وأوائل عام 2012. وقد جاء الائتلاف الذي قاده حزب الحرية والعدالة، التابع للأخوان المسلمين، بالمقدمة مع 37.5% من الأصوات.

كما جاءت مجموعة إسلامية أخرى مؤلفة من سلفيين، بقيادة حزب النور، في المرتبة الثانية وذلك بـ 27.8% من الأصوات. إن هؤلاء السلفيين، المنحدرين غالبا من الإخوان المسلمين، كانوا يسعون للظهور بشكل أكثر "راديكالية"، وذلك بفضل خطابهم وبفضل مظهرهم. فهم كانوا يدعون الرجال، بهدف إبراز رفضهم للـ "أخلاق الغربية"، لإطلاق لحاهم وتطويلها وللبس الثوب الفضفاض. ولكن نفوذهم كان يعود لذات أساليب الاخوان، أي سيطرتهم على بعض المساجد ولشبكات المساعدة الى أكثر الناس فقرا في الاحياء الشعبية. وفي محاولة للحد من نفوذ الاخوان، كان مبارك قد سمح لهم بنشر خطابهم، حيث سمح لهم، على سبيل المثال، بامتلاك ستة قنوات تلفزيونية.

وهكذا فقد حصل الاسلاميون، باختلاف توجهاتهم، على اكثر من 60% من الأصوات. وكانوا يظهرون على أنهم المعارضين الأكثر راديكالية للدكتاتورية، وكانوا يملكون التنظيم اللازم للتوجه وبفعالية الى الاوساط الشعبية.

وفي هذه الانتخابات، فإنهم كانوا الوحيدين الذين توجهوا حقا الى الفئات الاكثر فقرا. وكان البديل "اليساري" الوحيد ضد الاسلاميين يتكون من ائتلاف حزبي ضم الكتلة المصرية والذي كان يطرح نفسه كعلماني، و"التجمع" وهي المعارضة اليسارية السابقة التي كانت مسموحة زمن مبارك. ولكن قائد الحزب الاساسي في هذا التحالف كان أحد أغنى رجال مصر، وهو نجيب ساويرس والمنتمي الى عائلة مليارديرية، وقد تكلمنا عنها مسبقا. وساويرس كان مسيحيا قبطيا يؤيد قيام دولة علمانية وكان يعادي الاخوان المسلمين. ولكنه كان أيضا خصما قويا ومعلنة للإضرابات العمالية، وكان قد أيد تشديد قانون مكافحة الاضراب الذي قرره العسكر. إذن كان من الصعب أن يجد هذا الملياردير آذان صاغية بين العمال.

مع ذلك، يجب التريث من إعطاء صورة "المد" الاسلامي للانتخابات، كما تم غالبا وصفها. فإذا كانت غالبية الـ 27 مليون شخص، الذين أدلوا بصوتهم في الانتخاب، قد منحت أصواتها للإسلاميين، فإن جمهور الناخبين يقدر في مصر بـ 50 مليون شخص. "يقدر" وذلك لأنه في مصر، وكما في كثير من البلدان الفقيرة، لا توجد هناك احصاءات أكيدة. وإن غالبية اولئك الذين لم يذهبوا للانتخاب ينتمون بشكل أكيد إلى الفئات الاكثر فقرا من المجتمع المصري.

فسواء هنا في بلد غني مثل فرنسا، او حتى في بلد فقير مثل مصر، يقتصر الطابع "الديمقراطي" الذي تدعيه هذه الانظمة السياسية على تنظيم انتخابات في فترات منتظمة إلى حد ما، وحيث يبقى أشد الفقراء يتفرجون على الحياة السياسية عن بعد.

وتميزت الاشهر التي تلت بحملة الانتخابات الرئاسية وبسلسلة من المواجهات مع قادة الجيش. فقام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإلغاء الانتخابات التي فاز بها الاسلاميون في بداية عام 2012 واستحوذ على سلطة التشريع.

جرت الجولة الاولى للانتخابات الرئاسية في 23 و24 مايو 2012. فجاء مرشح الاخوان المسلمين، محمد مرسي، في أول الترتيب مع 24% من الاصوات، ويليه آخر رئيس وزراء لمبارك، احمد شفيق، والذي كان يظهر على أنه رجل تابع للعسكر.

أظهرت نتائج الجولة الاولى أن جزءا كبيرا من الاوساط الشعبية لم يقدم دعمه لمرسي. وكانت المشاركة في هذه الانتخابات أقل منها في الانتخابات التشريعية وذلك لأن عدد الناخبين قد انخفض من 27 الى 23.7 مليون شخص. فقد حصل مرسي والمرشح المدعوم من السلفيين، وهو على ما يبدو عضو "عصري" لدى الاخوان المسلمين، على أقل من عشرة ملايين صوت، في حين حصل الاسلاميون مجتمعين قبل بضعة اشهر على 17.7 مليون صوت.

وفي الجولة الثانية، في 17 يونيو 2012 ، إنتخب مرسي ولكن بـ 51.7% فقط من الأصوات مقابل خصمه. وكان جزء من ناخبي اليسار قد دعم المرشح المعارض لمرسي، مختارا ما كان يبدو له أهون الشرين.

وهكذا فقد ظهرت حالة سياسية جديدة. فأمام الاستياء المتزايد للجمهور وسخطه، اضطر قادة الجيش غلى التراجع. فتشكل معسكرين متواجهين، من جهة الاسلاميون في السلطة، وفي المقابل توجه ينادي بـ"الحداثة" وبالحفاظ على العلمانية، وقد انضم اليه بعض قادة الجيش.

الاخوان المسلمون في السلطة

عند وصوله الى السلطة، حاول مرسي كسب نقاط في صراعه مع قادة الجيش. فقام في اغسطس 2012 بعزل المارشال طنطاوي، رئيس مجلس القوات المسلحة ووزير الدفاع، وكذلك سعدي أنعم، رئيس الاركان، ليعينهما في مناصب اخرى.

كان "الانقلاب" محدودا جدا وذلك لأنه قد تم بموافقة بقية رؤساء الأركان. فقد كان البعض مرتاح من شغور مناصب كانوا يؤولون إليها. فسمحت هذه العملية بترقيات وظيفية طال انتظارها... وفي منصب وزير الدفاع تم تعيين الجنرال السيسي، الذي سوف يطيح بمرسي بعد عام.

كما استحوذ مرسي على السلطات التشريعية التي كانت بيد مجلس القوات المسلحة منذ حل مجلس النواب. وهكذا استعاد مرسي زمام المبادرة في المنافسة القائمة بينه وبين الدوائر العسكرية في قمة الدولة.

ولكن هذا التنافس في القمة لم يمنع من أن يراوده الاهتمام ذاته : التغلب على الاحتجاجات وإعادة تشييد سلطة قوية. وفي 22 نوفمبر، أصدر مرسي مرسوما سمح له بالاستحواذ على بعض صلاحيات السلطة القضائية. فولد تركيز السلطات هذا في يد مرسي، وعن حق، الخشية لدى جزء من الجماهير من عودة نظام دكتاتوري بعد أقل من عامين على سقوط مبارك.

فأضرب القضاة عن العمل في العديد من المناطق، كما سارت مظاهرات مهمة لمعارضة هذا القرار. وبالإضافة إلى الشرطة، كان على المتظاهرين مواجهة أنصار مرسي، ذلك لأن هذا الاخير كان يتمتع بميزة افتقدها من سبقه : وهي إمكانية الاعتماد على تعبئة أعضاء منظمة الاخوان المسلمين وعلى التأثير الذي توفره لمرسي في أوساط قسم من الشعب.

ولكن، نظرا لحجم المعارضة له، اضطر مرسي للتراجع وإلغاء قسم مهم من مرسومه.

كما واجهت مرسي معارضة متزايدة أمام محاولته إقامة نظام قائم على التعاليم الدينية.

وفي الدستور الذي تم اقراره، استبدل مفهوم "المساواة بين الرجال والنساء، والذي يعتبر مخالفا للشريعة الاسلامية، بصيغة ذبابية تتكلم عن "المساواة بين جميع المصريين، وضمن ذلك يتوجب على المرأة أن تجد توازنا بين واجباتها العائلية والمهنية".

كما تكلم الدستور الجديد عن "الطبيعة الحقيقة للأسرة المصرية، (...) أخلاقياتها وقيمها" التي على الدولة أن تحميها. وهناك فقرة تضمن "حرية الرأي والتعبير"، في حين تمنع الفقرة اللاحقة "إهانة أنبياء الأديان التوحيدية" بعتبارها الأديان الوحيدة المفترض أنها تحدد الأحوال الشخصية لكل مصري.

إن السلطة التي كان ينوي مرسي والإسلاميون إقامتها هي دكتاتورية رجال الدين إلى جانب شرطة آداب لملاحقة كل المخالفين، كالنساء اللواتي لا يرتدين الحجاب، أو كل من اعتبر سلوكه "منحرفا" ومخالفا للتعاليم الإسلامية. وهو ما شكل تهديدا بتراجع اجتماعي وسياسي لسائر المجتمع.

كان الشعور بهذا التهديد ينتاب على الاخص أوساط المثقفين والديمقراطيين ضمن البرجوازية الصغيرة والتي بدأت تنبأ قيام دكتاتورية دينية علي صورة نظام آيات الله في إيران.

وفي الأوساط الشعبية أيضا، كان الكثير لا يرغب بأن يتم مراقبة تصرفاته وأعماله اليوميه من قبل رجال الدين والأصوليين. في الواقع، لا العمال ولا النساء كانوا يقبلون بالخضوع الى هذا النوع من النظام الأخلاقي وقد أظهروا عن رفضهم هذا.

وخلال عام من رئاسة مرسي، لاحظ العمال بأن وصول الإسلاميين الى السلطة لم يغير أي شيء. ففي مواجهة تدهور الوضع الاقتصادي، قام مرسي، كما فعل مبارك من قبله، بمفاوضات مع صندوق النقد الدولي ومع البنك الدولي. وللحصول على قرض بـ4.8 مليار دولار، وكما فعل سلفه، إلتزم بفرض تضحيات على أكثر الناس فقرا، وخاصة مع خفض دعم المواد الحياتية الاساسية. فأعلنت الحكومة عن زيادات في أسعار المنتجات المدعومة، ثم تم تأجيل تطبيق هذه الزيادات تخوفا من ردود فعل شعبية.

كما واجهت الطبقات الشعبية نقصا في البنزين والخبز والعديد من المنتجات الغذائية الأخرى، مع ارتفاع الأسعار. وساءت الظروف المعيشة بشكل كبير في بضعة أشهر.

وأثناء حكم مرسي، قامت الحكومة، على جرار الحكومات السابقة، بارسال الشرطة ضد العمال المضربين الذين كانوا يتظاهرون. وكان هناك العديد من الاضرابات عام 2012 التي شهدت ارتفاعا حادا في الحراكات حيث سجل 1969 تظاهرة في تلك السنة و2400 في الربع الاول من عام 2013.

وفي سبيل مواجهة العمال المحتجين، سعى مرسي للاعتماد على بيروقراطيي الاتحاد العام للنقابات التابع للدولة والذي كان يكبح العمال زمن مبارك. وكان الدستور الذي صاغه الاسلاميون قد أعاد تأكيد احتكار الاتحاد العام على تمثيل العمال، ذلك أنه قد أثبت قدرته على لعب دور الشرطي بوجه العمال.

فخلال عام على رأس الدولة، تمكن مرسي من إثبات أن حكومته هي عدو لذوذ للعمال. وفي سبتمبر 2012، تم الحكم على خمسة نقابيين من شركة في الإسكندرية بالسجن لثلاثة سنوات وذلك لتنظيمهم إضرابا في أكتوبر 2011 شارك فيه 600 عاملا. وكان ذلك أعنف حكم صدر ضد عمال مضربين منذ زمن السادات !

وللعديد من الذين كانوا يأملون التغيير بعد رحيل مبارك، أصبح من الواضح أن السلطة الجديدة تشبه الى حد كبير السلطة السابقة. فكانوا محقين كل الحق في النزول من جديد إلى الشارع.

نشوء ائتلاف مناهض لمرسي

لكن فخا جديدا للعمال وللجماهير الفقيرة بدء بالتشكل لأن المعارضة ضد مرسي قد تحدد إطارها برفض الدكتاتورية الإسلامية. وفي هذه المواجهة، لم يكن لأي من هذين المعسكرين أن يمثل مصالح العمال.

في نوفمبر 2012، تشكلت "جبهة الانقاذ الوطني" الهادفة لجمع معارضي مرسي وهي قد شملت أحزاب من اليمين الى أقصى اليسار. ومن بين أبرز الناطقين باسم الجبهة هناك عمر موسى، وزير الخارجية السابق في عهد مبارك والامين العام الجامعة الدول العربية سابقا. والوجه المعروف الأخر إلى جانبه كان محمد البرادعي، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية وهوكان معارضا معتدلا جدا في السنوات الاخيرة لنظام مبارك.

وشارك في هذا التحالف غير المتجانس أفرقاء لا يجمعهم سوى معارضة مرسي. حتى هذا القاسم المشترك كان محدودا إذ أن الوزير السابق عمر موسى قد اقترح خطة من خمسة نقاط تضمنت تشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة مرسي.

لكن التحالف المعادي لمرسي هذا كان حريصا على عدم تقديم أي شيء للعمال على المستوى الاجتماعي. وبهذا الخصوص، تضمنت خطة عمر موسى أيضا "إعادة النظر بحق الاضرابات". فإن كان هناك اختلاف في وجهات النظر بين هذا السياسي وبين الإخوان المسلمين على دور الإسلام في الحياة السياسية، إلا إنهما كانا منسجمين تماما حول الموقف من العمال وكان مرجحا أن يتوافقوا على هذه المسألة.

وفي أبريل 2013، أطلقت حركة تمرد حملة للتوقيع على مذكرة تدعو لإقالة رئيس الدولة وإلى تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة. وكان من أطلق هذه الحملة هم أولئك المبادرين للمظاهرات في يناير 2011. وقد لبى ندائهم، وبسرعة كبيرة، جميع معارضي مرسي. في الواقع، لقد تحركت جميع الأحزاب، باستثناء الإخوان المسلمين، من أجل جمع التواقيع على هذه المذكرة. كما شاركت هذه الحملة القناة التلفزيونية التي يملكها الملياردير ساويرس.

وكان الهدف المعلن هو الحصول على 15 مليون توقيع على الأقل، أي أكثر من عدد الاصوات التي حصل عليها مرسي عند انتخابه، وذلك قبل 30 يونيو، ذكرى انتخاب مرسي، حيث ستنظم في هذا التاريخ مظاهرات تتويجا للحملة.

كانت حملة التعبئة هذه ناجحة ولاقت صدى هاما لدى الجمهور. وأكد منظمو الحملة أن المذكرة قد حصلت على 22 مليون توقيع.

كما شاركت النقابتان العماليتان المستقلتان في جمع التواقيع في أماكن العمل وفي المناطق الصناعية. وقدم العديد من العمال دعمهم لهذه الحملة. ونقلت الصحافة على سبيل المثال، في 27 يونيو 2013، في المحلة الكبرى، أن آلاف العمال قد خرجوا من مصانعهم وذلك للاحتجاج ضد خطاب ألقاه مرسي العشية، وقد تظاهروا في المدينة مرددين شعارات تطالب باستقالته.

وفي 30 يونيو 2013، كانت الاحتجاجات واسعة وأكثر حشدا من احتجاجات يناير 2011، وقد شارك العمال فيها بشكل واسع، وقدر عدد المتظاهرين بإثني مليون.

لا نستطيع تحديد ثقل وتأثير كل من المنظمات التي دعت الى هذه المظاهرات. فقد فرض قادة حركة تمرد، باسم وحدة الحركة، على المنظمات عدم رفع شعارها أو أي شيء آخر يميزها. ولم يكن شيء أخر مقبولا سوى العلم الوطني.

لكنه من المؤكد أن حركة تمرد قد حصلت على دعم سري إلى حد ما من بعض عناصر الجيش، وحتى من المؤيدين السابقين لمبارك الذين رأوا في ذلك فرصة للانتقام من الإخوان المسلمين.

وفي مساء 30 يونيو، دعى منظمو الحراك المتظاهرين الى احتلال الشارع إلى حين استقالة مرسي. وتم ارسال إنذار أخير له، في حالة رفضه، بإعلان العصيان المدني. كما وقعت اشتباكات، دامية في كثير من الاحيان، بين مؤيدي ومعارضي مرسي.

فبدأت مواجهة حاسمة ومفتوحة كانت نتائجها تعتمد على موقف الجيش. وكان ذلك متوقعا تماما.

وكان وزير الدفاع الجنرال السيسي قد صرح، قبل أسبوع من تظاهرة 30 يونيو أنه "من واجب القوات المسلحة التدخل لمنع مصر من الانزلاق فى نفق مظلم من الصراعات والاضطرابات". وفي 30 يونيو، أظهر الجيش بوضوح تعاطفه مع المتظاهرين. وخلال النهار، حلقت طائرات الهيلوكبتر فوق مواكب المتظاهرين في القاهرة، وكانت ترفرف في أذيالها أعلاما مصرية ضخمة. كان ذلك يبدو كدعم واضح لمعادي مرسي.

وكان ذلك أيضا، من جانب الجنرالات، استمرارا لعملية سياسية تهدف لتقديم الجيش كمدافع ومنقذ للشعب المصري.

وتكررت دعوات العديد من ممثلي الاحزاب المطالبة بتدخل الجيش من أجل إنهاء الازمة. وفي 3 يوليو، قام الجنرال السيسي بإقالة مرسي من منصبه، فاحتفل المتظاهرون بالخبر في شوارع القاهرة.

إن كل السياسة المتبعة من قبل منظمي حركة تمرد كانت سوف تؤدي إلى هذه النتيجة. فقد كان قسم كبير منهم يرغب بتدخل للجيش هذا ومن المؤكد أن بعضهم كان على اتصال وثيق مع رئاسة الاركان.

فسمح تهاوي شعبية مرسي لقادة الجيش باللاستحواذ مجددا على مقاليد السلطة بعد إبعادهم لمنافسين كانوا قد قبلوا بهم على مضض.

ومرسي كان قد أثبت أيضا عن عدم كفاءته في إنهاء حالة عدم الاستقرار الاجتماعي، وذلك بالرغم من محاولاته لذلك. هذا وقد أصبحت حالة الرفض التي ولدها لدى الجماهير عاملا اضافيا يزيد الاضطرابات. في نهاية المطاف، قام قادة الجيش بإقصاء مرسي للأسباب ذاتها التي دفعتهم للتخلص من مبارك قبل عامين ونصف.

عودة الجيش إلى السلطة

أصبح الجنرال السيسي الرجل القوي الجديد للسلطة. فقام بتعيين رئيسا للجمهورية بالنيابة، وقد وقع خياره على رئيس المحكمة الدستورية العليا. وشكل هذا الاخير حكومة بقيادة وزير مالية سابق في إحدى الحكومات التي جاءت بعد سقوط مبارك. وهكذا فتحت ما سمي بمرحلة جديدة من "التحول الديمقراطي".

هذه المرة كان الجيش يتمتع بدعم من معظم الاحزاب، من اليمين الى اليسار، وبقبول جزء من الجمهور، بما في ذلك قيامه بالقمع الممنهج.

وبالفعل، ففي نظر هذه البرجوازية الصغيرة التي تظاهرت في يناير 2011 ضد مبارك، ظهر الجيش "كالمنقذ" من التهديد الاسلامي.

استهدف القمع في البدء الاخوان المسلمين. كان تنظيم الاخوان يدعو للتظاهر ضد السلطة الجديدة، وفي كل مرة كانت هذه المظاهرات تنتهي بسقوط عشرات القتلى تحت رصاص الجيش. وشكل 14 اغسطس 2013 تصعيدا في القمع بعد أن فرق الجيش وبصورة دموية للغاية احدى هذه التجمعات، مسببا سقوط أكثر من 500 قتيل.

اختار الأخوان المسلمون هذه المرة اتخاذ موقف المعارضة المواجهة للانقلاب وذلك بإرسالهم إلى الموت، وعن سابق علم، من استجاب لدعواتهم بالتظاهر. يبدو أنهم وضعوا في حساباتهم أن هذا الموقف، وعلى المدى البعيد، من شأنه أن يعزز موقعهم لدى الرأي العام الشعبي، بالظهور بصورة الشهيد والمعارض لسلطة لا بد أن تفقد شعبيتها أيضا مستقبلا.

واليوم، فإن مرسي وجميع قادة الإخوان وأكثر من 2000 من النشطاء يقبعون في السجون. فقد تم حظر التنظيم وصودرت ممتلكاته. ولكن الإخوان المسلمين قد شهدوا في الماضي فترات من القمع، ومن المؤكد أن هذا التنظيم سوف يستمر في الوجود مرة أخرى سرا، خصوصا وأن القمع الذي يتعرض له قد يخف في المستقبل. ولا شيء يحول دون العوده الى حالة من الحل الوسط، كما في الماضي، بين الجيش المسيطر على الاجهزة الحكومية والإخوان المسلمين المقتصر دورهم على الإحاطة بالجماهير.

إن القمع الذي يتعرض له الإسلاميون اليوم قد يساعدهم مستقبلا على استعادة شعبية تأهلهم للمطالبة بالسلطة. ولاشيء يمنع قادة الجيش، في ظل ضعف السلطة في سياق أزمة اقتصادية، من الموافقة على منح الإسلاميين مساحة مجددا.

قد يجد الجيش والإسلاميون أرضية مشتركة وذلك لأن لدى هاتين القوتين النية ذاتها لكبح جماح الجمهور لجعله يقبل بمصيره، وهذا بكافة الوسائل الممكنة، بدءا بالدعاية الدينية، أي "أفيون الشعوب"، وانتهاء بالوسائل العنيفة. إن قادة الجيش ليسوا أقل رجعية من ملتحي تنظيم الإخوان. فالجنرال السيسي قد ذاع صيته في ابريل 2011 إثر دعمه من قاموا بإجراء فحوص عذرية، وبالقوة، على ١٧ متظاهرة اعتقلن في ميدان التحرير.

ولكن، وقبل كل شيء، فإن القمع الذي تقوم به سلطة العسكر لا يقتصر فقط على الإسلاميين. فقد وافق مكتب رئيس الوزراء على مشروع قانون جديد في 10 أكتوبر بشأن التظاهرات، وهو بانتظار التصديق عليه من قبل الرئيس المؤقت المعين من قبل الجيش. وهذا القانون يضع شروطا صارمة على حق التجمع وذلك بمنحه تفويضا مطلقا لقوات الأمن لقمع أي تمرد وبعنف، كما يلزم بإعلام وزارة الداخلية بأي تجمع في مكان عام يضم أكثر من عشرة اشخاص.

وفي أحد البيانات الصحفية الأخيرة لحركة تمرد، نقرأ : "إن القانون يحرم المصريين من حقهم في تنظيم الاعتصامات متناسيا أن الاعتصامات هي التي أسقطت الدكتاتوريات. فهل يخشى هذا النظام الإطاحة به كما حدث للأنظمة السابقة ؟" يطرح قادة الحركة هذا السؤال ـ أو يتظاهرون بطرحه ـ وهذا بعد أن دعموا كليا الانقلاب العسكري.

وخلافا لمرسي، حاول الجيش بحث إمكانية تسوية مع الحركة النقابية. فعين البرعي وزيرا للتكافل الاجتماعي، وهو الاكاديمي الذي، خلال عدة شهور بعد سقوط مبارك، قد أعطى الأمل حينها بتحرير التشريعات النقابية.

كما عين القائد النقابي أبو عيطة وزيرا للعمل، وهو أحد قادة الاتحاد المصري للنقابات المستقلة. وقد فهم أبو عيطة تماما ما كان مطلوبا منه، فصرح حين تولى منصبه : "إن على العمال الذين كانوا أبطال النضال في ظل النظام السابق أن يصبحوا أبطال الإنتاج".

ولكن ولحسن الحظ، وحتى اليوم، لم يردع الانقلاب العسكري العمال من النضال. فمنذ يوليو الماضي والإضرابات تطال العديد من الشركات.

فقد أضرب عمال الغزل والنسيج في المحلة الكبرى لعدة أيام في يوليو للحصول على قسط من علاوة الاجور ثم اضربوا من جديد في أغسطس ومرة أخرى في أكتوبر، وذلك لتنفيذ الوعود التي، في كل مرة، لا يطبق جزء منها.

في شهر اغسطس تدخل الجيش لكسر إضرابين مهمين : أحدهما في مصنع شركة سويس ستيل، مصنع للصلب أضرب فيه 2000 عامل لمدة شهر مطالبين بزيادة الاجور؛ والإضراب الاخر كان في شركة سيميتار بتروليوم حيث تدخل الجيش لكسر الإضراب بعد ثلاثة أيام من اندلاعه. وفي كلا الحالتين، تم أعتقال عدد من العمال وتسريح آخرين. وقد روى احد العمال ذلك: "في السابق، في عهد مرسي، عندما كنا نقوم بالإضراب، كنا نتهم بأننا من انصار مبارك، والآن نتهم بأننا من الإخوان المسلمين". الحقيقة أن القمع استمر ضد العمال.

ومن جهتهم، بدأ ارباب العمل هجومهم المضاد وخصوصا من خلال تسريح العمال الذين كانوا في المقدمة منذ عام 2011 .

ولكن تحطيم معنويات العمال المصريين كان بحاجة الى أكثر من ذلك، فهم قد استرشدوا الى سبيل النضال والى كيفية مواجهة حالات صعبة للغاية. ولا تزال الطبقة العاملة المصرية تبرهن اليوم عن روحها القتالية.

في مواجهة العمال المضربين، لم يجرؤ الجيش بعد على استخدام ذات العنف الذي أظهره في مواجهة الاخوان المسلمين. ولكن الطبقة العاملة ليست محصنة من انهيال قمع كهذا.

ذلك لأن قادة الجيش يسعون لإنهاء الاضرابات وكذلك كافة مظاهر الحراك الاجتماعي. وهذا ما تنتظره منهم البرجوازية المصرية التي دعمت رجوعهم إلى السلطة ووافقت على جميع قوانين مكافحة الإضراب التي سنت وعززت منذ سنتين، لكن من دون فعالية حتى اليوم.

وهذا ما تنتظره منهم لأيضا حكومات القوى الإمبريالية الكبرى وممثلو صندوق النقد الدولي الذين يطالبون الحكومة المصرية بأن تكون قادرة على تنفيذ خطط التكييف البنيوي، أي أن تكون قادرة على تجويع شعبها الفقير !

ماهي آفاق العمال ؟

وكخاتمة، وبعد ثلاثة سنوات على بداية "الربيع العربي"، ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها ؟

في العديد من البلدان حدثت تغيرات في قمة الدولة دون أن تتغير الدولة ذاتها ودون أن يكون هناك أدنى تغيير في الحالة الاجتماعية للعمال وللفقراء. في مصر، بدلا من نظام مبارك، جاء نظام يقوده عسكري آخر.

ولكن اقتصار ملاحظة على هذه الحالة فقط غير كاف. فخلال أكثر من سنتين ونصف تحركت الطبقات الاجتماعية وشارك الملايين من النساء والرجال في الحراك بدرجات متفاوتة، فناضلوا وطرحوا قضايا سياسية. وقد شارك العمال في كل هذه الحراكات.

ماهي الدروس التي استخلصتها جماهير العمال والفقراء من كل هذه الأحداث ؟ لا يمكن الإجابة على السؤال إنطلاقا من موقعنا خارج مصر. كما أنه ليس هناك من إجابة نهائية وذلك لأن الأمور لم تنته بعد. فالطبقة العاملة في مصر لا تزال مستمرة في النضال والمطالبة وترفض أن يسكت صوتها.

وطالما الأمر كذلك فهذا يتيح الوقت للنشطاء المتواجدين داخل الطبقة العاملة للبحث عن حلول لنضالهم. ونأمل أن هؤلاء النساء والرجال متواجدون عن حق وبأعداد كبيرة.

وعلى أية حال، فمن المؤكد أن النقاش والقراءة والبحث عن سبيل الأفكار الثورية أيسر اليوم مقارنة بعهد مبارك. وهذا بحد ذاته يدفع إلى الأمل.

وهناك سبب آخر للأمل، ففي بلد كمصر، ما أن حدثت حراكات تجد الطبقة العاملة حاضرة ومشاركة في الصراع. ذلك لأنها الطبقة الوحيدة القادرة على وهب مستقبل مغاير للجماهير الغفيرة من الفقراء والمستغلين.

وفي هذه البلدان التي تخنقها الإمبريالية ليس بمقدور البرجوازية وممثليها، على اختلاف أطيافها السياسية، إلا مستقبل واحد تقدمه للعمال : استمرار البؤس والاستغلال والدكتاتورية الناجمة بالضرورة عن ذلك.

قد تكون الطبقة العاملة أقلية ولكن في بلد كمصر فإنها تمثل قوة اجتماعية من أربعة إلى خمسة ملايين نسمة، متجمعة في المدن الكبرى، وهي قوة يعتمد عليها أداء الاقتصاد بأكمله.

إن بإمكان الطبقة العاملة استقطاب السواد الأعظم من المستغلين. وذلك بدءا بالجماهير الغفيرة لمختلف شغيلة المدن المرتبطة بالطبقة العاملة بفضل العلاقات العائلية أوعلاقات العيش المشترك في الأحياء.

ثم هناك الارياف التي تعيش حالة من الغليان حيث ملايين الفلاحين الفقراء الذين يشكلون هم أيضا حلفاء طبيعيين للطبقة العاملة.

إن الحق في العيش بكرامة والتمتع بأدنى حرية يتطلب على المستغلين فرضه على مستغليهم، أي على البرجوازية والمدافعين عنها.

إن ذلك يتطلب التصميم ولكن الرأسمالية في أزمتها لن تترك لهم خيارا، وهذا ينطبق على مصر كما في كل مكان. إن الرأسمالية اليوم ترفض الحق لأكثر من نصف المصريين بالعيش بأكثر من دولارين يوميا. إن استمرار تدهور وضع الأكثر فقرا يبين بأنهم، بنظر الإمبريالية، يحصلون أكثر مما يستحقون.

ولكن ذلك يتطلب أيضا من الطبقة العاملة بأن تكون قادرة على تنظيم نفسها بصورة مستقلة عن الطبقات الأخرى، لا للدفاع عن مصالحها المادية فقط، بالمطالبة بأجور أفضل وبشروط عمل أفضل، ولكن كي تقود صراعها الطبقي الى هدفه. يجب عليها أن تكون قادرة بالدفاع عن توجهاتها السياسية الخاصة وعن برنامج يستجيب لمصالح الطبقات الكادحة وعن الغالبية العظمى من الجماهير.

وفي المقابل، ليس الجيش "صديقا للشعب"، كما سعى الظهور. وفي كل الأحوال فإن قادته ليسوا كذلك. ولهذا فإن الطبقة العاملة ستجده حتما يقطع طريقها.

ولمواجهته فعلى الطبقة العاملة أن تنظم مليشياتها الخاصة بها، كما يجب عليها إيجاد حلفاء لها في داخل الجيش نفسه، وذلك باستقطابها جنود الصف إلى صراعها وبإبعادهم عن قيادة الجيش.

في مواجهة سلطة الطبقات المالكة التي ترفض منح "الحرية والعيش والعدالة الاجتماعية"، يجب على الطبقة العاملة ان تتهيأ لفرض سلطتها الخاصة باعتمادها على كافة الطبقات المستغلة الاخرى.

يجب ان تفرض سلطتها على البرجوازيات وعلى الطبقات الغنية للدول العربية، وكذلك على الإمبريالية كونها الرافض الاول للعيش وللعدالة الاجتماعية للجماهير الشعبية في هذه المنطقة، كما في بقية أنحاء العالم.

ولهذا فان الصراع هذا لا يمكن ان تقوده سوى الطبقة العاملة، الطبقة الوحيدة المنتشرة عالميا والتي من مصلحتها تحطيم هذا النظام القائم على الاستغلال في كل حدب وصوب.

لن ينقص العمال المصريون الحلفاء والمناصرين في صراع كهذا. فحلفائهم الطبيعيون هم عمال مناجم قفصة في تونس، وعمال وفقراء العالم العربي أجمعه، والذين، منذ 2011، يطالبون بـ "الخبز والكرامة والعدالة الاجتماعية".

وهذه المعركة تخص البروليتاريا كلها وفي كل مكان، في البلدان الفقيرة كما في البلدان الغنية. فإن عليها ان تناضل أكثر فأكثر من أجل البقاء ومن أجل الإطاحة بالإمبريالية.

في سبيل تحقيق هذا الهدف، تحتاج الطبقة العاملة امتلاك قيادتها السياسية الخاصة بها والقادرة على تنظيم نضالها يوميا، وعلى مساعدتها في توجهاتها، ولتحديد السياسة المتبعة تجاه الطبقات الاخرى. إنه لمن الضروري والحيوي أن يتواجد في داخلها حزب يحمل هذا الهدف.

إذا، نحن واثقون بالقدر النضالية للطبقة العاملة في هذه البلدان، وهي قد أثبتت عن ذلك في السنوات الاخيرة.

ونحن على ثقة كذلك بأنها قادرة على خلق جيل من الناشطين القادرين على بناء حزب هدفه إستيلاء الطبقة العاملة على السلطة، بناء حزب شيوعي ثوري.