أزمة الاقتصاد الرأسمالي - 2011

چاپ
ترجمة

في العدد 132 من مجلة "النضال الطبقي" - ديسمبر 2010 - يناير 2011

إن الرد السريع للدول ألإمبريالية في مواجهة الأزمة المصرفية التي اندلعت في 15 أيلول/سبتمبر 2008 بسبب فلاس بنك ليمان براذرز، وهو واحد من أكبر مصارف الأعمال في الولايات المتحدة، بوضع مبالغ هائلة تحت تصرف البنوك - حوالي 3000 مليار دولار -، وبوضع القروض شبه المجانية التي قدمتها البنوك المركزية إلى البنوك الأخرى، كل ذلك حال دون أن تؤدي أزمة الثقة الخطيرة بين البنوك نفسها إلى انهيار النظام المصرفي العالمي بكامله .وهذا الأخير قد عاد للمضاربة من جديد، وبذلك تم استبعاد ما تسميه البنوك "أزمة شاملة". لكن الوسائل المستخدمة للتخلص من هذه المرحلة من الأزمة المالية أنتجت عناصر لمرحلة جديدة تزداد سوءا يوما بعد يوم.

إن ضخ مبالغ ضخمة في النظام المصرفي في ذلك الوقت تحت أشكال متنوعة قد ساعد على خلق تضخم نقدي على المستوى العالمي. ومن الجدير بالذكر أن تدخل الحكومات الأوروبية وحدها قد ناهز 1800 مليار يورو ، أي ما يعادل 14% من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي. في حين أن مجمل العملات والقروض قد ارتفع بنسبة 13 إلى 15% سنويا وذلك منذ بداية الألفية الثالثة، وهي نسبة لا علاقة لها بتطور الإنتاج الذي ظل راكدا. وقد ارتفعت هذه النسبة مجددا بشكل عال في النصف الثاني من العام 2008 لتصل إلى 30% سنويا.

إن السيولة النقدية العالمية التي مثلت في 1988 ما يعادل أقل قليلا من 8% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، قاربت في بداية 2009 أكثر قليلا من 18% من نفس هذا الناتج المحلي الإجمالي. وبهذا تكون مصرفية الاقتصاد قد تجاوزت خطوة كبيرة إضافية.

تفاقم ديون الدول

كان من نتائج ضخ مليارات الدولارات لإنقاذ النظام المصرفي تفاقم ديون الدول. وهذا ينطبق على جميع الدول دون استثناء.

وقد بلغ الدين العام الفرنسي في النصف الأول من 2010، 1535 مليار يورو، أي 80.3% من الناتج المحلي الإجمالي (ففي عام 2008 كان هذا الرقم 67% من الناتج المحلي الإجمالي)، وفي عام 2009 كان 73.2% في ألمانيا و85% في الولايات المتحدة و96.7% في بلجيكا و 115% في إيطاليا.

إن الدين العام قديم قدم الدول. وقد لعب دائما دورا هاما لصالح البرجوازية.

إن تفاقمه الحاد كنتيجة لإنفاق الدول في الفترة 2008-2009 لإنقاذ النظام المصرفي ومساعدة الشركات الكبرى، ناتج من ضرورة مزدوجة: هي حاجة الدول للاقتراض لمواجهة استحقاقاتها، والأخرى تمويل استثمارات رؤوس أموالها.

إن ديون الدول هي مصدر دخل للبنوك حيث أن إدارة الديون السيادية تمثل جانبا رئيسيا لنشاط هذه البنوك، وتمثل الفوائد المدفوعة على هذه الديون، مصدرا للدخل يتجدد ذاتيا. فإن الدول مضطرة للاقتراض حتى تدفع استحقاقات ديونها.

في ميزانية فرنسا المتوقعة لعام 2011، أصبح تسديد الدين أكبر بند من بنود الإنفاق، متجاوزا الانفاق على التعليم. كانت الفوائد وحدها، أي مساهمة الدولة في سداد أرباح البنوك، تصل في 2009 إلى 43 مليار يورو. وهو مبلغ يضاهي العجز المعلن في صندوق المعاشات في حدود سنة 2018. هذا المبلغ في حد ذاته، والذي لا يمثل سوى جزء صغير من الأموال التي تذهب من خزينة الدولة إلى خزائن رأس المال الخاص، يمكن أن يكفي لتحقيق التوازن في صندوق المعاشات حسب نمط عملها الحالي و دون الحاجة إلى تأخير سن التقاعد أو زيادة عدد سنوات المساهمة في هذا الصندوق.

إن سوق ما يسمى بـ"الديون السيادية"، أي السوق التي تباع وتشترى من خلالها الأوراق التي تمثل ديون الدول (سندات الخزينة، وسندات الدولة، الخ.) أصبحت واحدة من الأسواق النادرة ذات النمو السريع. إن هذه السوق، الذي تعمل بها عشرون من كبرى بنوك الأعمال لحسابها الخاص ولحساب مجموعات مالية تمثل الطلب، وهي كذلك سوق مضاربة عالية. والمضاربة هي رهان على قدرة الدول المقترضة على الوفاء باستحقاقات ديونها، ووضع سعر الفائدة الذي سيدفع على أساس هذا الرهان.

إن الأزمة المسماة بـ "اليونانية" أعطت هذه السنة الصورة الإيضاحية. فإن السوق، أي البنوك الكبرى المسؤولة عن إصدار القروض والتي تتوقع أن الدولة اليونانية ستجد صعوبة في الوفاء باستحقاقاتها، فرضت أسعار فائدة ربوية، مفاقمة بذلك زيادة أعباء كلفة الدين. وكان ذلك طريقا لإجبار اليونانيين على زيادة مساهمتهم في أرباح القطاع المصرفي، والذي تمثله في بلدهم البنوك الغربية خاصة، وبالذات الفرنسية منها : كريدى أجريكول، وبي إن بي ـ باريبا وسوستيه جنرال.

وبسبب أن البلدان المختلفة لمنطقة اليورو، ورغم وجود عملة موحدة فيها، وبسبب أنها تسدد قروضها بمعدلات مختلفة، فإن هذا يثير التوتر بين دول هذه المنطقة. ففي ذروة "الأزمة اليونانية"، فإن اليونان لم يتمكن من الاقتراض إلا بمعدلات ربوية تصل إلى 12%، بينما تقترض الحكومة الألمانية في ذات الوقت بمعدلات تصل 2.6%.

لقد أصبحت الديون السيادية الدافع لقوة طرد مركزي هامة ، وذلك في نيسان/أبريل وأيار/مايو من هذا العام ، وقد هددت بالتحول إلى أزمة في منطقة اليورو، وحتى في الاتحاد الأوروبي نفسه. وعلى أية حال فإنها، نسفت ميثاق الاستقرار المنصوص عليه في معاهدة ماستريتش نفسها.

لقد كانت هذه المعاهدة واحدا من الاتفاقات بين دول ذات مصالح مختلفة تحيط بتاريخ ما تسميه البرجوازيات "البناء الأوروبي". وبدافع من ضرورات اقتصادية قوية، وبالنظر إلى تداخل الاقتصادات القومية الأوروبية ـ وحتى العالمية في الواقع ـ فإن البرجوازيات الأوروبية تظل عاجزة في الوقت نفسه عن الانصهار في نسق سياسي واحد، في شكل وحدة أوروبية ، داخل هذه الفسيفساء من الدول الذي يتشكل منها الاتحاد الأوروبي.

هناك فعلا عملة موحدة، ـ ولكن بين ستة عشر بلدا فقط من مجموع سبع وعشرين ـ، ولكن ليس هناك دولة موحدة لدعمها وتنفيذ سياسة نقدية موحدة وسياسة ضرائبية منسقة.

إن معاهدة ماستريتش ، بمعاييرها ـ أي نوع من اللائحة الداخلية للملكية المشتركة ـ، تتميز بإهتمام الأكثر ثراء من مشتركي الملكية بعدم تحمل الأعباء نيابة عن الملاك "سيئي السداد". كانت الدول الأكثر ثراء في منطقة اليورو، خاصة ألمانيا، ترفض مقدما سداد العجز عن الدول ألأكثر فقرا. نعم للاشتراك في عملة موحدة ولكن يبقى كل في بيته، دون مسؤولية جماعية ودون تضامن. ومن هنا كانت هذه الشروط المفروضة لدمج بلد ما : دين أقل من 60% من الناتج المحلي الإجمالي وعجز في الميزانية لا يتجاوز 3% .

إن هذا التنظيم الحكيم نسف بسبب انفجار الدين العام. فلم يعد يبقى في منطقة اليورو دولة واحدة ديونها تقل عن 60% من الناتج المحلي الإجمالي. ولم تبق دولة واحدة ميزانيتها متوازنة. إن العجز في ميزانية الدولة الفرنسية، على سبيل المثال، سوف يتجاوز هذا العام 8.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى بكثير من 3% المسموح به من قبل ماستريتش، أما ديونها المقدرة بـ 80.3% من الناتج المحلي الإجمالي ، فانها تواجه بالـ 60% المنصوص عليها في معايير هذه الاتفاقية.

أمام خطر إفلاس الدولة اليونانية الذي قد يؤدي لدى الدول الاخرى إلى مسلسل من ردود الافعال مشابه لتلك التي أعقبت إفلاس ليمان براذرز في عام 2008 فإن قادة الدول الأكثر غنى في أوروبا، وخصوصا ألمانيا، اضطرت، برغم ترددها في الدفع، للتصرف سريعا بموجب خطة إنقاذ أخذت صيغتها النهائية في 2 آيار/مايو 2010.

واتفقت أخيرا بالتعاون مع صندوق النقد الدولي على تخصيص مبلغ 110 مليار لليونان وإنشاء "صندوق أوروبي للاستقرار المالي" بقيمة 750 مليار يورو وذلك في حالة إذا ما لحقت البرتغال وإيرلندا وإسبانيا (ولم لا إيطاليا ؟).

لقد تجنبت الدولة اليونانية الإفلاس، وتجنبت البنوك خطر تبخر ديونها. وهنا أيضا فإن كمية النقد المتداول ازدادت, وكذلك تفاقمت أعمال التمويل وعلى الشعب اليوناني أن يتحمل إنقاذ البنوك العاملة في بلده عن طريق خطة تقشف صارمة.

إن مديونية الدول قد وصلت لدرجة سيستغرق الرجوع إلى ميزانيات متوازنة سنوات عدة, وذلك في حالة الخروج من الأزمة, وهو شيء غير وارد حاليا. ولهذا فإن الدول مقيدة بشكل متزايد بالسوق المالية حتى في تأمين ميزانيات التشغيل بها.

وهكذا تضطر الحكومة الفرنسية إلى الاقتراض أكثر من مليار يورو كل يوم {400 مليار دولار سنويا !} لتغطية مصروفاتها. و لكنها كلما استدانت فإنها تزيد إنفاقها بسبب دفع الفوائد على الأموال المقترضة.

وبدرجات متفاوتة، فإن كافة الدول قد لفت حول عنقها حبل مشنقة الديون العامة.

الدول تحت إشراف البنوك الكبرى

إن جميع الدول تخضع لإشراف عشرين من بنوك الأعمال الكبرى التي تشكل السوق المالية وبعض الوكالات الكبرى للتصنيف الائتماني التي تمثل في الواقع مصالحهم.

إن مجرد عدم اتباع سياسة تقشفية، أي عدم القدرة على فرض إجراءات اقتصادية على الشعب في مجال الخدمات العامة وعلى رواتب العمال وأعدادهم، يكون هذا كافيا لتصنيف وضع دولة ما كمتدهور، وهو مايؤدي إلى ارتفاع معدل الفائدة على الأموال المقترضة. وحدها الولايات المتحدة تستطيع إلى حد ما التخلص من هذا الضغط، إذ أن خصوصية الاستفادة من عملتها القومية كعملة عالمية لا يبدد عدم ثقة سوق رؤوس الأموال، التي هي في وضع يسمح لها بعكس نتائج عدم الثقة هذه على الاقتصادات الأخرى.

وهكذا تكتمل الدائرة . فمن أجل مساعدة البنوك غرقت الدول في الديون . هذه الديون نفسها تمنح البنوك الكبرى وسائل اضافية لتقييد الدول. إن سياسة التقشف المتبعة من قبل كافة الدول دون استثناء ينبع من ضغط رأس المال الضخم.

ومهما اختلفت سياسات التقشف هذه من بلد إلى آخر، وذلك حسب ثراء اقتصاده، وحسب قدرة حكومته على فرض تدابير أكثر أو أقل صرامة، فهي تحمل في كل مكان ذات المضمون الطبقي : تحرير حصة متزايدة من الصناديق العامة ووضعها تحت تصرف الطبقة المهيمنة. فواحدة من السبل لتحقيق ذلك هو خفض الضرائب على الطبقة البرجوازية. وهكذا، ففي فرنسا فقد أدت الإعفاءات الضريبية وتخفيض الرسوم، والثغرات الضريبية المختلفة إلى خسارة الميزانية نحو مئة مليار يورو. ولكن خيار تخفيض الضرائب على البرجوازية يعني أن سياسات التقشف سوف تستمر بعد الأزمة.

إن الزيادة الضخمة في كم النقد العالمي وحاجة مالكيه الملحة لاستثماره تؤدي ميكانيكيا، إن صح التعبير، إلى موجات من المضاربة. وبالرغم من أن حشود اقتصادي البرجوازية قد حللت أسباب الأزمة المالية لعام 2008، وعلى الرغم من أنهم جميعا قد أشاروا إلى مسؤولية المضاربة وإلى تكوين "دوائر مضاربيه"، فبمجرد أن تم التغلب على أزمة الثقة بين البنوك عادت المضاربة بعنف !

وهناك "دوائر مضاربة" أخرى في طور التكوين. "إن الارتفاع الجنوني لقيمة الذهب يخشى أن يكون "دوائر مضاربة" (جريدة ليزيكو)، "إن الخوف من دوائر السندات يظهر من جديد" (ليزيكو، 9 أيلول/سبتمبر 2010)، " إن الارتفاع الحاد للقطن يؤدي إلى معاناة العاملين في مجالي المنسوجات والملابس "(ليزيكو، 23 آب/أغسطس 2010) : هذه العناوين للصحافة المتخصصة ذات مغزى بخصوص الحركة المالية التي تعبر من منتوج مالي إلى آخر ومن مادة أولية إلى أخرى.

مجاعات المضاربة

كما هو الحال في 2008، فإن واحدة من أكثر الجوانب البغيضة للمضاربة هي كونها تشمل المواد الغذائية،

وأنها أخذت أبعادا تنذر بالكوارث.

إن مستوى أسعار المواد الأولية قد بلغ ذروته في ربيع عام 2008. ومنذ ذلك الحين، فقد شهدت الأسعار بالتأكيد انخفاضا ، ولكن دون أن تعود إلى ما كانت عليه في الفترة السابقة. وبالتالي فإن القدرة الشرائية للشعوب في البلدان الفقيرة قد انخفضت إلى حد كبير منذ عام 2008. ولكن منذ ربيع عام 2010، شهدت المواد الأولية الغذائية مجددا ارتفاعا كارثيا في الأسعار : 60 إلى 80% للقمح، 40% للذرة، 30% للسكر، و 33% لرز، وذلك في غضون ثلاثة أشهر.

 

وإذا كانت بعض العناصر التقنية أو المناخية تفسر جزئيا هذه الزيادة، فإن العامل الأساسي هو المضاربات المالية. في الواقع وعلى الرغم من الحرائق الكبيرة التي أثرت على روسيا مع عواقبها على الزراعة، فإن المحاصيل ومخزون الحبوب ليست سيئة. فالطلب العالمي ما زال مستقرا. وارتفاع الأسعار لا يتطابق مطلقا مع صعوبة في الإنتاج أو التبادل. إنه ناتج بصورة خاصة من وصول لكميات ضخمة جديدة من رؤوس الأموال إلى السوق المالية العالمي.

 

ففي خريف عام 2010، تمكن صندوق مضاربة في غضون أقل من أسبوع من شراء 7% من الإنتاج العالمي للكاكاو بمبلغ مليار دولار، وذلك لغرض وحيد هو التسبب في رفع الأسعار وتحقيق أرباح سخية.

 

وفقا لتقرير صادر عن منظمة الفاو (منضمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة)، فان 2% فقط من المعاملات الآجلة في أسواق المواد الأولية تنتهي بتبادل سلعي حقيقي.

إن كل هذا النشاط المالي له كلفة كارثية على الشعوب . فأسعار المواد الغذائية ترتفع أحيانا بشكل انفجاري، كما هو الحال في موزمبيق، حيث ارتفع سعر القمح في شهر أيلول| سبتمبر بنسبة 25%، وكان هذا بدرجة غير محتملة بالنسبة للشعب وهو ما أدى إلى اندلاع انتفاضات الجوع. وفي الكاميرون، فان البعض يتحدث حاليا عن "ندرة صامتة". فلا توجد في الأسواق المحلية قناني غاز ولا سمك الماكريل ولا سكر. واذا وجدت فبأسعار باهظة. وبسبب ندرة اللحوم والأسماك، فإن المستهلكين يلجؤون إلى النجاما نجاما (نوع من الخضار) التي ارتفع سعرها من 50 إلى 150 فرنك افريقي . وفي ساحل العاج، ارتفع سعر قنينة زيت النخيل سعة 90 سنتي لتر من 600 فرنك افريقي في العام الماضي، إلى 900 فرنك أفريقي حاليا. إن الارتفاع الحاد للأسعار يشمل الحليب المجفف والبيض والبطاطا. وتبقى الايجنام (نوع من البطاطا) بعيدة المنال، أما اللحوم فلا فحدث ولا حرج.

 

وإجماليا، فمنذ 2008، ارتفع العدد التقديري للأشخاص المعرضين للخطر بسبب سوء التغذية من 850 مليون إلى حوالي مليار نسمة. وتلك هي النتيجة الرياضية للمضاربات المالية.

إن الفرق الوحيد مع الفترة 2007-2008، هو أن المضاربة تخص مبالغ إجمالية متزايدة وذلك بسبب طباعة النقد في السنوات 2008-2009.

 

 

الدوائر المالية الضالة تحل بديلا عن التضخم الجامح

خلافا لمخاوف الأوساط المالية، وحتى لمخاوف القادة السياسيين للقوى الإمبريالية الكبرى، فإن الإفراط في طبع الأوراق المالية لم يترجم ،على الأقل لحد الآن، بعودة التضخم القوي لسنوات السبعينيات.

 

إن أزمة الاقتصاد الإنتاجي بحد ذاتها تشكل عنصرا أساسيا يوضح أن الإفراط في إصدار الأوراق المالية لا يترجم إلى تضخم مفرط. إن الأزمات الاقتصادية في الاقتصاد الرأسمالي، وذلك في الماضي البعيد وحتى أزمة 1929، لم تترجم فقط إلى تصاعد البطالة بسبب اغلاق المصانع وخفض معدلات الأرباح، ولكن إلى انهيار في الأسعار أيضا. في الغالب، عندما يبدأ الانتعاش الاقتصادي، وذلك بازدياد الطلب في حين يكون العرض غير قادر على تلبيته بسرعة، تميل الأسعار نحو الارتفاع ويتكرس التضخم . إن اقتصاد البلدان الإمبريالية الكبرى ليس على هذه الحالة الآن. فإمكانات الإنتاج مستغلة في حدودها الدنيا والبطالة تثقل على الرواتب. "إن سيناريو التضخم الحاد سيكون لا أساس له طالما كان العالم في حالة عمالة ناقصة، أي لفترة طويلة"، وهذا ما يؤكده الاقتصادي باتريك أرتوس، الذي يضيف : "إن المصدر الوحيد للتضخم كان أخيرا ذلك التذبذب الذي عرفته أسعار بعض المواد الخام بدءا من النفط".

علاوة على ذلك ، فكل شيء يجري كما لو كان الاقتصاد متداخلا وكأن كميات النقد الإضافية الناتجة عن الإفراط في الطباعة قد أستوعبت تماما من قبل النظام المالي نفسه. وبشكل ما، فإنها تسمح للمجموعات المالية بخوض لعبة الاحتكار الهائلة للمضاربة، وذلك إلى جانب أو فوق الاقتصاد الحقيقي. ولا تكفي جاذبية الوسط المالي وحدها، أي بمعنى الأرباح التي تحققها رؤوس الأموال المستثمرة، لتوضيح هذا التداخل الفعلي. إن النظام المصرفي في حد ذاته يساهم في هذا إلى حد كبير. حيث أن السياسة الائتمانية للمصارف، ومن خلال تحبيذ أنواع معينة من القروض، واستبعاد أخرى، فإنها تقوم بدور منظم الفرز. ومما له دلالته فإنه برغم من وفرة السيولة النقدية، فإن القروض الاستهلاكية سجلت في فرنسا تراجعا تاريخيا خلال سنة 2009.

 

قرر البنك المركزي الأميركي، الفيد، مؤخرا في إطار خطة إنعاش، ضخ 600 مليار جديدة في الاقتصاد وذلك عن طريق شراء سندات الخزانة الأمريكية. لكن هذا المبلغ الهائل لن يستثمر في الشركات الأمريكية ولافي الإنتاج الفعلي لأن الأسواق لا تنمو. وسيوجه معظم هذه المليارات الـ 600 من قبل هذه المصارف نفسها، نحو الاستثمارات المغرية الموجودة. وبالفعل فإن ما يسمى بالبلدان البازغة تقول إنها ضحية لتدفق العملات الصعبة، وتخشى من اضطرابات بسبب المضاربة تؤثر على عملتها أو على المواد الأولية وخصوصا النفط والمنتجات الغذائية.

 

بإعطائه الأولوية للقروض التي تؤدي بطريقة أو بأخرى إلى استثمارات مضاربة ، فإن النظام المصرفي لا يدعم فقط هذه الاستثمارات، ولكنه يضخمها. وبما إن المضاربين يشبهون القطيع، فإن سياسة الائتمان في النظام المصرفي تشجع الاندفاع نحو هذا النوع من الاستثمار أو ذاك، وهذا يعني تشكيل دوائر مضاربة، محملة بمخاطر انهيار البورصات. وهكذا يستبدل التضخم على نحو ما بتشكيل دوائر مضاربة تنتقل من منتج مالي إلى آخر، ومن مادة أولية إلى أخرى.

أدى امتزاج هذه العوامل إلى معدل تضخم على المستوى العالمي يقدر بنحو 1%، شريطة أن يكون لهذا الرقم الناتج عن عملية حسابية على كافة عملات الدول الإمبريالية الكبرى، معنى . ولكن التضخم المحسوب بهذه الطريقة قد يكون الأدنى الذي شهده الاقتصاد العالمي منذ عام 1945.

 

إلا أن هذا لم يمنع ارتفاع الأسعار، خاصة بالنسبة للمنتجات أو الخدمات التي تهم الطبقات الكادحة، يشهد بذلك في فرنسا ارتفاع الإيجارات أو الغاز والكهرباء فضلا عن تذبذب سعر النفط..

 

إن الوسط المالي ليس عالما معزولا مفصولا عن الإقتصاد الإنتاجي. إنه نفس الاقتصاد. فالأرباح المالية تتأتى في نهاية المطاف من فائض القيمة، وهي متقاسمة بين القطاعات الإنتاجية والقطاع المالي. إن زيادة نصيب القطاع المالي كنتيجة لركود وحتى لتراجع الاستثمارات الإنتاجية، تتحول بدورها إلى عامل ذي خطورة أكبر .

 

من جهة أخرى، ستؤثر الزيادة الضخمة في السندات التي تمثل ديون سيادية في موازنة المصارف والنوعية المختلفة جدا لهذه السندات حسب مصداقية الدولة التي أصدرتها، تؤذن من جديد بالتهديد باندلاع أزمة ثقة في النظام المصرفي. فمن الآن وصاعدا، وهذه المرة بسبب حجم ديون الدول المشكوك في تحصيلها، تبدأ الحالة الشاذة التي نشأت مع أزمة السيولة لعام 2008 : على الرغم من الكمية الهائلة من السيولة المتوفرة لدى المصارف، فإن سريانها قد تباطأ في سوق ما بين المصارف. في حين أن الحياة الاقتصادية اليومية تسير على إيقاع عدد لا يحصى من المعاملات والقروض والائتمان... ففي حال جفاف هذا التدفق المالي، فان الاقتصاد بأكمله يشل، كما أوشك على ذلك بعد إفلاس مصرف ليمان براذرز.

 

إن إحدى المضاربات التي تقوم على مبالغ طائلة هي تلك المضاربة التي تخص العملة. ففي كل يوم يتم تداول 4000 مليار دولار في سوق الصرف، أي ما يعادل 60 ضعفا من المبلغ اليومي للتجارة العالمية (وفقا لمصرف التسويات الدولية). إن هذه المضاربة متأصلة في النظام النقدي العالمي الحالي، مع التقلب المستمر للعملات الرئيسية بعضها مقابل البعض.

إن اليورو قد حل إلى حد ما المشكلة للبلدان الأوروبية المنتمية إلى منطقة اليورو. لكنه هو نفسه متقلب أمام الدولار والين واليوان، وحتى بالمقارنة مع بعض العملات الأوروبية الأخرى في منطقة اليورو ، كالجنيه الاسترليني، والفرنك السويسري وعملات أخرى.

إن أي تطور منظور أو متوقع لسعر صرف عملة مقابل أخرى يؤدي حتما إلى حركة مبالغ طائلة من المال.

 

فكمية العملات الصعبة المتحركة، إما لاستثمارها في بلدان يبدو وضعها الاقتصادي جيدا بشكل مؤقت (البرازيل أو الصين) أو للبحث عن مأمن بعيدا عن الخطر، أو لأسباب مضاربة قحة، كل هذا يؤدي إلى تقلب أسعار الصرف، الذي يثقل على التجارة الدولية.

لكن اجتماعات القمة، من قمة مجموعة الثمان إلى قمة مجموعة العشرين، التي تعددت وبالرغم من أن صندوق النقد الدولي وضع "القضاء على الفوضى النقدية الحالية" في بؤرة اهتمامات جمعيته السنوية، فإن هذه الاجتماعات انتهت إلى فشل ذريع. وإذا كانت القوى الكبرى تأسف لكل هذه الفوضى ، فإن حلولها مختلفة بل ومتناقضة. وذلك لأن تقلبات العملة بعضها مقابل البعض ليست من نتائج المضاربة فقط، حتى ولو كانت هذه الأخيرة تضخمها.

إن السياسة النقدية للدول تجعل من العملة وسيلة حماية بل سلاح اقتصادي في الحرب التجارية الدائرة بين القوى العظمى.

سعر الصرف سلاح للحمائية

تتبع الولايات المتحدة بصورة خاصة من أجل انعاش اقتصادها سياسة داخلية تضخمية من المال السهل والديون، وفي الخارج تتبع سياسة الدولار الضعيف لتشجيع تصدير السلع الأمريكية إلى السوق العالمية للحد من الواردات. ولكن رغم اعتمادها هذه السياسة الحمائية فإنها تحاول الضغط على الصين لتمنعها من القيام بنفس السياسة.

 

وتدعي الولايات المتحدة بأن الصين تقوم بإغراق السوق العالمي في قطاعات كثيرة ببضائعها الرخيصة نظرا للانخفاض الكبير في سعر صرف عملتها الوطنية، اليوان. وهذا نفاق مزدوج. لأنه يعني في الواقع عدم الاكتراث بالاستغلال الشرس للطبقة العاملة الصينية، وتدني الأجور وظروف العمل السيئة، التي تقلل تكاليف الإنتاج في الصين. إن هذه التكاليف المنخفضة عن طريق الاستغلال المفرط للعمال الصينيين يستفيد منه في المقام الأول المجموعات الصناعية الغربية أو اليابانية، ناهيك عن تايوان وهونغ كونغ وسنغافورة، التي تقوم بالإنتاج داخل الصين لحساب السوق العالمية، وناهيك ثانيا عن شركات التوزيع الكبرى، خاصة الأمريكية منها، مثل ذلك وول مارت. وبعد هذا كله توجه الولايات المتحدة اللوم في حين أنها ذاتها تتبع سياسة الدولار المقدر بأقل من قيمته.

 

وبالرغم من إن الولايات المتحدة لم تحصل بعد على إعادة تقييم اليوان حسب مطالبها، فإنها حصلت بالفعل على عدم ربط اليوان بالدولار. وقد رفع فعلا بنسبة 2.2% منذ حزيران| يونيو 2010. ولكن هذا ليس كافيا بالنسبة للمسؤولين الأمريكيين.

 

وتصف صحف الإثارة امتلاك المصرف المركزي الصيني ما يعادل من 2640 مليار دولار {نهاية أيلول| سبتمبر، بأنه تعبير عن تزايد قوة الصين بالنسبة إلى الولايات المتحدة، حيث أن الجزء الأكبر منها في صورة عملة أو سندات أمريكية ـ وهذا يشكل أكبر احتياطيات للدولار في العالم خارج الولايات المتحدة. ومع ذلك فإن هذا العرض متحيز لأن ما تملكه الصين من الدولار يجعلها أكثر تبعية للولايات المتحدة وليس العكس. فالولايات المتحدة لها السيادة في إصدار الدولار، ولديها الإمكانات في أن تلقي بتضخمها على بلدان العالم الأخرى، بما في ذلك الصين.

 

وبعبارة أخرى، فإن أي انخفاض لقيمة الدولار، مقصودا أم لا، فإنه يحت في احتياطات الصين المتراكمة، والتي لا تملك حتى إمكانية استبدالها بعملة صعبة أخرى دون أن يلحق ذلك أضرارا جسيمة باقتصادها.

 

وإذا كان صحيحا أن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة هي من طراز لعبة "أمسك بك و تمسك بي من اللحية"، فإن الصين هي الأكثر هشاشة من الولايات المتحدة في السوق العالمية التي ما زالت هذه الأخيرة تسيطر عليه.

 

في حرب العملات هذه، فإن القوى الإمبريالية من الصف الثاني في منطقة اليورو، هي المتضررة. لأن الدولار، وبصورة أخرى اليوان، يستند الى دولة قومية واحدة، قادرة على إدارة سياسة نقدية. فالولايات المتحدة ،على سبيل المثال، تطبق سياسة الإفراط في طبع العملة تحت شكل إعادة الشراء من قبل المصرف الفدرالي {فيد} لأوراق تمثل ديون الولايات المتحدة. وهذا له ميزة مزدوجة : فمن جهة تخفيض ديونها، ومن جهة أخرى تضعف الدولار وبالتالي تشجع صادراتها.

 

أوربا وتحديدا منطقة اليورو، لا تملك نفس الإمكانات. حيث أن السماح للمصرف المركزي الأوربي {بي سي إي} بطبع العملة يتطلب موافقة دول المنطقة الست عشرة وعلى وجه الخصوص البلدين الامبرياليين المهيمنيين: ألمانيا و فرنسا. لكن هذين البلدين ليس لهما نفس المصالح. فألمانيا نظرا لبنية صادراتها تتأثر بقوة اليورو أقل من فرنسا، وأقل بكثير جدا من إيطاليا و إسبانيا.

إن عدم الاستقرار المالي قد ارتفع منذ عام 2008 إلى مستويات لا سابق لها. حيث عمليات مالية محمومة تتبعها انحسارات مفاجئة تجعل العالم المغرق بالعملات على حافة أزمة السيولة. فالمضاربة على العملات التي هي واحدة من عناصر عدم الاستقرار المالي، تضخمه بدورها.

 

وإذا كان ساركوزي يتحدث عن الحاجة إلى نظام نقدي عالمي جديد، فان كل ما يقوم به هو الحديث عنه فقط. فنظرا لتناقضات المصالح القومية، فلن يولد غدا نظام نقدي عالمي مماثل لذلك الذي أنشيء في بريتون وودز عام 1944. فهذا ا النظام الجديد كان قد تم تأسيسه، لأن الولايات المتحدة كانت في ذلك العصر القوة الوحيدة الكبرى القادرة على فرض إرادتها وعلى الحصول على موافقة الجميع. فبالرغم من أنها لا تزال القوة الاقتصادية المهيمنة، إلا أنها لم تعد بنفس الدرجة في موازين القوى، وهذا يعني أنها ليست في وضع يسمح لها بفرض نظام نقدي عالمي يتطابق مع مصالحها، وبالأحرى بتوطيده قانونيا. فهي في الواقع تفرض قوانينها ولكن من خلال المواجهة والفوضى.

 

وهذا ينطبق على محاولات التنظيم أو وضع القواعد للنظام المالي. وعلى الرغم من فشل عدد من الاجتماعات الدولية المكرسة لهذه المشكلة {بال 1 وبال 2}، فإنه ليس من المستحيل أن يصل النشاط المصرفي في نهاية المطاف إلى قواعد مضبوطة ولو قليلا.

 

لنذكر أنه في الماضي وخلال فترة الحرب وبالأحرى في أعقاب أرمة 1929، فان الدول قد تدخلت انذلك ولمصلحتها بالطبع لتفرض على الرأسماليين، عددا من القواعد. ولكن هذا لم يمنع الرأسمالية من البقاء رأسمالية... ولم يمنع الحدوث المباغت لأزمات الرأسمالية.

 

وقبل عصر اللا قواعد خلال سني ريغان وتاتشر، كان النشاط المصرفي منظما بعدد من القواعد وخصوصا الفصل بين مصارف الأعمال ومصارف الإيداع. وكان هذا مقتصرا على المصارف وحدها ولم تفتح النشاطات المصرفية أمام شركات التأمين ولا حتى أمام الشركات الصناعية إلا منذ فترة التحرر من القواعد خلال سني الثمانينيات. علاوة على ذلك فوجود رقابة على صرف العملات في البلدان الإمبريالية، أعطى الدولة التي تمارسه وسيلة لتنظيم حركة رأس المال.

 

ولم تؤد "القداسات" الدولية الكبرى، مع ذلك ولحد الآن، وكبديل للقواعد التنظيمية إلا إلى فكرة إلزام المصارف بالاحتفاظ باحتياطي نسبته أكبر من صناديقها الخاصة.

 

إنه ليس من المستحيل مع ذلك أن لا تصل جهود التنظيم هذه إلى أبعد من ذلك. فهذه بالتأكيد لن تكون المرة الأولى التي تضطر فيها الدولة الممثلة للمصالح العامة للطبقة البرجوازية إلى التدخل لحماية المصالح العامة للبرجوازية ضد المصالح الخاصة للبرجوازيين.

 

فعلى أثر الحماس الفوضوي لفترة الارتفاع الاقتصادي المفاجئ الذي سبق أزمة 1929 تعاقب العديد من القواعد. تلك القواعد التي فرضت نفسها خلال فترة الكساد الكبرى لإنقاذ رأس المال الكبير كانت مع ذلك من فعل الدول القومية وكانت جزءا من سياسة الحمائية والانطواء القومي. وكانت القواعد مؤقلمة مع مصالح وخصوصيات كل برجوازية إمبريالية. وقد أخذت أشكالا مختلفة في الولايات المتحدة في فترة روزفلت وفي ألمانيا النازية.

 

إن مشكلة اليوم، على أية حال في المرحلة الحالية للأزمة، هي تجنب حالات الانطواء القومي. وقد أظهرت سنة 1929 أن هذا الانطواء خلف حواجز الحمائية والعزلة بدرجات متفاوتة قد فاقمت الأزمة. ولكن تأطير النظام المصرفي ووضع قواعد عمل على الصعيد الدولي، يفترض وجود حكومة عالمية. والحال أنه لا توجد حكومة عالمية وكل اتفاق يجب أن يحصل على إجماع القوى الاقتصادية الكبرى على الأقل.

 

إن الأزمة المالية لعام 2008ـ2009 هي الأخيرة من حالات رجوع الأزمة الاقتصادية. فالأزمة المالية هي نتيجة لأزمة الاقتصاد الإنتاجي وهي من عوامل تفاقمها أيضا. فإذا كان التاريخ الاقتصادي قد احتفظ في الذاكرة بأزمة عام 1929، والكساد العظيم الذي أعقبها ـ من 1929 إلى 1932 حيث انخفض الإنتاج الصناعي العالمي بنسبة 40 % ـ فإنه من الصعب قياس نتائج أزمة عام 2008ـ2009 على الإنتاج. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يحاول الاقتصاد تفادي ما يعادل الكساد العظيم ؟

الحقن المالي لا يشفي الاقتصاد، إنه يديم الاحتضار

وكما ذكرنا في النص التحضيري لمؤتمر سنة 2008 : "إن ما يميز الأزمة المالية الحالية عن الأزمات السابقة، هو خطورتها وانتشارها الكوكبي وكذلك حقيقة أنها رجت النظام المصرفي العالمي بأكمله.

 

إن تواتر أزمات مالية وأزمات أسواق أوراق مالية بدرجات متفاوتة من الخطورة وبتأثيرات مختلفة على الإنتاج، هو بحد ذاته مؤشر على أن الأزمة الحالية ليست الحصيلة البسيطة لدورة معزولة. فهي في الواقع المرحلة الحادة لأزمة طويلة زاحفة بدأت في سني السبعينيات، والتي أعلنت عن نفسها بداية أزمة النظام النقدي، واستمرت من خلال الصدمة النفطية الأولى سنة 1973، لتصل في 1974ـ 1975 إلى أزمة إفراط أولى في الإنتاج ثم إلى تراجعه في جميع البلدان الصناعية. وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فإن ركودا انتشر على مستوى الكوكب أظهر أن طاقة الإنتاج تصطدم بمحدودية السوق القادرة على السداد [...]

 

ومنذ فترة الركود في 1974ـ 1975، شهد الاقتصاد الرأسمالي عدة فترات من الازدهار تخللتها فترات من الركود. ولكنه لم يعد أبدا الى مستوى نمو الفترة السابقة. إن النظام الرأسمالي العالمي لم يخرج أبدا من أزمته الطويلة الزاحفة.

 

لقد استعادت الطبقة الرأسمالية، مع بداية التسعينيات، مستوى أرباح ما قبل الأزمة.

لكنها لم تصل إلى ذلك بفضل ديناميكية جديدة، ولا بفضل توسع جديد للسوق القادر على الدفع، والذي يؤدي الى استثمارات منتجة جديدة. بل تأتى لها ذلك باعلانها الحرب على الطبقة العاملة، وبمفاقمة الاستغلال ، وتجميد الأجور، وبتكثيف وتيرة العمل، والاعتماد على الخوف من البطالة، من أجل التخفيض الشديد لنصيب العاملين في الدخل القومي لكل بلد. ففي فرنسا، وفي كافة الشركات، انخفضت بشكل كبير حصة الاجور الإجمالية بما في ذلك المساهمات الاجتماعية لأرباب العمل، التي هبطت من 73.2% في عام 1982 إلى 63.4 % في عام 1998.

ولكن ـ وهذه هي السمة المميزة لهذه الفترة الطويلة من انحطاط الرأسمالية ـ حتى بعد استعادة معدلات الأرباح، فإن الشركات الرأسمالية لم تستهوها الاستثمارات الانتاجية إلا بنذر قليل، وكانت الاستثمارات المالية تستقطبها أكثر فأكثر. إن هذا التطور وعواقبه العديدة، والذي يختصر تحت تعبير "التمويلية المتصاعدة للاقتصاد"، يرسم شكل أساليب العمل الحالية للاقتصاد الرأسمالي. وهي التي أنشأت جميع عناصر الازمة الاقتصادية الحالية."

 

يعود فخر قادة الاقتصاد والسياسة إلى تفاديهم ما حدث بعد انهيار "الاثنين الاسود" ثم "الخميس الاسود" في تشرين أول| أكتوبر 1929 حيث إن انهيار سوق الأسهم، والذي أدى إلى أزمة مصرفية، قد أوقع الاقتصاد في الكساد الكبير، الذي لم يتغلب عليه إلا عن طريق الحرب. ولكن التاريخ لا يعيد نفسه بحذافيره. إذ لا يمكن القول إن الكساد الكبير سيتم تجنبه، حتى وإن أخذ شكلا آخر. في الواقع، فإنه قد بدأ بالفعل... منذ أوائل السبعينات !

 

في عام 2008 ـ2009 ، شهد الاقتصاد العالمي أكبر ركود منذ الحرب العالمية الثانية. فالناتج المحلي الاجمالي العالمي، والذي كان قد ارتفع بنسبة 4% سنويا بين أعوام 1997 و 2007 ، تباطأ في عام 2008 ليصل الى ـ 0.6% في عام 2009. لنذكر هنا بالطابع الشكلي لهذا النمو، بل وبمفهوم الناتج المحلي الإجمالي بحد ذاته. إن حركة الانخفاض ذات دلالة. فعلى سبيل المقارنة، فإن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للكوكب خلال فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات قد قدر بـ : ــ 3 % في عام 1930، ـ 4 % في 1931، ـ 4 % في 1932. إلا أن الرقم المتواضع نسبيا لتراجع الناتج المحلي الإجمالي لا يعكس بدقة حجم الأزمة. أما الأكثر دلالة فهي مؤشرات الانتاج الصناعي : فوفقا لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، فإن الانخفاض العالمي هو 13% {12 % في الولايات المتحدة}.

 

أما بالنسبة لفرنسا، فقد شهدت أهم ركود منذ ما بعد الحرب، اذ تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.6% وهبط الإنتاج الصناعي بنسبة 12 %. إن استثمار الشركات المنخفض أصلا قد هبط بنسبة 8%. وإذا كان هناك انتعاش للإنتاج الصناعي منذ صيف 2009، فهناك نزعة عكسية دون أن ينجح مستوى الإنتاج إلى الوصول إلى ما كان عليه قبل الأزمة. والدليل على هذا هي طاقات الإنتاج التي لا تستغل إلا بنسبة 75% في الصناعات التحويلية.

 

ووفقا لتوقعات منظمة التعاون والتنمية {أوسيد} لعام 2011، فإن النمو في بلدان مجموعة الـسبع الكبار قد يهبط إلى 1.5% . في الولايات المتحدة انخفض الإنتاج الصناعي في أيلول| سبتمبر للمرة الأولى منذ خمسة عشر شهرا وذلك بسبب انخفاض إنتاج قطاع الطاقة بنسبة 1.9 %.

 

إن مستوى البطالة، الذي مازال مرتفعا في جميع البلدان، قد سجل ارتفاعا بنسبة 4% خلال سنة واحدة في فرنسا. وفي أيلول| سبتمبر2010 وبإحصاء كل الفئات، فإن مركز العمل قد سجل تحديدا 3999200 من العاطلين : رسميا إن حدود أربعة ملايين عاطل عن العمل لم يتم تجاوزها!

 

إذن فإن المؤسسات، دون استثمار ودون توسع في الإنتاج والسوق، قد استأنفت في نفس الوقت الحصول على أرباح خيالية ومراكمة المليارات كخزين نقدي. وفي 30 حزيران| يونيو 2010، فان المؤسسات الصناعية الأمريكية وحدها كان بحوزتها 840 مليار دولار نقدا في خزائنها. أما كبرى المجموعات الصناعية والمالية في فرنسا، المشهورة "بـ كاك 40" ، فتنام على "فراش" من 150 مليار يورو. إن هذا الجبل من النقد والأرباح الموزعة على حاملي الأسهم تم تراكمها "بقوة السواعد"، كما يقال، وهذا يعني بواسطة استغلال العمال الذي يتزايد يوميا.

 

وقدر أحد مديري مصرف انجلترا مؤخرا أن التقدير الحالي لكافة خسائر الإنتاج في الحاضر والمستقبل يقترب بلا شك من قيمة سنة من الناتج العالمي الإجمالي : 600 مليار دولار {46700 يورو}.

 

ومن البديهي أن هذا ليس سوى تقديرات، ولكن الكارثة الكبرى التي تمثلها هذه التقديرات وحجمها هو أنها لا تقارن بأية كارثة طبيعية خلال السنوات الأخيرة، وربما بكل هذه الكوارث مجتمعة. ولكنها ليست كارثة طبيعية.

إن هذا ليس كارثة تسونامي في جنوب شرق آسيا في كانون أول/ ديسمبر 2004 ، و ليس زلزال هايتي في حزيران/ يناير 2010، ولا فيضانات باكستان في آب/ أغسطس 2010. إن هذه بعينها طريقة عمل الاقتصاد الرأسمالي.

 

وعلى الرغم من إعلانات دورية عن الخروج من الأزمة، فإن القطاع الوحيد الذي خرج منها مؤقتا هو قطاع التمويل. "إن الطلب العالمي ما زال يمثل تحديا"، عنونت في ملحقها الاقتصادي صحيفة لوموند في أوائل تشرين الأول/أكتوبر، مبرزة أن الاستثمارات الإنتاجية قد تراجعت مرة أخرى في البلدان الإمبريالية.

 

وكيف يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك، عندما لا تعمل فقط آليات الأزمة ذاتها وضغوط البطالة وميزان القوى المائل لصالح أرباب العمل على خفض استهلاك العمال ولكن أيضا فإن السياسات التقشفية للدول تضخم من هذا الخفض؟

 

تركز رؤوس الأموال

إن الأرباح التي تحصل عليها المجموعات الصناعية الكبرى لا تقوم على الاستغلال المتزايد فقط، ولكن على استبعاد خصومها أيضا. "الطلب العالمي"، أي السوق، لا يتوسع، وعليه فإن حرب التراستات (الشركات الاحتكارية) الواحدة ضد الأخرى في تنازعها على حصص في سوق راكدة أو في تراجع أصبحت أكثر اصرارا. إنه لا يخلو من دلالة أن الحدث الذي تسبب في الأزمة المالية في سبتمبر 2008، أي إفلاس مصرف ليمان براذرز، كان في الوقت نفسة الفرصة لغلدمان ساتش للقضاء على منافسة الرئيسي.

 

إن الأزمة بدلا من أن تضع نهاية للتركيز المالي فإنها تعززه. فكانت المصارف الأربعة الكبرى للولايات المتحدة تملك 23% من الأصول المصرفية النشطة في عام 1999، ثم 38% في عام 2007 ثم 47% في عام 2009 ! والأكثر دلالة هو أنه في 2010 ، وفي الولايات المتحدة، كانت خمسة مصارف (جولدمان ساتش، سيتي جروب، جيه بي مورغان تشيس، بنك أوف أميركا، مورغان ستانلي} كانت تمتلك 96 % من الـ 293 مليار دولار من المنتجات المشتقة التي تحتفظ بها المؤسسات المالية الأمريكية.

 

إن الحرب ذاتها تدور في الصناعة. فاستئناف عمليات الاندماج/التملك بعد إبعاد شبح الأزمة المصرفية، هو تعبير عن النزعة القومية نحو التركيز عن طريق امتصاص أو استبعاد الأكثر ضعفا.

 

وظهرت هذه النزعة هذا العام من خلال عمليات كبيرة في قطاع التعدين. فقد صرحت أول مجموعة تعدين عالمية، بي أتش بي ـ بيليتون، والتي هي نتاج من "عرض عام للشراء" عدائي أو ودي، بأنها على استعداد لإنفاق 43 مليار دولار من أجل السيطرة على أكبر منتج للبوتاس في العالم، "بوتاس كورب". وحتى قبل نجاح العملية، كانت مجموعة بي اتس بي ـ بيليتون أكبر منتج في العالم للرصاص والثاني للفضة و الثالث للنحاس والنيكل والرابع للماس الخام، ناهيك عن تواجدها في قطاع اليورانيوم الطبيعي والألمنيوم والحديد أو المنغنيز. وبعد عدم تمكنها من السيطرة على "ريو تينتو" ، كيان آخر هائل في قطاع التعدين، حتى بمبلغ خرافي يصل إلى 150 مليار دولار، فإن بي أتش بي ـ بيليتون اختارت الدخول معه في شراكة لاستغلال مناجم حديد غنية في استراليا.

 

يتفق الخبراء على تحديد قطاعي الصيدلة والاتصالات بإعتبارهما ساحة المواجهة القادمة بين المجموعات الكبرى من أجل إنشاء مجموعات كبرى أخرى، قادرة على السيطرة على هذين القطاعين على مستوى العالم.

رأس المال الكبير وعكاز الدولة

قد تكون" الاجتماعات الموسعة للصناعة"، من تشرين الأول/أكتوبر 2009 إلى آذار/مارس 2010 ، وبرغم زيفها ، لم تكن فقط عذرا لساركوزي، ولكنها كانت الإعلان عن سياسة مستقبلية أيضا. هذه السياسة الصناعية تظهر من خلال مبادرات مختلفة تحقق تنفيذها بهذا القدر أو ذاك، مثل إنشاء" أقطاب التنافسية" بمساعدة من الدولة، وإنشاء "صندوق الاستثمار الاستراتيجي" و "خطة السيارة الكهربائية" وأشكال مختلفة من الإعفاءات الضريبية للبحوث. وفي ظل هذه الحكومة اليمينية، المناصرة علنا لـ "حرية السوق"، فان الدولة قد تدخلت لإنقاذ مؤسسة ألستوم. وقد تدخلت في عدد من عمليات اندماج/امتلاك وذلك لتفضيل شركات وطنية كبرى. وهنا لا نتكلم عن "تأميم" بل عن "وطنية اقتصادية"!

 

في حالة تفاقم الأزمة أو ببساطة دوامها، فإن هذا يعمم ليصبح، على الأقل، وسيلة لدعم هذه الصناعة ماديا على نطاق واسع بإسم "مكافحة اختفاء التصنيع" وبالتالي "خلق فرص عمل صناعية"، ناهيك عن كافة مشاريع الدعم الصناعي المادي تحت ذريعة حماية البيئة. وتتحدث الصحافة الاقتصادية على سبيل المثال عن "الانطلاق نحو طاقة الرياح" ( ليزاكو)، المبررة بالهموم البيئية، وتؤكد في الوقت نفسه أن هذا يشكل "منجم ذهب لمصنعي خطوط كهرباء الضغط العالي" من أجل ربط مناطق إنتاج كهرباء الرياح بالشبكة. وهو السوق الذي تتنازعه مجموعات مثل ألستوم وسيمنس. في حين أن حصة متزايدة من رؤوس الأموال الخاصة تتحول إلى التمويل، والذي يدر أرباح أكثر ولا يؤدي إلى تجميد رؤوس أموال خاصة بالاستثمارات الإنتاجية، فإن الدولة يجب أن تتحمل على نحو متزايد أعباء التنمية أوحتى مجرد المحافظة على الإنتاج الصناعي. وفي الواقع فإن الشكل الذي تستخدمه الدولة لذلك، سواء كان على شكل تأميم أو على شكل مساعدات أو مساهمات مختلفة من أجل تعويض التمويل المتقلص يوما بعد يوم لرؤوس الأموال الخاصة، هو في الأساس ثانوي.

 

وكما كان الحال في أعقاب الحرب حيث آل الحزب الشيوعي الفرنسي على نفسه بتقديم سياسة التأميم كتقدم كبير، وحتى كخطوة نحو الاشتراكية، وإذا عاد اليسار إلى السلطة فانه سيتعهد لتبرير تدخل الدولة المتزايد بأنه لصالح الطبقات الشعبية. ولن تكون هذه إلا محاولة جديدة لإنقاذ الرأسمالية من نفسها. ستكون أيضا، خطوة جديدة تجتاز لتطفل رأس المال. ففي حين تتجه رؤوس الأموال الخاصة نحو التمويل، هاهي الدولة تتعهد أكثر فأكثر بتشغيل القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة. ودعونا نذكر: إذا كانت رؤوس الأموال المستثمرة في التمويل تشارك في اقتسام فائض القيمة الإجمالي بالتناسب مع مبلغها ـ فإنه ومنذ عدة سنوات، وبغض النظر عن هذا التناسب ـ فإن فائض القيمة ينتج عن طريق الاستغلال خلال النشاط الإنتاجي. والمضاربة تسمح بالاستحواذ على حصة من فائض القيمة الناتج عن طريق الاستغلال ولكن لا تسمح بزياد ة الحصيلة الإجمالية.

 

من الواضح أنه لا يجب أن نؤيد حلقة تدخل الدولة لإنقاذ الرأسمالية. لأن هذا التدخل كبر أو صغر لإنقاذ الرأسمالية، لا يمكن أن يتم إلا على حساب الطبقات المستغلة. وإذا عاد اليسار إلى السلطة، ربما يجد لغة مثيلة لـ 1982 لتقديم تدابير اقتصادية وما ستنطوي عليها هذه التدابي من تضحيات ربالنسبة للطبقات الكادحة باعتبارها ضرورية لهذه الطبقات.

 

إن حقيقة أنه يجب على الدولة والدولانية أن تهرول بشكل دوري لنجدة الرأسمالية الخاصة يؤكد فقط حقيقة أن الرأسمالية وكذلك الملكية الخاصة قد انقضى عهدها.

 

إن موقف أرباب العمل الكبار وخطط الدول التقشفية تشير بوضوح إلى الأسلوب الذي تنوي الطبقة الرأسمالية اتباعه للتغلب على الأزمة. فإن الاستجابة البرجوازية لنتائج الأزمة ترتكز، في أحسن الأحوال، على تفاقم الاستغلال، بشكل مباشر في الشركات من خلال سحق الأجور وتدهور ظروف العمل ، أو بشكل غير مباشر من خلال الدولة، وذلك من خلال خفض الرعاية الاجتماعية خاصة وخفض الإنفاق على الخدمات العامة المفيدة للشعب كافة، وعن طريق زيادة الضرائب خاصة على الطبقات الشعبية مثل الضرائب غير المباشرة، وذلك بوضع الصناديق العامة وميزانية الدولة وصندوق المعاشات والتأمين الصحي تحت تصرف البرجوازية. ولنذكر بأن الحلول البرجوازية لازمة 1929، وعلى تعددها بين المعطى الجديد لروزفلت والاقتصاد الألماني في عهد النازيين، أدت جميعها إلى الحرب.

 

إن جميع الأحزاب التي تمثل الفوارق الدقيقة بين السياسات التي تبقى برجوازية على الأرض ابتداءا من الجبهة القومية إلى الحزب الاشتراكي وشركائهم، ينطلقون من فكرة أن ما هو جيد للبرجوازية جيد للمجتمع كله.

 

انهم جميعا يطلقون، وكأنها حقائق أولية، ترهات من قبيل "يجب سداد الديون" أو "بما أن الإنسان يعيش أكثر، فلا مفر من تمديد فترة الاشتراكات". ولكن لم لا يسدد هذه الديون أولئك الذين استدانوها!

أما بالنسبة للعجز في صندوق المعاشات، كان من الممكن أن لا يكون هناك عجز إذا ما كانت الطبقة الرأسمالية قد استمرت في دفع رواتب العمال، حتى وإن كانوا عند سن التقاعد وفي وضع جسدي لا يسمح باستغلالهم.

 

وفي مواجهة سياسة البرجوازية تجاه الأزمة، يجب طرح سياسة تنطلق من المصالح الحيوية للطبقة العاملة. إن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو : من الذي يجب أن يدفع ثمن الأزمة ومن الذي يجب أن يحمى من تبعاتها ؟ وبالمقارنة مع هذا البديل الأساسي فإن الفروق السياسية تكون ذات أهمية ثانوية.

 

البديل السياسي الوحيد: الإطاحة بالنظام الرأسمالي

إن المرحلة القادمة تشهد هجمات متزايدة العنف من قبل البرجوازية ضد الطبقة العاملة، وبلا شك ضد الطبقات الشعبية في نطاقها الأوسع. وسوف يتحدد نطاقها بناء على علاقات القوة. إن هجمات البرجوازية ليست ناتجة عن خيار سياسي معين، ولا حتى من الانتماء السياسي للفريق المستأثر بالسلطة مؤقتا. إنها ناتجة عن مصالح طبقية قوية.

إن الدور المتروك للقادة السياسيين هو تنفيذ السياسة الضرورية للبرجوازية وتبريرها إذا ما دعت الحاجة من وجهة نظر انتخابية. وبعيدا عن انتماءاتهم المختلفة، فإن كل الحكومات الأوربية تتبع سياسات تقشفية متفاوتة الدرجة في الخطورة والعنف. إن هذه المعاينة وحدها تشير إلى محدودية وعود التغير في حالة وصول الحزب الاشتراكي إلى السلطة خلال انتخابات 2012 ، مدعوما أم لا بالحزب الشيوعي وحزب اليسار.

 

إن البرجوازية تحتفظ بين يديها بكل الأوراق في مواجهة الأزمة لكنها في ذات الوقت تبرهن على أنه ليس هناك من استجابة لتبعاتها سوى بالملكية الخاصة للشركات والبنوك وبتعزيز جديد للمجموعات المالية وبتراجع للطبقات الكادحة.

 

إن البرنامج الوحيد الذي يعطي منظورا، هو ذلك الذي تتجاوب أهدافه المختلفة مع قضايا الساعة الجوهرية من وجهة نظر الطبقات المستغلة، والتي تؤدي في نفس الوقت إلى وضع هيمنة البرجوازية على المجتمع في موضع اتهام. إن هذا البرنامج لن يصبح قوة إلا عندما تستحوذ عليه الجماهير. متى وكيف؟ لا أحد يستطيع الجواب اليوم. إن هجمات البرجوازية ستطلق بالضرورة ردود أفعال متفاوتة الدرجة في الوعي والعنف من جانب ضحايا سياستها. إن برنامجا حقيقيا للنضال يجب ان يعالج القضايا التي يثيرها هذا النضال ذاته.

 

وعندما تتحرك الطبقة العاملة للدفاع عن ظروفها الحياتية، فان برنامج نضال ثوري يصبح أمرا لايمكن الاستغناء عنه.

ولمواجهة تصاعد البطالة الكارثية على المستوى المادي لمن يكابدونها والتي هي أيضا عامل تفكك اجتماعي، يجب فرض تقسيم العمل بين الجميع بدون خفض للأجور ومنع التسريحات.

 

وفي مواجهة تحطيم القدرة الشرائية للعمال، الذي يتفاقم بسبب استقطاعات الدولة وتدهور الخدمات العامة، فإنه من الحيوي فرض سلم متحرك للأجور والمعاشات.

وفي مواجهة الأزمة المالية، يجب نزع ملكية المصارف، وتوحيدها في مؤسسة مصرفية واحدة يراقبها الشعب.

أما في مواجهة لا مسؤولية الطبقية الرأسمالية خصوصا، يجب الاعتراض على سيطرتها على الاقتصاد وفرض مراقبة العمال والشعب على الشركات والاقتصاد.

ومن غير المفيد محاولة تخمين في أي وقت وفي أي صورة سيحدث رد فعل من الطبقة العاملة يكون من الضخامة بحيث يكفي لتغير ميزان القوى مع البرجوازية. ولكن الأزمة وعواقبها مدرسة قاسية، وعنف هجمات البرجوازية يدفع إلى التمرد.

إن حركة أيلول/سبتمبرـ تشرين الاول/أكتوبر 2010 ورغم محدوديتها بسبب حدود التعبئة نفسها وبسبب قيادتها النقابية الإصلاحية، وبرغم تواضع أهدافها المطروحة وحتى الفشل الواضح قياسا بهذه الأهداف المتواضعة، فإنها أصبحت نضال سياسي ورد فعل للطبقة العاملة ضد البرجوازية. لقد أبانت بشكل متفاوت من الوضوح ومن وجهة نظر شريحة هامة من الطبقة العاملة، أن الأزمة وشدة هجمات البرجوازية لا تترك مجالا للتجمعات المهنية وأن وحدة العمل الجماعي يمكن من استرداد الروح النضالية والوعي بالانتماء إلى نفس الطبقة الاجتماعية . إنه درس قيم والدور القادم للثوريين هو الاعتماد على هذه التجربة الجماعية وتوضيحها وإظهار إنها تبين طريق المستقبل للطبقة العاملة. وهذا مشروط بأن لا تترك الطبقة العاملة نفسها تنجر إاى طريق مسدود، بدءا بالانتخابية، والتغيرات الانتخابية التي تعرض على أنها طريق للتغير.

 

إن الطبقة العاملة أظهرت، وحتى لو كان هذا على نطاق متواضع لحد اللحظة، بان لديها القدرة على التأثير المباشر على سياسة البرجوازية وذلك بوسائلها الذاتية، بالإضرابات والمظاهرات. وعلى الثوريين الدفاع عن فكرة تسليط الضوء على الأهداف المؤهلة للحفاظ على الشروط المعاشية "للطبقة الوحيدة المنتجة في المجتمع" (تروتسكي) . إن هذا ليس مشروعا فقط ولكنه ضروري.وحدها الطبقة العاملة تستطيع، عن طريق الذهاب حتى النهاية في الدفاع عن مصالحها المادية والسياسية، وضع هيمنة البرجوازية على المجتمع موضع اتهام.

إن المهام الفورية للثوريين مزدوجة : المشاركة الكاملة في مختلف أشكال نضال الطبقة العاملة، وأيضا الدفاع، من داخلها عن طريق الدعاية ومن خلال المناقشات تحت كافة الأشكال، عن البرنامج الثوري، أي ذلك البرنامج الذي من خلال الكفاح من أجل الدفاع عن المصالح الحيوية للطبقة العاملة، يلتزم بالنضال من أجل الإطاحة بالنظام البرجوازي، ومن خلال الكفاح في هذين المجالين سينبثق الحزب الشيوعي الثوري الذي لا غنى عنه لتجسيد ودفع هذا النضال حتى غايته.

 

 

5 تشرين ثاني/نوفمبر 2010