لبنان: انفجار مرفأ بيروت ... وانفجار البلد - 2020

Imprimir
ترجمة

لبنان: انفجار مرفأ بيروت ... وانفجار البلد

من شهرية النضال الطبقي العدد 210 ، سبتمبر – أكتوبر 2020

في 4 آب / أغسطس 2020، أدى انفجار 2750 طنا من نترات الأمونيوم المخزنة منذ أكثر من ست سنوات في مرفأ بيروت إلى مقتل 191 شخص وإصابة 6800 جريح. تعرض وسط المدينة بالقرب من المرفأ للدمار، ودمرت مباني ومناطق سكنية، وأصبح 300 ألف شخص بلا مأوى.

ذلك مع أنه، على مد شهور حتى عشية الانفجار، قد تم تنبيه السلطات إلى المخاطر المحدقة دون اتخاذها أي قرار. وهذا الإهمال ليس غريبا في هذا البلد الذي يعاني من إهمال الدولة المزمن وإدارتها الفاسدة والمليئة بالمحسوبية.

لقد حدثت الكارثة في بلد يعاني أصلا من سلسلة من الأزمات. الأزمة الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة والمتفاقمة جراء الأزمة الصحية وتباطؤ الاقتصاد العالمي وبسبب تداعيات الحرب في سوريا. وبالرغم من بنيته التحتية المتداعية، يستضيف هذه البلد، ذو الأربعة ملايين نسمة، حوالي 1.2 مليون لاجئ سوري إضافة إلى 250 ألف لاجئ فلسطيني متواجدين فيه منذ عقود.

واضطرت حكومة حسان دياب إلى الاستقالة بعد الاحتجاجات التي أعقبت الانفجار في المرفأ. وتدخل هذه الاحتجاجات في سياق الغضب الشعبي الذي ولد حركة احتجاجية واسعة النطاق منذ الخريف الماضي.

 

عام من الاحتجاج على النظام

في أكتوبر 2019، شهد الشعب انهيارا هائلا في مستوى معيشته بسبب التضخم وتفاقم البطالة، ذلك بالإضافة إلى الانقطاع اليومي والمزمن للمياه وللكهرباء. وانفجر الغضب الشعبي إثر الإعلان عن إجراءات تقشفية جديدة وخاصة بعد فرض ضرائب جديدة. على مدى أشهر، أعرب مئات الآلاف من المتظاهرين عن رفضهم للنظام القائم وطالبوا برحيل القادة السياسيين باعتبارهم المسؤولين عن الوضع المذري الذي وصل إليه البلد. لم ينجح الترهيب والابتزاز بنشوب حرب أهلية في وضع حد لهذا الاحتجاج الذي تخطى الانقسامات الطائفية اللبنانية المعتادة. كما استمر الاحتجاج رغم استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري، في 29 تشرين الأول / أكتوبر، مع حكومته الائتلافية الجامعة لمختلف الأحزاب السياسية.

في ذلك الوقت، كان الدين العام قد بلغ ما يقارب الـ 90 مليار دولار، وتم تقديم الفاتورة إلى الشعب عبر إجراءات تقشفية لا تطاق. وفي كانون الأول / ديسمبر، أدى قرار البنوك بالحد من المبالغ المسحوبة بالدولار إلى زيادة الغضب، حيث لم يعد بإمكان الناس حتى الحصول على مدخراتها. ولم يتم تشكيل ما يسمى بحكومة التكنوقراط في 21 يناير / كانون الثاني إلا بعد مفاوضات مطولة بين القادة السياسيين. وكانت مهمة الحكومة، التي ادعت استقلاليتها عن الأحزاب الطائفية، إدارة البلاد في سبيل إخراجها من الأزمة. في الواقع، كان أعضاؤها تابعين للقادة السياسيين المغضوب عليهم، والذين باتوا يعملون في الكواليس. فلم يكن بمستطاع اللبنانيين وضع الكثير من الأمل في هذه الحكومة الجديدة بقيادة حسان دياب، وهو وزير سابق كان من الواضح عدم رغبته تلبية المطالب الشعبية.

في ربيع 2020، كشفت الأزمة الصحية عن إفلاس نظام الصحة العامة. وبينما أخمد الوباء الاحتجاج، تفاقمت الأزمة المالية. أعلنت الحكومة اللبنانية في 7 آذار / مارس، ولأول مرة في تاريخها، عن عدم قدرتها على دفع الـ 1.2 مليار دولار من الفوائد المستحقة عن الدين العام. فتم وضع حظر على جميع الحسابات الشخصية وحسابات الشركات بالدولار مما جعل الوصول إلى العملات الأجنبية شبه مستحيل. وقامت البنوك باحتجاز مدخرات جميع السكان. وبما أن البلد يستورد كل ما يستهلكه تقريبا، كان لنقص العملة الأجنبية عواقب وخيمة. وأمام انعدام امكانية استيراد قطع الغيار والمواد الخام، شهدت شركات الإنتاج تراجعا وتوقفا في نشاطها. فأدى إغلاق الشركات والتسريح الجماعي للعمال إلى تفاقم البطالة والفقر بشكل حاد.

وأصبح اللجوء إلى السوق السوداء الطريقة الوحيدة للحصول على الدولار الذي ارتفع سعره مع تدهور قيمة الليرة اللبنانية. حتى العمال الذين كانوا يتمتعون بمستوى معيشي لائق حتى ذلك الحين وقعوا في دوامة الفقر. عشية انفجار 4 أغسطس، كانت التقديرات تشير إلى أن أكثر من نصف السكان هم تحت خط الفقر. وانضم إلى العمال والموظفين العاطلين عن العمل العديد من المعلمين الذين تم فصلهم من المدارس الخاصة حيث لم يعد لدى أهالي الطلاب الامكانية لدفع الرسوم المدرسية. كما أن راتب الأستاذ الجامعي، الذي كان يعادل 4000 دولار في أكتوبر 2019، أصبح قيمته تتراوح بين 700 و900 دولار. وانخفض الحد الأدنى للأجور إلى ما يعادل الـ 70 دولار، وهو ما يعادل مستواه في أفغانستان. بالطبع، وجدت العائلات الثرية الكبيرة التي تحكم لبنان وسيلة لتحويل دولاراتها إلى البنوك الدولية. ويقدر أن أكثر من ستة مليارات دولار قد تم تحويلها إلى حسابات في الخارج، وهو أمر كان من شأنه تنمية الشعور بالغبن وزيادة الغضب لدى باقي الشعب.

إلى هذا الوضع الذي كان سائدا قبل الانفجار، يضاف الآن تدمير مرفأ بيروت، وهو المحور الاقتصادي الذي تمر عبره معظم البضائع المتجهة إلى لبنان وسوريا. إنها كارثة أخرى لكلا البلدين. فبفضل نظامها المصرفي ومينائها، كانت بيروت تسمح للشركات وللنظام السوري بتجاوز العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة. فبات الوضع الآن خانقا على الاقتصاد السوري. وفي لبنان، مع تدمير 80٪ من احتياطي قمح البلاد الذي كان مخزنا في صوامع المرفأ، بات خطر نقص الغذاء والمجاعة يلوح في الأفق على المدى القصير.

وقام إيمانويل ماكرون، أول رئيس دولة أجنبية يزور المكان بعد الكارثة، بالطلب من السلطات اللبنانية "إجابات واضحة على التزاماتها: إرساء دولة القانون والشفافية والحرية والديمقراطية، وتطبيق الإصلاحات الضرورية" ودعا إلى إقرار "منظومة سياسية جديدة". إنه لكلام مرائي من قبل زعيم دولة استعمرت لبنان وساعدت في تأسيس نظامه السياسي. وقد أفاد هذا النظام كثيرا الشركات الفرنسية الكبيرة الموجودة في لبنان، بدءا من البنوك مثل الـ Société Générale والـ  Crédit Agricole، التي غذت الدين العام واستفادت منه.

 

بموقعه في قلب الأزمات التي تجتاز الشرق الأوسط، ظل لبنان ضحية للتدخلات الإمبريالية والمنافسات الإقليمية. والماضي يلقي بثقله على الحاضر لذلك علينا التذكير بدور فرنسا في تشكيل لبنان وكذلك بالحرب الأهلية التي دمرت البلاد بين عامي 1975 و1990.

 

بلد كونه الاستعمار الفرنسي

خلال الحرب العالمية الأولى، والتي كان من بين أهدافها السيطرة على الأراضي الواقعة تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، قامت فرنسا وبريطانيا العظمى بتقاسم هذه الأراضي في اتفاقيات سايكس بيكو السرية. وبعد الحرب، قاموا بتفكيكها أكثر بهدف تسهيل السيطرة عليها. فقسمت الحدود الجديدة الشعوب العربية. وفرنسا، التي حصلت على تفويض لإدارة القسم الذي يشكل لبنان وسوريا الحاليين، اختارت حينها الاتكاء على المسيحيين الموارنة اللبنانيين من خلال إنشاء دولة لبنان الكبير. ففي الأول من أيلول / سبتمبر 1920، ولدت هذه الدولة الصغيرة الي تم ترسيم حدودها بشكل يجعل الطائفة المارونية ذات الأغلبية السكانية، في حين تم تهميش الأقليات الدينية الأخرى.

 

لقد أدى إنشاء لبنان الكبير إلى قطع سوريا عن شواطئها، وانقطعت دمشق عن بيروت، منفذها الطبيعي على البحر الأبيض المتوسط. وأدى هذا الانقسام إلى تعطيل خطوط التبادل الاقتصادي والاجتماعي القائمة منذ عدة قرون، وفصل سكان لبنان عمدا عن المراكز الرئيسية للقومية العربية.

 

لم تخجل فرنسا العلمانية من سن الدستور اللبناني على أساس الهياكل المذهبية الموجودة داخل الإمبراطورية العثمانية. فتم تعريف كل مواطن بحسب ديانته، وذلك حتى في أوراق الهوية. عند استقلال البلاد في نهاية الحرب العالمية الثانية، كرس "الميثاق الوطني"، الذي أبرم بين زعماء الديانات الرئيسية، النظام الطائفي ولا سيما هيمنة زعماء المجتمع المسيحي. فذهبت رئاسة الجمهورية إلى مسيحي ماروني، ومنصب رئيس الوزراء إلى مسلم سني، ومنصب رئيس مجلس النواب إلى مسلم شيعي، فيما توزعت مقاعد النواب حسب النسبة النظرية لمختلف الطوائف والمقدرة اعتمادا على إحصاء واحد لم يتكرر. فوجد اللبنانيون أنفسهم، سواء كانوا مؤمنين أم غير مؤمنين، مقيدين بـ "طائفتهم" المعلنة وقادتها المفترض أن يمثلوها. وظل الزواج، مثله مثل جميع شؤون الأسرة، تحت حكم سلطات الطوائف الدينية الثمانية عشر المعترف بها رسميا في البلاد. للتمكن من الالتفاف على منع الزواج بين الأديان، لا يزال يتعين على الأزواج الذهاب والزواج في قبرص، بالطبع شريطة أن يتمكنوا من تحمل تكاليف ذلك.

 

وهكذا، من خلال قطع لبنان عن سوريا وأيضا عن طريق تأليب المجتمعات اللبنانية ضد بعضها البعض، تمكنت الإمبريالية الفرنسية من التفريق في سبيل السيادة، ففرضت هيمنتها على مستعمرتها حتى بعد الاستقلال. وشهدت البرجوازية المسيحية المارونية ازدهارا لأعمالها. وبفضل مينائها وتواجد البنوك الفرنسية الكبرى، أصبحت بيروت المركز المالي والتجاري الرئيسي في المنطقة، وجعلت الشركات الفرنسية منها بوابتها إلى الشرق الأوسط.

 

مع استغلال حقول النفط في العراق ودول الخليج، أصبحت المنطقة أساسية للاقتصاد العالمي. لفترة طويلة، وضع أمراء النفط وطبقة كاملة من الأثرياء الجدد أموالهم في المصارف اللبنانية. وساعدت السرية المصرفية في جعل البلاد ملاذا ضريبيا يناسب جميع المعاملات القانونية وغير القانونية. كان لبنان، الملقب آنذاك بـ "سويسرا الشرق"، مقارنة بجيرانه، ملاذا آمنا للبرجوازية الكبيرة ولثرواتها.

 

بعد استقلال الدول العربية، لم يتضاءل الضغط الممارس من قبل القوى الإمبريالية، خاصة ضد الأنظمة القومية في العراق وسوريا ومصر التي كانت تحاول الهروب من قبضتها. كما شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تراجعا لنفوذ فرنسا وبريطانيا لصالح الولايات المتحدة التي أصبحت سيدة اللعبة. كما أبرمت هذه الأخيرة تحالفا لا يتزعزع مع دولة إسرائيل الجديدة. وبفضل هذا الدعم الإمبريالي، استطاعت إسرائيل شن حروب متتالية وظافرة ضد الدول العربية وقمع مقاومة الشعب الفلسطيني. ولبنان لم يكن بعيدا عن هذه الصراعات.

 

الحرب الأهلية 1975-1990 وتقطيع أوصال البلد

في أوائل السبعينيات، لم تعد الجماهير اللبنانية الفقيرة تقبل بعدم المساواة الاجتماعية وبازدراء الطبقات الحاكمة لها. ولاقى نضالها تشجيعا مع تمرد الفلسطينيين الذين طردتهم إسرائيل من أراضيهم والذين لجأوا إلى لبنان. وأدى خروج الجماهير اللبنانية والفلسطينية الفقيرة إلى الساحة الاجتماعية والسياسية إلى توليد الأمل في إحداث تغيير عميق. فتوالت المظاهرات والإضرابات العمالية والتي قوبلت بتعاطف سكان الدول العربية المجاورة. لا الإمبريالية ولا قادة إسرائيل ولا قادة الدول العربية كانوا ليسمحوا باستمرار هذا الوضع الذي كان بإمكانه أن يؤدي إلى ثورة جماهيرية في جميع أنحاء المنطقة. أما بالنسبة للقادة الفلسطينيين، فلم يكن في الوارد لديهم أخذ زمام المبادرة في نضال من هذا القبيل. فهدفهم كان مقتصرا على إقامة دولة فلسطينية، وكانوا يعولون في سبيل ذلك على دعم الحكام العرب. فكان من الضروري أن يبرهنوا أنهم حكام موثوق بهم ويحترمون النظام الاجتماعي القائم.

 

في نيسان 1975، بدأ حزب الكتائب المسيحي الفاشي مواجهة مع الفلسطينيين والجماهير اللبنانية التي كانت متضامنة معهم. فكان ذلك بداية حرب بين الحزب المسيحي اليميني المتطرف وأولئك الذين أطلق عليه لاحقا اسم "الإسلاميون التقدميون". عام 1976، تدخلت سوريا في لبنان لمنع انتصار الفريق الأخير على اليمين المسيحي المتطرف والذي تركته يرتكب مذبحة بحق الفلسطينيين في مخيم تل الزعتر. وهكذا أراد نظام حافظ الأسد أن يظهر كضامن للنظام الإمبريالي القائم وأيضا كمحاور أساسي للقوى الأخرى.

 

استمرت الحرب الأهلية، ولكن سرعان ما تلاشى مضمونها السياسي والاجتماعي، مما أفسح في المجال للمواجهة بين مختلف الميليشيات التي تشكلت على أسس طائفية. ولمدة خمسة عشر عاما، حتى عام 1990، أصبح لبنان ساحة صدام بين فصائل مختلفة، مدعومة ومسلحة وممولة من قبل قوى متنافسة، كل منها يهدف إلى الدفاع عن مصالحه في المنطقة.

 

في عام 1982، احتلت إسرائيل جنوب لبنان وأنشأت جيشا هناك. ردا على ذلك، ظهر حزب شيعي جديد على الساحة السياسية والعسكرية: حزب الله، بدعم من سلطة آيات الله الجديدة في إيران. لم تنته الحرب الأهلية إلا بعد توقيع اتفاقيات الطائف عام 1989 تحت رعاية القوى الغربية والسعودية. وكان من المفترض أن تؤدي هذه الاتفاقيات إلى نزع سلاح الميليشيات وخروج القوات الإسرائيلية والسورية من لبنان. توقف القتال، لكن الاتفاقيات لم تنفذ قط فعليا: لم تغادر سوريا ولا إسرائيل البلاد حينها، كما احتفظ العديد من الميليشيات بأسلحتها.

 

أودت الحرب بحياة أكثر من 200 ألف شخص، لكن النظام السياسي الذي ولدها بقي قائما. فتوصل قادة الطوائف المختلفة إلى حل وسط يكرس تفتيت البلاد على أسس طائفية. واستفاد هؤلاء من انهيار الدولة اللبنانية والانهيار الاقتصادي. هربت رؤوس الأموال من البنوك وانهارت الليرة اللبنانية، لكن العديد من المضاربين أصبحوا أثرياء. وبفضل الأموال المرسلة من إيران ودول الخليج، كانت الميليشيات قد اغتنت بممارستها للحرب وللأعمال التجارية معا. وبعد الحرب، خرج أمراءها، سواء كانوا مسيحيين أم شيعة أم سنة، أقوى عسكريا وماليا، ولكل منهم نفوذه في منطقته، وذلك على حساب عدد لا يحصى من المجازر والدمار، وكانوا يأملون تثمير هذه النفوذ. وشكلت مرحلة إعادة إعمار البلاد واستمرار التوترات الجيوسياسية فرصة لتحقيق ذلك.

 

إعادة الإعمار

كان رفيق الحريري مهندس إعادة الإعمار. وهو ابن عائلة سنية متواضعة، قرر في السبعينيات الهروب من الحرب الأهلية والاستقرار في المملكة العربية السعودية حيث أصبح مستثمرا عقاريا، واكتسب ثقة العائلة المالكة. وبعد أن أصبح الرجل الخدوم لديهم، إلى حد تأمين بائعات الهوى للأمراء، حصل على الجنسية السعودية وتمكن من الوصول إلى ثرواتهم. كما تمكن من توسيع أنشطته لتشمل الخدمات المصرفية والعقارات والصناعة والهواتف المحمولة ووسائل الإعلام وأصبح مليارديرا. وخلال الحرب الأهلية، حرص الحريري على تمويل جميع الميليشيات. بعد ذلك، كرئيس للوزراء من 1992 إلى 1998، ثم من 2002 إلى 2004، عمل على ضمان تعاون زعماء الطوائف من خلال توزيع إدارات مختلف الصناديق والخدمات العامة عليهم. ففتح الطريق أمام تقاسم القطاعات المربحة كشركة التبغ وصندوق الضمان الاجتماعي وقطاع الهاتف وشركة الكهرباء الوطنية وشركة المياه ... لم يفلت شيء من سيطرة مختلف زعماء الطوائف.

 

وهكذا، عهد إلى نبيه بري، زعيم حركة أمل الشيعية ورئيس مجلس النواب الحالي، بصندوق مجلس الجنوب المخصص لتعويض ضحايا الاحتلال الإسرائيلي. ووقع صندوق المهجرين في يد وليد جنبلاط، زعيم الطائفة الدرزية. واحتفظ رفيق الحريري، الذي أصبح آنذاك زعيم الطائفة السنية، بمجلس الإنماء والإعمار المخصص لإعادة تأهيل البنية التحتية. وهو قد أولى القليل من الاهتمام لاحتياجات الطبقات الدنيا في النقل والصحة والكهرباء. أما سوليدير، شركته العقارية، فحصلت دون صعوبة على عقد إعادة الإعمار، بشكل يناسب رجل الأعمال الجشع هذا. وهكذا، إلى جانب الأحياء المدمرة، تحول وسط بيروت إلى مركز أعمال حديث للغاية لا مكان فيه للطبقات الشعبية.

 

في فبراير 2005، توفي رفيق الحريري في هجوم اتهمت سوريا بالوقوف وراءه، مما أجبرها في النهاية على إخلاء جيشها من لبنان. ترك الحريري بلدا عليه ديون هائلة. فهو قد أتاح النهب غير المحدود للأموال العامة، وكرس سلطة عشائر الطوائف المختلفة التي تسمح لهم مؤسساتهم الخيرية وشبكات الاعانة بتأطير السكان، وخاصة الأكثر فقرا الذين غالبا لا يكون لديهم خيار سوى اللجوء إليها في سبيل التمكن من الوصول إلى الرعاية الصحية والسماح بالتوظيف في الإدارة وحل المشكلات الإدارية أو مع العدالة. وأمام فشل الدولة، تفشت المحسوبية والفساد ضمن العلاقات الاجتماعية أكثر من أي وقت مضى. واستمر هذا المنحى مع خلفاء رفيق الحريري ولا سيما مع نجله سعد، رئيس الوزراء حتى خريف عام 2019.

 

مؤسسة كهرباء لبنان، رمز الفساد

تظهر حالة شركة الكهرباء الوطنية نتائج تفكك مؤسسات الدولة. في أوائل السبعينيات، كانت شركة كهرباء لبنان تنتج ما يكفي من الطاقة لتزويد الأراضي الوطنية وحتى بيع الطاقة لسوريا. ثم جاءت الغارات والقصف الإسرائيلي خلال الحرب الأهلية والتي تكررت بين عامي 1996 و2000 وأخيرا خلال الحرب التي شنتها إسرائيل ضد حزب الله عام 2006، لتؤدي إلى تدمير جزء من محطات الطاقة والمحولات. وبموازاة ذلك، انتشر التعدي على الامدادات الكهربائية تحت غطاء الميليشيات. وقام الفساد بمفاقمة العجز المالي.

 

فالمبالغ الكبيرة المخصصة لصيانة الشبكات الكهربائية تبخرت في عقود باهظة تم ابرامها مع شركات خاصة مرتبطة بالزعماء أنفسهم. ومع قلة الصيانة الشبكة، تراجعت قدرة شركة كهرباء لبنان على توفير الطاقة، ذلك بموازاة زيادة الطلب. وتم استغلال هذا النقص من قبل بائعي المولدات الكهربائية. ففي سبيل الحصول على الطاقة الكهربائية بشكل مستمر، لم يعد أمام الشركات والأفراد المقتدرين أي خيار آخر سوى تجهيز أنفسهم بالمولدات الكهربائية أو الاشتراك في شبكات مولدات غير رسمية. وقد بلغ حجم مبيعات هذا القطاع الملياري دولار، وهو معفى من أي ضريبة. أما السكان غير القادرين على تحمل تكلفة هذه المولدات، فحكم عليهم تحمل انقطاع التيار الكهربائي. ففي بيروت، على سبيل المثال، العديد من الناس لا يحصلون على الكهرباء إلا لمدة ساعتين فقط في اليوم، وفي بعض المناطق فهي شبه معدومة. ومن البديهي أن الآلاف من بائعي المولدات والمستفيدين من أعمال التركيب الصيانة لها، لا يرحبون باحتمال عودة مؤسسة كهرباء لبنان إلى انتاج كاف.

 

أم المسؤولون عن تدهور الشركة فهم الزعماء الكبار. فمؤخرا، تم توزيع مبلغ 500 مليون دولار، مخصص أساسا لإصلاح قطاع الطاقة، بين كبار المسؤولين والمستثمرين والزعماء السياسيين. ويقدر البنك الدولي أن ما يقارب 40٪ من ديون البلاد (90 مليار دولار) تأتي من البالوعة الذي تشكلها مؤسسة كهرباء لبنان.

 

آلة الاستدانة الجنونية

بموازاة توزيع حصص مؤسسات الدولة على زعماء الطوائف، أراد رفيق الحريري أن يستعيد لبنان صفته كـ"سويسرا الشرق". وكلف رياض سلامة، الذي أصبح محافظا لمصرف لبنان المركزي، بإنقاذ النظام المصرفي وباجتذاب المستثمرين الماليين بسرعة وبشكل كبير. فبدأ سلامة بفرض تكافؤ ثابت بين الليرة اللبنانية والدولار. ثم وضع آليات مالية تعتمد على معدلات فائدة مرتفعة للغاية جذبت رؤوس الأموال إلى البنوك اللبنانية، قادمة من البنوك الفرنسية ومن مختلف أنحاء الشرق الأوسط. وقام أرباب العمل اللبنانيين في القطاع الإنتاجي بتصفية مصانعهم لوضع أموالهم في البنك حيث كان مردود الفائدة أكثر ربحا. فتضرر القطاع الصناعي الضعيف أصلا. أما رياض سلامة فقد أصبح نجما في الأوساط المالية العالمية التي منحته على عامين لقب أفضل حاكم مصرف مركزي. لكن سلامة كان مضطرا إلى الاقتراض بشكل دائم من أجل دفع فوائد القروض السابقة، وذلك بموازاة الاستمرار برفع معدلات الفائدة بهدف جذب رؤوس الأموال. فبلغت أسعار الفائدة نسب تراوحت بين 6٪ و20٪، وذلك حسب ثروة المودعين، وإلى ما يناهز الـ 40٪ لبونات الخزانة. على شاكلة المباني الحديثة الشاهقة التي تم بناؤها في العاصمة، تواصل سعر الفائدة منحاه إلى الارتفاع حتى أن وجد البنك المركزي نفسه في ربيع عام 2020، غير قادر على دفع الفائدة، فانتهى سباق الاستدانة الجنوني. إذ بلغ دين العام الـ 90 مليار دولار، أي ما يعادل 170٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وأعلنت الدولة عن إفلاسها.

 

كانت الفترة الممتدة بين عامي 2006 و2010 أوج مرحلة اجتذاب أموال البنوك والتي بلغت حد الـ 20 مليار دولار، وهو رقم قياسي. إذ أصبحت بيروت آنذاك ملجأ للأموال، وخاصة كمحطة في تجارة الأسلحة. كانت الأموال تتدفق من المملكة العربية السعودية، وكذلك من إيران التي كانت تمول وتجهز ميليشيات حزب الله. خلال حرب عام 2006، تمكن حزب الله من التصدي لهجمات الجيش الإسرائيلي، الذي يعتبر الأقوى في الشرق الأوسط. وساعدت هذه المقاومة الشرسة، مقارنة بمقاومة الجيش اللبناني غير القادر على الدفاع عن البلاد، على زيادة شعبية حزب الله بشكل كبير بين جميع السكان، حتى خارج المجتمع الشيعي.

 

وابتداء من عام 2014، أدى الانخفاض المستمر في أسعار النفط إلى انخفاض حاد في موارد الدولتين المانحتين للبنان، إيران والمملكة العربية السعودية. كما عانى لبنان من تداعيات الحرب في سوريا التي تفاقمت بسبب التنافس بين هاتين القوتين الإقليميتين. فدعمت إيران نظام بشار الأسد وقدمت الموارد المادية والمالية للـ7000 مقاتل من حزب الله اللبناني الذين شاركوا إلى جانب الجيش السوري. ودعمت السعودية الميليشيات الجهادية، بعد أن توقفت عن دعم الجيش اللبناني تخوفا من أن ينتهي السلاح الموهوب بأيدي حزب الله. وتصاعدت التوترات بعد انتخاب ترامب في الولايات المتحدة في أواخر عام 2016. كما أن إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران قد أجبرت هذه الأخيرة بتقليس تمويل حزب الله. وهكذا بدأ تضاؤل مصدرين هامين لتمويل لبنان.

 

في عام 2018، أمام الإفلاس الذي هدد البلاد، جمع صندوق النقد الدولي مانحيه الرئيسيين في باريس، خلال مؤتمر سيدر. وأسفر ذلك عن وعد باستثمار أكثر من 10 مليارات دولار في الاقتصاد اللبناني مشروطا بتنفيذ إصلاحات وخطة تقشف جذرية. لكن مع وجود حكومة مشرذمة بين قوى سياسية ذات مصالح متضاربة، لم يكن بمقدورها تطبيق هذه الشروط وأصبح الإفلاس أمرا لا مفر منه.

 

ادعاءات الإمبريالية الفرنسية

اليوم، ليس للشعب اللبناني شيء إيجابي يأمله من خطة صندوق النقد الدولي. فهي، في محاولة لاستعادة التوازن المالي، تهدف فقط إلى زيادة الفاتورة على الشعب. كما أن ليس للشعب ما يأمله من ماكرون الذي زار لبنان مرتين خلال ثلاثة أسابيع، متظاهرا بفهم سخطه ومدعيا الرغبة بالعمل لتخفيف العبء عنه. في كل زيارة، اعتنى الرئيس الفرنسي بصورته، فزار المرفأ المدمر واختلط بالسكان المصابين واستعرض القوات الفرنسية المسؤولة عن المساعدات الإنسانية، وكلل المسرحية بزيارة للمغنية الكبيرة فيروز ليظهر تفهمه للروح اللبنانية! إن هذه الزيارات في الحقيقة تقع في خطى أسلافه من رؤساء فرنسا، مهما كان لونهم السياسي، وتدخلهم بالشؤون اللبنانية.

 

لا يمكن للإمبريالية الفرنسية أن تتجاهل ما يجري في لبنان، مستعمرتها السابقة والتي ما زالت تعتبرها ضمن دائرة نفوذها. ورد ماكرون على من اتهموه بالتدخل، بأنه إذا لم يتدخل، فستتدخل القوى الأخرى. من خلال موقفه وملاحظاته ذات الطابع الاستعماري، أكد ماكرون أن فرنسا تنوي الاستمرار في لعب دورها في المنطقة. والرسالة كانت موجهة لزعماء الطوائف ليتم تشكيل حكومة على وجه السرعة، وتنفيذ الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي. كما أن رسالة ماكرون كانت موجهة للقوى التي تمدد نفوذها في المنطقة، من تركيا وصولا إلى إيران.

 

وباتت مسألة إعادة إعمار مرفأ بيروت، الحيوي لاقتصاد المنطقة بأسرها، محط منافسة. من سيفوز بهذا العقد؟ يمكن لتركيا الاعتماد على دعم أوساط الطائفة السنية اللبنانية. والصين، التي لطالما ما ابتغت مرفأ طرابلس في شمال لبنان، تربطها علاقات جيدة مع حزب الله. أما ماكرون، فهو لا يريد أن يستثنى من المفاوضات ويريد تقديم العقود لجميع شركات المقاولة الفرنسية التي يمكنها المشاركة في إعادة الإعمار. بوجود الفوضى الحالية والتوترات العسكرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، أصبح لبنان مرة أخرى في قلب قضايا جيوستراتيجية لا تصب بمصالح الشعب.

 

العمال والطبقات الشعبية في مواجهة الأزمة

ضرب انفجار مرفأ بيروت بلدا كان متضررا بشدة جراء الأزمة الاقتصادية العالمية. وإذا كانت الطبقات الشعبية هي التي تعاني بشكل حاد من عواقبها الاجتماعية، فالبرجوازية الصغيرة والمتوسطة، التي كانت تتمتع حتى ذلك الحين بمستوى معيشي مرتفع نسبيا في المنطقة، قد تضررت أيضا. فالتجار وأرباب العمال الصغار والمحامون والمعلمون شهدوا إفقارا غير مسبوق، مما دفعهم إلى المشاركة بنشاط في حركة الاحتجاج التي نشأت في الخريف الماضي. كما اتخذ البعض منهم موقع الناطق بإسم الغضب الشعبي في وجه الطبقة السياسية الفاسدة والدولة الفاشلة. ومن قبلها في عام 2015، كانت قد أدت أزمة جمع النفايات إلى اندلاع حركة احتجاجية ضد الزعماء السياسيين. تحت عنوان "طلعت ريحتكم"، كانت هذه الانتفاضة مقدمة لانتفاضة 2019-2020. كما كانت تدل على أن النظام السياسي القائم على الانتماءات الدينية، والموروث من العصور الوسطى، قد أصبح غير محتمل، ولا سيما لدى البرجوازية الصغيرة.

 

على غرار الانتفاضات التي هزت العراق والجزائر والسودان، طرحت انتفاضة 2019-2020 في لبنان شعارات تدعوا إلى رحيل كامل الطبقة الحاكمة، وهو ما دل عليه شعار "كلن يعني كلن". بعد سنوات من الحرب الأهلية والتدخلات العسكرية واحتلال القوى الأجنبية وتهجير السكان والتفجيرات والمجازر، أعرب المتظاهرون عن رفضهم الاستمرار في المعاناة من تداعيات هذا الوضع والصراعات بين العشائر التي استولت على ثروات البلد وأفلسته. ومع ذلك، عندما يتحدثون عن الحاجة إلى تغيير سياسي جذري، فإن معظم الناطقين باسمهم يقتصرون على الدعوة إلى "حكومة جيدة، عادلة وغير فاسدة". إن هذا ما يشكل نقطة ضعف هذا الاحتجاج. لأنه لن تكون هناك حكومة عادلة ونزيهة في لبنان، ولا في أي مكان آخر في العالم، طالما أن الإمبريالية تهيمن على المنطقة وتستخدم في سبيل ذلك مجموعات سياسية محلية تقوم برعايتها. منذ خريف عام 2019، كان هذا المأزق واضحا، وبالتأكيد ليست وعود ماكرون ما سيجعل من الممكن الخروج منه.

 

يواجه اللبنانيون اليوم وضعا مأساويا في بلد تتركز فيه وتراكم سلسلة من الأزمات. فإلى عبثية تقسيم العالم العربي، يضاف بناء سياسي عبثي بنفس القدر موروث عن الاستعمار الفرنسي، تم تطعيمه بنتائج الأزمات والحروب في الشرق الأوسط والضغوط وتدخلات القوات العسكرية للإمبريالية وللقوى الإقليمية بهدف الحفاظ، بأي ثمن، على هذا الصرح العديم الاستقرار. إن الحفاظ على الانقسامات والصراعات بين الدول وبين المجتمعات أمر ضروري للإمبريالية والطبقات الحاكمة المحلية، ليس فقط بهدف تحصيل حصتهم من ثروة المنطقة والتنافس عليها، ولكن أيضا بهدف إبعاد الجماهير الشعبية وكسر كل محاولاتها للتخلص من الاستغلال والقهر. يقدم لبنان نموذجا مركزا لهذه الأزمات، وليس الترهل الشديد للدولة وعدم مسؤولية الطبقات الحاكمة سوى حالة قصوى، بصبغة محلية، عن الوضع العام في زمن الإمبريالية المنحطة.

 

الأزمة المالية نفسها، التي تسببت في انفجار كل التناقضات الاجتماعية اللبنانية في الأشهر الأخيرة، ما هي إلا انعكاس لأزمة عامة وهي أزمة الرأسمالية المالية، حيث قد لا يكون للبحث عن الربح أي علاقة مع النشاط الإنتاجي وتلبية حاجات المجتمع. صحيح أن تأثيرها هائل على صرح هش ومليء بالأزمات كالصرح اللبناني، لكن من المؤكد أن محاولات ترميم هذا الصرح ليست هي التي يمكن أن تقدم للجماهير اللبنانية امكانية الخروج من الوضع الراهن.

 

"ثورة"، هذا ما كتب على مجسم شيد في ساحة الشهداء ببيروت في مظاهرات شهر آب الأخيرة. نعم، إن الأمر يتطلب ثورة، ليس فقط في لبنان، ولكن في جميع أنحاء الشرق الأوسط، للتمكن من إزالة الشبكة الهائلة من منظومات القهر والصراعات والانقسامات التي تمكنت الإمبريالية والطبقات الحاكمة من بنائها، والتي تنهار اليوم من جميع الجهات.

 

10 سبتمبر 2020

 

مصدر النص: https://www.union-communiste.org/ar/lnsws-bllg-lrby

النص باللغة الفرنسية: https://mensuel.lutte-ouvriere.org//2020/09/13/liban-lexplosion-du-port-de-beyrouth-et-celle-du-pays_151444.html