نيلسون مانديلا : من النضال ضد نظام الفصل العنصري إلى المصالحة مع البرجوازية البيضاء - 2013

Yazdır
ترجمة

عن الاصدار الشهري للنضال العمالي في جزيرة الريونيون - 15 ديسمبر 2013

كانت مراسيم تأبين نيلسون مانديلا، والتي حضرها عدد هام من رؤساء الدول والحكومات، مناسبة لأحدى مهرجانات الرضاء عن النفس والممزوجة بجرعة كبيرة من النفاق، التي يهوى رؤساء برجوازيات العالم القيام بها. هكذا، فباسم الامبريالية الفرنسية، قام هولاند بتوجيه التحية لنلسون مانديلا، ذلك المناضل ضد الاستعمار. ولكن، في زمن ذلك النظام المقزز، كانت فرنسا أيضا تضطهد شعوبا من السود كما كان قادتها متضامنين مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

ونيلسون مانديلا، الذي ولد في عام 1918 من عائلة ارستقراطية هامة من قبيلة "خوساس" ، كان من تلك النخبة الصغيرة من السود، ذات الامتيازات كإمكانية الحصول على التعليم الجامعي، الأمر الذي مكنه من أن يصبح محاميا. ولكن مستقبل هذه الشريحة الاجتماعية، المحظوظة مقارنة مع جموع الفلاحين وعمال المناجم السود، كان مسدودا في جنوب افريقيا بسبب رغبة البرجوازية البيضاء بالتستر عن هيمنتها على المجتمع مستعملة عنصرية الدولة.

الفصل العنصري، أسلوب هيمنة البرجوازية البيضاء

قام نظام الفصل العنصري، تحت قيادة الحزب الوطني الحاكم، بخلق هوة كبيرة بين السكان البيض (الذين يمثلون أقل من 20% من السكان) والسكان السود أو السكان الأصليين. الهدف من هذا الفصل كان بإيهام السكان البيض بأنهم ينتمون إلى طائفة واحدة ذات مصالح مشتركة تجمع كل البيض سواء كانوا من ملاكي المناجم الأغنياء أو مجرد موظفين أو عمالا مؤهلين.

وبشكل موازن، قام حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، والذي انضم إليه مانديلا عام 1944، بالدفاع عن فكرة أن جميع السود لهم نفس المصالح، وبأن لهم الحق في أن يقودوا المجتمع وأن يشكلوا برجوازية جديدة أو أن يكونوا عمال زراعيين، عمال مناجم، خدم في المنازل... كما كان حال رفاقه من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، والت سيزولو واوليفيه تامبو، كان مانديلا مصمما على ابعاد الطبقة العاملة عن أي تحرك تدافع فيه عن مصالحها السياسته الخاصة. ومانديلا لا يمت للشيوعية بصلة. هو نفسه الذي سرد في سيرته الذاتية : "لقد قاطعت بنفسي اجتماعات الحزب الشيوعي بصعودي إلى المنصة وبانتزاع اللافتات وأخذ الميكروفون".

لقد كان نظام الفصل العنصري، الذي تم العمل به منذ عام 1948، نظاما مقززا جدا. قسمت الدولة السكان لأربعة شرائح : البيض، الهنود، الحنطيون والسود. على الرغم من أنهم يمثلون العدد الأكبر من السكان، لم يكن السود يتمتعون بأي حقوق تذكر. لم يكونوا يستطيعون السكن سوى في أماكن مخصصة لهم وكانوا ممنوعين من التواجد في المناطق "البيضاء" إلا خلال النهار من أجل العمل، قبل العودة في المساء إلى مناطق إقامتهم المخصصة للسود، المسماة ب "التاونشيب" والتي كانت غالبا عبارة عن مناطق عشوائية فقيرة. كان يتوجب عليهم أن يحملوا جواز سفر داخلي لكي يستطيعون السفر داخل البلاد. وكانوا أيضا محرومين من حق الانتخاب. كما تجلى أيضا انعدام الإنسانية في عنصرية الدوله بما يسمى قانون "الأخلاق" الذي حرم العلاقات الجنسية والزواج بين الأفراد المنتمين لشرائح اجتماعية مختلفة.

حزب المؤتمر الوطني الأفريقي والطبقة العاملة

الطبقة العاملة، والتي عرفت ازدياد ملحوظ بفضل ازدهار المناجم والصناعة، لم تقبل بدكتاتورية البرجوازية من الأقلية البيضاء. فمنذ عام 1950 عرفت جنوب افريقيا اضرابات ومظاهرات ضد نظام الفصل العنصري أو في بعض الأحوال ضد جزأ من ممارساته. كان مانديلا يحتاط من جماهير العمال. فكما كتب في مذكراته: "كنت مقتنعا بأنه على المؤتمر الوطني الأفريقي أن لا يشارك إلا في الحملات التي يقودها هو بنفسه"، وبالفعل كان قادة هذا الحزب يقومون بتخريب حركات الاضراب التي كانت تخرج عن سيطرتهم. ولكنهم مع ذلك، ازدادت نفوذهم لدى العمال السود بعدما أعلن القياديون الستالينيون في الحزب الشيوعي والقياديون النقابيون ولاءهم لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. فباختيارهم سياسة قومية أدار هؤلاء القياديون ظهرهم للهدف المنشود المتمثل بأن تكون الطبقة العاملة على رأس النضال ضد نظام الفصل العنصري.

وكان المؤتمر الوطني الأفريقي يتوسل دائما النظام الأبيض للتحاور بشأن تقاسم السلطة معه. لكن الدولة استمرت بالتشدد في سياسة القمع والضرب بيد من حديد بوجه أي حراكات أو مظاهرات كتلك التي جرت في مدينة "شاربفيل" والتي قتلت فيها الشرطة 69 متظاهرا وجرحت المئات. على إثر تلك الأحداث تم حظر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي واعتباره منظمة غير قانونية. وبعد سبعة عشر شهرا من العمل في الخفاء، اعتقل نيلسون مانديلا في عام 1962 وحكم عليه بالسجن مدى الحياة مع خمسة من رفاقه، أحدهم من البيض، وذلك في ما يعرف بمحاكمة "ريفونيا".

في السبعينيات، عاودت الطبقة العاملة في جنوب إفريقيا، وهي الأكثر تعدادا في القارة الإفريقية، بالقيام باضرابات كبيرة. واستطاعت بأن تجذب إليها جماهير الطلاب التي انتفضت في ضاحية "سويتو" في عام 1976. فقامت الشرطة كالمعتاد بقمع الاحتجاجات مسببة الموت للعشرات منهم. لكن المجزرة لم تستطع أن تضع حد للاحتجاجات. وفي نهاية السبعينيات والثمانينيات عرفت جنوب إفريقيا اضرابات عمالية رافضة في نفس الوقت لاستغلال أرباب العمل وللقمع السياسي الممارس عليها. فوجد أرباب العمال أنفسهم مجبرين على التراجع أمام ضغط هذه الحركة فاعترفوا بالنقابات العمالية للعمال السود وتفاوضوا معها. كما أصبحت الضواحي التي يقطنها السود خارجة عن سيطرة السلطات ذلك بالإضافة إلى أن قسما من الشباب البيض قد بدأ يرفض المشاركة في القمع ضد العمال السود.

نحو نهاية الفصل العنصري

وهو كنتيجة لهذا الوضع، الخارج تدريجيا عن سيطرة الدولة والمهدد لهيمنة الرأسماليين، قامت شركات المنجمية الكبيرة ومعها الامبريالية الأمريكية بإقناع النظام بالرد بإيجابية، ابتداءا من 1985، لنداءات التفاوض التي ما انفك مانديلا يوجهها بانتظام إلى الوزراء، من خلف قضبان سجنه. وجرت هذه المفاوضات في السر، فلا الحكومة ولا المؤتمر الوطني الأفريقي لم يقومان بإعلام العمل السود بها، رغم أنها جاءت نتيجة لنضالاتهم ولتضحياتهم. وهكذا، من وراء ظهر الجماهير من السود، توصل مانديلا إلى تسوية مع الرئيس فريديريك دي كليرك الذي كان يجسد سياسة البورجوازية البيضاء الجديدة هذه. وأطلق سراحه سنة 1990.

ثم استلزم الامر أربع سنوات اضافية من الإضرابات والثورات المقموعة بالدم لكي يتمكن السود من التعبير رسميا عن انفسهم عبر الانتخابات. لكن النظام الذي أوصل مانديلا إلى الرئاسة سنة 1994 كان قد أعطى الضمان الكامل للبورجوازية : فبمعزل عن نتيجة الانتخابات، لقد تم توزيع مناصب الحكومة مسبقا بين المؤتمر الوطني الأفريقي وحلفاءه من الحزب الشيوعي والإدارات النقابية من جهة، وحزب دي كليرك الوطني وحلفائه السود من حزب الإنخاطة من جهة أخرى.

وقام مانديلا بسلسلة من المبادرت بهدف الحصول على قبول الأكثرية السوداء ببقاء حزب الفصل العنصري، أي حزب دي كليرك الوطني، في السلطة وذلك بعد خمسين سنة تقريبا من ممارسته للقمع الشرس ضد السود.

ودعمه في هذا زعماء القوى الكبرى، وبشكل رمزي، نال مانديلا جائزة نوبل للسلام مشاطرة مع دي كليرك. كما انتهى الأمر بأن التحق الحزب الوطني بصفوف المؤتمر الوطني الأفريقي الذي أصبح حزب كل بورجوازية أفريقيا الجنوبية مهما كانت لونها.

الوجه الجديد للقمع

قامت الحكومة الجديدة تحت رئاسة مانديلا بخصخصة قطاعي البريد والاتصالات. كانت موازنتها الأولى تتضمن تخفيض بنسبة 6% لرواتب الموظفين الفعلية وبنسبة 10 % من تمويل القطاع الصحي. أما الضباط وقادة الشرطة المكروهون من قبل ضحاياهم السود فقد بقوا في مناصبهم، ولم يسمحوا الدخول في صفوفهم إلا لعدد صغير من السود الجاهزين أيضا على إطلاق على النار على العمال، كما فعلوا سنة 2012 على عمال منجم ماريكانا. ولما قام مانديلا وعمره 81 سنة بتسليم السلطة لزعيم آخر في المؤتمر الوطني الأفريقي، ثابو مبيكي، كانت العملية الانتقالية بين سلطة البيض وسلطة ال"قوس قزح" مؤمنة دون أي تهديد لممتلكات البورجوازية ولمصالحها. هذا هو ما يفسر التحية التي أدتها القوى الامبريالية للسجين السياسي السابق.

واليوم، أي بعد ما يقارب على العشرين عاما على نهاية نظام الفصل العنصري، أصبح جزء صغير من السكان السود أغنياء لدرجة أن اصبحوا جزءا من البورجوازية الكبرى بشكل كلي. ويأتي هؤلاء البورجوازيون السود في غالب الأمر من صفوف المؤتمر الوطني الأفريقي. إن هذا لعبارة عن نجاح بالنسبة للبورجوازية السوداء. لكن الجماهير الفقيرة ما زالت بنفس حدة الفقر التي كانت عليه في السابق، ذلك رغم أنها هي التي قادت الكفاح من أجل القضاء على نظام الفصل العنصري. وهي الآن مضطهدة من قبل الشرطة السوداء، كما يمكن للجماهير السوداء أن تسمع وزراء من السود يشرحون لها بأن عليها تقديم التضحيات. وتستمر بالخضوع لظروف مهينة في مجال العمل والحياة والسكن.

وإن لم يعد لون البشرة المعيار الرئيسي، ما زال جنوب إفريقيا بلدا مليئا بالفوارق الاجتماعية. فالفصل العنصري الاجتماعي لم يختف بعد. وقومية مانديلا، حتى لو كانت مدعومة من قبل الحزب الشيوعي والبيروقراطيين النقابيين، لم تغير من مصير الطبقة العاملة التي ما زالت تشقى لمصلحة الرأسماليين. في جنوب أفريقيا، إن مستقبل النضال هو في نضال المستغلين ضد جميع المستغلين من السود والبيض على حد سواء.