العلاقات الدولية في نهاية العام 2014

چاپ
ترجمة

* * * * * * *

العلاقات الدولية في نهاية العام 2014 : همجية الإمبريالية هي البيئة الداعمة لجميع الهمجيات.

نص تحليل العلاقات الدولية الذي تم اعتماده في المؤتمر السنوي لحزب النضال العمالي.

تم نشره في مجلة النضال الطبقي رقم 164 - في ديسنبر 2014.

إن إطالة مدة أزمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، التي تترجم بتفاقم المنافسة بين الرأسمالين في كل مكان وبتفاقم التفاوت الاجتماعي وبتراجع مقومات حياة معظم الجماهير المضطهدة، تؤدي إلى زيادة حدة توترالعلاقات الدولية وشكلها الفوضواي. فالنظام الإمبريالي، المورط بالعنف في مناطق مختلفة في العالم، هو في حالة تحلل متقدمة.

وتقوم الأوساط الحاكمة في البلدان الإمبريالية الكبرى، بساعدة الوسائل الإعلامية، بتكريس المناخ الحربي. وقد بدأ هذا المناخ مع اعتداءات مركز التجارة العالمي عام 2001. ففي منظومتهم اللغوية الرسمية، يحل الإرهاب، وخاصة الإرهاب المربوط بالتعصب الديني الإسلامي، تدريجيا محل الاتحاد السوفياتي السابق، كأكبر تهديد ضد السلام.

وجاء تزياد هذه العصابات المسلحة، من طالبان والقاعدة في أفغانستان إلى شمال القارة الإفريقية ونيجيريا والكاميرون وبعض المناطق الأسيوية الجنوبية الشرقية، ليعطي هذه المنظومة نقاط ارتكاز.

كما جاء تطور داعش السريع، والناتج عن تفكك الدولة العراقية وإضعاف الدولة السورية، والمدعوم ماليا من بعض حلفاء الولايات المتحدة المخلصين كالمملكة السعودية وبعض إمارات الخليج، وسيطرتها على أراض واسعة، ليتيح الفرصة للقوات الإمبريالية بتأسيس تحالف لمحاربة هذا التنظيم، مستعملا سلاح الطيران.

ذلك وإن كان تقديم داعش كتهديد عالمي أمر مبالغ به ويخفي أهدافا خاصة لقوى التحالف، إلا أن الحرب التي تدور على حدود سوريا والعراق هي حرب حقيقية بضحياها وجرحاها الذين يقعون نتيجة لقصف القوات الغربية ونتيجة أعمال عصابات داعش المسلحة التي تقوم بالقتل وبهدم المنازل وبتهجير اللاهالي.

وتشاطر قوى التحالف الإمبريالية وداعش نفس الاحتقار للسكان. فزعم قوى التحالف بأن قصف المناطق التي تستولي عليها داعش يتم بشكل دقيق هو ليس إلا كذب وقح كما كانت التأكيدات المشابهة للجيش الإسرائيلي بما يخص بالقصف على غزة.

القوات الإمبريالية لا تسمح بالاعتراض عليها. فباستطاعتها استعمال وحتى إنشاء العصابات المسلحة والارهابية طالما أن ذلك يخدم مصالحها. ولكن هذه العصابات، ما إن أخذت بالتطور بشكل تلقائي والعمل لمصالحها الخاصة، تقوم، كما يحدث مع الكلاب المروضة في غالب الأحيان، بالانقلاب ضد أسيادها الذين يباشرون بلجمها. هكذا كان الأمر مع حركة طالبان التي استعملتها الولايات المتحدة ضد الجيش السوفييتي عندما احتل أفغانستان، كما كان الأمر، على مستوى أكبر، مع صدام حسين الذي كان أداة بيد الولايات المتحدة للتدخل ضد إيران قبل أن يتم تقديم المستبد العراقي كتهديد ضد السلام العالمي وأن يقوم الجيش الأمريكي بتنحيته عن السلطة.

إن الضراوة التي تبرهن عنها داعش والإخراج المريع الذي يرافق قطع الأعناق والترويج الواسع لهذه الأفعال عن طريق الانترنت هي تعبير لنفس الاحتقار للشعوب الذي تبرهن عنه القوات الإمبريالية في حربها. ولكن لهذا غاية سياسية أيضا.

فغاية داعش هي، أولا، بفرض نفسها على العصابات الأخرى في المنطقة وبجذب العصابات مسلحة في مختلف مناطق العالم لتصبح ضمن منطقة نفوذها. فتصبح داعش بذلك كخليف لتنظيم القاعدة في عهد الراحل بن لادن.

وأبعد من المنافسة على السلطة، تستهدف وسائل داعش نشر الرعب في قلب الشعوب التي تريد السيطرة عليها، فارضة الولاء والطاعة.

وتبشر الطرق المعتمدة من قبل داعش بهدف الاستيلاء على السلطة عن طبيعة السلطة التي تريد فرضها. فهي سلطة مستبدة إزاء من لا يتوافق معها وإزاء الأقليات الدينية والعرقية وإزاء النساء وكذلك المستغلين. فأهداف داعش الرجعية كما سياستها وسياية أتباعها في جميع العالم تجعلها عدوا شرسا لطبقة البلوريتاريا.

ويشجب بعض سياسيو الدول الإمبريالية الاقل حماسة للحرب عدم فعالية القصف الجوي على الأراضي المسيطر عليها من قبل داعش ويقترحون ضرورة القيام بحل سياسي.

من الواضح أن القصف الجوي غير فعال. فالجيوش الجهادية تستمر بالتقدم، وذلك بقدر ما تؤدي ما يسميه السياسيون بالأضرار الجانبية باستقطاب المزيد من الجهاديين في أحضان داعش.

أما الحل السياسي فلا وجود له. الإمبريالية ليست قادرة على بناء علاقات لا يوجد فيها قمع بين الشعوب المختلفة على المستوى العرقي أوالديني، ذلك دون الحديث عن إنهاء التفاوت الاجتماعي والفقر والفساد. على العكس، فالامباريالية تعيش بفضل هذه الشوائب بل وتقوم بتحفيزها وابتكار أشكال جديدة منها دون انقطاع.

وأمام حصر تدخله ضد الداعش بطيران الرافال، يعوض النظام الإمبريالي الفرنسي عن ضعف قدراته العسكرية بالتكلم بشكل صاخب، وخاصة بكون رئيسي الجمهورية والحكومة يحملان الهوية الاشتراكية. فهذا تقليد قديم في فرنسا : الحزب الاشتراكي في الحكومة كان دائما يلبي وبحماسة مصالح الامبريالية الفرنسية. وهو يستعمل مصطلحات "الوحدة الوطنية " و"التضامن الوطني" في خدمة المصالح الخارجية للبرجوازية الفرنسية إلى درجة تجعل اليمين الفرنسي يصفق له.

على العمال الواعيين أن يرفضوا وباحتقار كل النداءات إلى الوحدة الوطنية. فعدوتهم البرجوازية لا تصبح صديقتهم عندما تقود حروب قرصنة خارج البلاد.

إن الجو الحربي هذا الذي يطغى داخل الدول الإمبريالية الكبرى يزداد سوءا بتوتر العلاقات إزاء روسيا والعودة إلى نوع من الحرب الباردة. لكن للإجراءات المفروضة ضد روسيا بسبب هذا التوتر حدود. فالبرجوازيات الكبرى في أوروبا، الفرنسية والالمانية على وجه الخصوص، لها مصالح كبيرة في روسيا إن على الصعيد الصناعي أو المالي أو التجاري. فهي بذلك ليست على استعداد للتضحية بها رغم الضغوط الايركية في هذا الاتجاه.

إن تزايد العصابات المسلحة في الجزء الخاضع للنظام الامبريالي من العالم ــ وكل هذه العصابات ليست إسلامية أصولية ــ هو في نفس الوقت النتيجة والعامل المسرع لتفكك عدد متزايد من أنظمة الدول الخاضعة بشكل أو بآخر للهيمنة الإمبريالية. ومنطقة الشرق الأوسط هي مهمة استراتيجيا واقتصاديا بالنسبة للقوى الإمبريالية.

أما في إفريقيا، فقد تم زرع بذور تحلل أجهزة الدولة منذ نهاية الاستعمار. وهو يعود إلى طبيعة هذه الدول التي كان يراد في إنشئها من جهة كسب رضى الجماهير الإفريقية الطامحة للتخلص من العبودية الاستعمارية ومن جهة أخرى الحفاظ على النهب الامبريالي لهذه البلاد. إنه هذا الطابع المتعارض هو الذي جعل منذ البداية أنظمة هذه الدول أنظمة قمعية في أحسن الأوضاع وغالبا ما كانت دكتاتورية.

ففيما تطلب الدول الإمبريالية من هذه الأنظمة السيطرة على شعوبها، فإنها لا تترك لها الإمكانيات للقيام بذلك. والمكافأة الوحيدة لمنفذي هذه الاوامر في جهاز الدولة هي في حريتهم المطلقة لسرقة شعبهم. فيأتي نهب الطبقة المسيطرة للشعوب وفسادها ليتراكم على النهب الامبريالي.

والحصول على مقعد في الأمم المتحدة وعلى علم وطني لم يستطع أن يعوض إلا لحين عن استمرار بؤس الجماهير الفقيرة. فالانقلابات العسكرية المتتابعة قد ملأت تاريخ الدول الإفريقية المستقلة. وهذا هو نتاج تطور العصبات العسكرية. فبعض هذه العصابات تكتفي بابتزاز مال الناس في سبيل ضمان بعض الامتيازات لزعمائها وما يكفي لشراء السلاح والبقاء على قيد الحياة، في حين تبحث عصابات أخرة عن سلطة في المجتمع على أساس عرقي أو ديني.

والصومال لم تستعيد أبدا جهاز الدولة المركزية منذ سقوط ديكتاتورية سياد باري في سنة 1992.

كما مرت عدة سنوات في سيراليون وليبيريا حلت فيها العصابات المسلحة المتنافسة مكان جهاز الدولة.

وبقي ساحل العاج خلال عدة سنوات منقسما إلى قسمين، بين الشمال الخاضع لأسياد الحرب والجنوب تحت رئاسة كباكبو. ولم يتم وضع حد لهذا الانقسام إلا بتدخل الجيوش الفرنسية ــ الموجودة أصلا في البلاد ــ والتي فرضت واتارا في السلطة.

ومؤخرا كان دور دولة مالي بالوصول إلى حافة الاندثار. هنا أيضا، لعب الجيش الفرنسي دور الشرطة في امبراطوريتها الاستعمارية القديمة ليعيد لجهاز الدولة في مالي شكلا من الصلابة وهو لا يستطيع حتى الآن أن يستغنى عن الجيوش الفرنسية.

وفي إفريقيا الوسطى، لم يأتي التدخل الفرنسي إلا بعصابة مسلحة أخرى بين تلك التي تتصارع على الأرض، ودون أن ينهي الفوضى الدموية السائدة.

أما ليبيا فهي مستمرة في تفككها منذ سقوط القذافي، الأمر الذي يساهم بشكل كبير في زعزعة الاستقرار في هذا الجزء من إفريقيا.

وفي الكونغو، زائير سابقا، وهو البلد الأكبر مساحة في افريقيا، لم تعد السلطة المركزية تسيطر على البلاد منذ سنوات عديدة. فالعصابات المسلحة المتنافسة، والممولة من قبل مكاتب تعمل لحساب شركات الكبيرة تتنافس فيما بينها للاستيلاء على الثروات الضخمة من المواد الأولية، قد خلفت أكثر من ثلاثة ملايين ضحية بين الضحايا المباشرة وتلك التي ماتت بسبب الأمراض وسوء التغذية الناتجة عن الحرب.

إن الفوضى التي تعم في جيوش عدد كبير من بلدان إفريقيا تدفع بالقوات الإمبريالية لزيادة حضورها في القارة. فالجيوش الأجنبية لم تبلغ هذا العدد من قبل في إفريقيا منذ استقلال دولها من الاستعمار. وهي غالبا ما تكون موجودة باسم منظمة الامم المتحدة. ولكن الإمبريالية الفرنسية هي التي لديها أكبر وجود عسكري في القارة من قواعد عسكري وجنود ومدربين عسكريين.

لكن تهالك الدولة في سوريا وتفككها في العراق قد أدى إلى عواقب بحجم مختلف مقارنة مع افريفيا بسبب الاهمية الاستراتيجية للمنطقة الناتجة عن ثرواتها النفطية وموقعها الجغرافي.

وهذه العواقب تهدد الحدود المرسومة غداة الحرب العالمية الأولى والمحافظ عليها منذ ذلك الحين مع بعض التعديلات. وكان ترسيم المنطقة الذي تم على أنقاد الامبراطورية العثمانية يعكس ميزان القوى بين الدول الإمبريالية المنتصرة في أوروبا وفي مقدمتها فرنسا وإنجلترا. وقد بقي هذا الترسيم الهش موجودا رغم مرور الزمن، وبالرغم من أفول تأثير هاتين الإمبرياليتين في وقت ازداد فيه تأثير الامبريالية الاميركية.

وكانت المنافسة بين القوات الإمبريالية مستترة إلى حد ما في عهد الاتحاد السوفييتي القريب جغرافيا من المنطقة والحاضر دبلوماسيا. لكن وراء التواطؤ أمام عدوها المشترك كانت الشركات الكبرى في مجالي النفط والتسلح متنافسة باستمرار فيما بينها وبدعم دولها بهدف الاستيلاء على الثروات النفطية وعقود التسليح وخاصة التأثير على حكام المنطقة.

وغير أسباب هشاشة المنطقة الناجمة عن المنافسة بين القوات الامبريالية وموازين القوى المتبدلة بينها، هناك تلك الناجمة عن نية الدول الإمبريالية اللعب باستمرار على المنافسة بين دول المنطقة والتي كانت قد قسمتها عمدا بهذا الغرض.

فالعلاقات بين دول المنطقة المأهولة من سكان يتكلمون نفس اللغة ـــ سوريا والعراق والأدن ولبنان والمملكة العربية السعودية واليمن والإمارات النفطية ومصر ـــ كانت دائما وما زالت معقدة بوجود تحالفات عابرة وخصوصا بعداءات قادرة على التحول إلى نزاع مسلح.

وفي لعبة اتقسيم هذه، تلعب الدولة الإسرائيلية دورا خاصا. فرغم تردد الامبريالية الابريطانية أمام قيام هذه الدولة بهدف مراعاة الزعماء العرب الذين وضعتهم في السلطة في المنطقة القابعة تحت سيطرتها، قامت الحكومة الأمريكية بالدفع نحو قيام الدولة الاسرائيلية، وبدعم الحكومة الفرنسية، وذلك بهدف الحل محل انجلترا في المنطقة وخاصة بهدف جعل هذه الدولة حليفا راسخا للإمبريالية في المنطقة. فخلافا للدول العربية وأنظمتها البعيدة بقدر ما عن شعوبها والفاسدة والتي كانت تلقى معارضة داخلية وبذلك القابلة على التواهي، كانت الدولة الإسرائيلية تجسد عند نشأتها في عام 1948 رغبة وإرادة مئات الألاف من اليهود الناجين من الهمجية النازية باتخاذ بلد آمن لهم، حيث لم تكن أمريكا ولا القوى الأوروبية تريد استقبالهم.

كانت توجد امكانية تاريخية بأن لا يتم اعتبار هذا الشعب كغاز من قبل الشعب العربي بل كصديق وحتى كمصدر اغتناء ثقافي وفكري للمنطقة بحكم الفروق بين الشعبين. كان لا يمكن لهذه الإمكانية أن تتجسد إلا عبر سياسة مثابرة في سعيها إلى كسب قلوب المستغلين والفقراء بين الجماهير العربية، والتحالف معها بوجه المستغلين التقليديين والظالمين بين الاقطاعيين والرأسماليين المحليين، وبشكل خاص بوجهى القوى الإمبريالية. باختصار، عبر سياسة طبقة ثورية.

ولكن السياسة الوحيدة المقترحة كانت الصهيونية التي سعت إلى فرض الدولة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني بالعنف وبمصادرة الاراضي. هذه السياسة، منذ بدايتها، لم تترك للشعب اليهودي الإسرائيلي سبيلا غير سياسة الارتباط الوثيق بالقوى الامبريالية، ليصبح مرتزقة لها ضد الجماهير العربية وليتحول إلى سجان للفلسطينيين.

فبتأسيسها على سياسة قمعية للشعب الفلسطيني، بأءت إسرائيل الحليف والذراع المسلح الأكثر ثقة عند الإمبريالية ضد الشعوب العربية المجاورة. كما تسمح دولة إسرائيل من ناحية أخرى للأنظمة العربية، حتى الأكثر اخلاصا منها للإمبريالية مثل المملكة العربية السعودية وإمارات النفط، أن تغطي سياستها الرجعية وراء خطابات معادية لإسرائيل. فبلعب دولة اسرائيل دورا محوريا في هيمنة الامبريالية على المنطقة، بمقابل الدعم المطلق من قبل الاخيرة لها في قمعها للشعب الفلسطيني، أصبحت الدولة الإسرائيلية محكومة بسياسة كارثية للشعبين المخطلتين الذين من مصلحة الأغلبية الساحقة فيهما أن يتساكن الشعبان بشكل أخوي.

وفيما قامت الإمبريالية بتجزيء الشرق الأوسطـ لم تقم بالاعتراف بحق بعض الشعوب، كالأكراد، بالتحرر الوطني الذي ينادون به منذ عشرات السنين.

ويشهد سلوك قوات التحالف ضد داعش عن تلاعبهم بحياة الشعوب ورغباتها. فهي تستعمل قوات البشمركة الكردية لأنهم يكونون القوة المسلحة الوحيدة التي تعارض الجهاديين بعد هزيمة الجيش العراقي. ولكن في نفس الوقت ترفض قوات التحالف أن تسلمهم الأسلحة الضرورية لصد الجهاديين المدججين بالسلاح خوفا من أن تعطي هذه الأسلحة للأكراد إمكانيات تستخدمها في وجه الدول التي يتواجدون فيها وأولها تركيا، الحليف العسكري الأساسي الثاني للولايات المتحدة في المنطقة.

ومن المؤكد أن القصفات الجوية، وهي لدعم الوحيد للبشمرجة، قد تسببت بضحايا من بين الجماهير أكثر منها من بين الجهاديين. ومشهد دبابات الجيش التركي وهي تنتظر متأهبة سقوط كوباني بأدي الجهاديين في حين أنها قامت في الوقت نفسه بمنع الأكراد في تركيا من الالتحاق بأكراد سوريا للدفاع إلى جانبهم، تلخص كل السياسة المخزية للقوات الإمبريالية في المنطقة.

كان لهذا التقسيم بين دول غالبا ما تتنافس فيما بينها أن يؤدي إلى تنامي السياسات القومية والقمع للشعوب وللأقليات العرقية والدينية ولمعارضي السلطة.

كان الشرق الأوسط دائما عبارة عن برميل بارود. وبخلع صدام حسين عن السلطة، قامت القوة الإمبريالية الاولى في العالم، الولايات المتحدة، بإشعال الفتيلة.

وتكاثر العصابات المسلحة تحت راية الإسلام مؤخرا يقع ضمن سلسلة طويلة من الاعتراضات والتمردات التي أثارتها الإمبريالية طيلة تاريخها.

فالابريالية، وهي تجسد سيطرة أقلية صغيرة جدا من الاثرياء الذين يقومون بسلب العالم بأكمله، لا يمكن لها أن تبقى قائمة إلا عبر تحريض دول ضد أخرى وشعوب ضد شعوب أخرى وعبر الاستعانة عند الحاجة بالعصابات المسلحة فتستخدمها طالما درت عليها بالفائدة قبل أن تعلنها عدوا للمجتمع عندما لم تعد تخدم مصالحها في الامد القريل.

إن التسعة والستون سنة التي تفرقنا عن نهاية الحرب العالمية الثانية قد شهدت العديد من الحروب المحلية والاقليمية ومواجهات عنيفة في بعض الاحيان.

قبل افول الاتحاد السوفييتي ونهاية تقسيم العالم إلى كتلتين، كان عدد كبير من الصراعات يندمج ضمن الحرب التي توصف بالباردة، وهي لم تكن باردة في الحقيقة إلا بما يخص المعسكرين. فالحروب في كوريا وفي فيتنام لم تكن باردة، وكذلك بما يخص الدول الواقعة على حدود مناطق نفوذ المعسكرين بشكل عام. وبعيدا عن تلك الحدود، كانت معظم الصراعات العديدة المحلية التي مزقت إفريقيا وآسيا تشهد نوعا من التصارع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بشكل خفي أو بطريقة عنيفة. إذ كان التصادم بين الكتلتين ينعكس في معظم الصراعات لكن دون أن يكن المسبب الرئيسي لها.

فالبيروقراطية غالبا ما حاولت الاستفادة من الصراعات المحلية، حتى لو اقتصر ذلك على الصعيد الدبلوماسي. ولكن الإمبريالية، بهيمنتها على الدول واقتصادها، وبدعمها للدكتاتوريات، هي التي كانت تثير التمردات والصراعات بشكل مستمر.

ومن جهتها، كانت البيروقراطية الستالينية تشن حروبا قمعيا في منطقة نفوذها ـــ بشكل مباشر في المجر سنة 1956، وفي تشيكوسلوفاكيا سنة 1968 وبولندا سنة 1981 ـــ دون أن ننسى الاستفزازات التي قامت بها كمنشآت الصواريخ السوفييتية في كوبا وكذلك مغامراتها الحربية في أقصى حدود منطقتها مثل في أفغانستان.

إن ما يجري منذ تفكك الكتلة السوفييتية يدل على أن معارضة النظام الإمبريالي لم يكن من فعل الاتحاد السوفييتي ولكن أسبابه مرتبطة بالسيطرة الإمبريالية نفسها.

وحدها الأقلام المرتشية أو الحمقى كانت تستطيع أن تستبشر في انتهاء انقسام العالم إلى معسكرين الأمل بإحلال السلام العالمي! فالتوترات العميقة التي تعصف بالنظام الامبريالي بشكل دائم قد تم حجبها خلال بعض الوقت فقط مع نشوة حكام العالم الرأسمالي بإعلان نصرهم على المعسكر السوفييتي. لكن هذه التوترات كانت مستمرة في مفاعيلها وبالتضخم والتوسع إلى منطقة النفوذ السوفييتي السابق.

حتى الأكثر سذاجة من الطبقات الشعبية في الديمقراطيات الشعبية السابقة التي انتظرت من إعادتها إلى المعسكر الغربي ملو متاجرها بالبضائع، ما لبثت أن اكتشفوا البطالة وما يترتب عليها من صعوبة في الحصول على تلك البضائع؛ كما أن أولئك الذين ابتهجوا بنهاية تسلط البيروقراطية السوفيتية على السلطات المحلية اكتشفوا نوعا آخر من التسلط، ذلك الذي بدأت تمارسه الشركات الغربية والتي استملكت كل ما هو مربح من الصناعات المحلية ودمرت ما تبقى.

في الواقع، لم يعرف العالم السلام في فترة الخمسة وعشرين سنة الماضية، بل أن الصراعات تستمر بنفس الوتيرة، وحتى أسرع، وأصبحت السيطرة عليها أكثر صعوبة. في الحقيقة، صحيح أن البيروقراطية السوفيتية كانت تتقن استغلال النزاعات في لعبتها الدبلوماسية، لكنها كانت أيضا قادرة على كبح هذه النزاعات بل وحتى إخمادها.

فإلى جانب ظهورها بمظهر زعيم القطب المعارض للامبريالية، كانت البيروقراطية السوفيتية تلعب في نفس الوقت دور الشرطي في منطقة نفوذها. وما إن فقدت البيروقراطية السوفيتية الرغبة وبدون شك القدرة على لعب هذا الدور تجاه دول الديمقراطيات الشعبية، حتى أسرعت هذه الأخيرة بالانضمام للمعسكر الآخر تحت هيمنة الامبريالية.

وبدوره، فتح انهيارالاتحاد السوفييتي مجال جديدا للعبة نفوذ القوى الامبريالية، المتنافسة في ما بينها ولكن المتحالفة في نفس الوقت للسيطرة على المكان الذي تركته روسيا فارغا إلى حد ما في الدول التي كانت سابقا جزءا من الاتحاد.

وقبل أن تقرر قمم البيروقراطية المتمثلة بشخص يلتسن وأشكاله من الأوكرانيين والبيلاروسيين بحل الاتحاد السوفييتي، كانت البيروقراطية الستالينية، بتحويلها للاتحاد السوفييتي إلى مجرد سجن لشعوبه، قد اطفأت الأمل الذي أتاحته ثورة أكتوبرلدى الشعوب المقموعة حينذاك من قبل القيصرية، بل وأنها قد اثارت ثم فاقمت النزعات النابذة للاتحاد السوفييتي.

لدى حديثه عن "المسألة الأوكرانية"، في صبيحة الحرب العالمية الثانية، أكد ليون تروتسكي : "على الرغم من القفزة التقدمية الجبارة التي حققتها ثورة أكتوبر في الموازين القومية، فإن هذه الثورة العمالية، المعزولة في دولة متخلفة، بدت غير قادرة على حل المسألة القومية، وخاصة المسألة الأوكرانية التي بتكوينها تعبر عن مسألة عالمية. فقد أرجعت الثورة المضادة التيرميدورية وعلى رأسها البيروقراطية البونوبارتية أيضا بالجماهير العمالية كثيرا إلى الوراء في ما يتعلق بالمسألة القومية"، وبناء على ذلك: "فإنها هذه الحقيقة التي يتوجب على الثوري بالمعنى السياسي للكلمة، خلافا للبيروقراطي الفئوي، أن يأخذها كنقطة انطلاق".

فإذا كان التقدم الاقتصادي المخطط قد ساهم في تقوية الاتحاد السوفييتي، فإن القمع الممارس من قبل الكرملن لم يكن إلا ليزيد من حدة النزعة النابذة. لم تحل البيروقراطية المسألة القومية في الاتحاد السوفييتي. فهي لم تقم إلا بخنقها وإخفائها، تاركة هذه المسألة كقنبلة موقوتة.

وهكذا كان الطريق ممهدا للمناورات الإمبريالية.

إن تجزئة يوغوسلافيا والفترة الطويلة من المواجهات المسلحة بين الدول الناتجة عن هذا التقسيم قد شكلت صورة مسبقة عن ما يجري الآن في اوكرانيا. وإذا كانت الأقطاب السياسية القومية السلوفينية، الصربية، الكرواتية، الكوسوفية، الخ، قد لعبت دورا كبيرا في تلك الحروب اللامتناهية في البلقان، والأكثر دموية من تلك التي سبقت الحرب العالمية الأولى، فإن الامبريالية الاوروبية، الفرنسية، الألمانية أو الانكليزية، قد كانت تلعب دور رجال الإطفاء مشعلي الحرائق بدلا من العمل على إطفائها.

وبعد عقدين من الزمن، لم يستطع بعد السكان، اليوغسلافيون سابقا، أن يتجاوزوا الصعوبات الاقتصادية وخاصة الكوارث الإنسانية الناتجة عن الحرب. إن الدول التي نشأت عن انهيار يوغوسلافيا تشكل، بسبب ضعفها الاقتصادي والديوموغرافي، ألعوبة سهلة بيد القوى الامبريالية. وهي، علاوة على ذلك، غير قادرة على تقديم حل ديمقراطي لمصير الأقليات القومية على أرضها. فإن التشكيل السريالي للبوسنة هو مثال صارخ لهشاشة هذه الدول، وهي ليست المثال الوحيد.

وإذا قامت الدول البلطيقية الثلاثة، لأسباب تاريخية وبحكم القرب الجغرافي وحجم هذه الدول، بالعبور سريعا للمعسكر الغربي أولا ثم بالانضمام للاتحاد الأوروبي، فإن اللعبة الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية للقوى الامبريالية قد أخذت مناحي مختلفة بالنسبة للدول الأخرى الناتجة عن انهيار الاتحاد السوفييتي.

كانت نهاية الدكتاتورية الستالينية قد أظهرت على السطح الكثير من الخصومات والتي طالما أخمدتها في السابق (أرمينيا ضد أذربيجان، أخبازي وأوسيتا الجنوبية الذين انفصلوا عن جورجيا، الأقلية الروسية والأوكرانية ضد دولة مولدافيا، الخ). وأصبحت القوى الامبريالية، وخاصة الاوروبية، لاعب علني أو مخفي في النزاعات المتولدة عن هذه العداوات، وقامت بتضخيمها.

لكن النزاع في أوكرانيا أتخذ أهمية بشكل لا يقارن بما حدث في جورجيا. أوكرانيا بلد كبير يفوق عدد سكانها على 40 مليون نسمة. وبحكم علاقاتها الأزلية مع روسيا والتشابك بين الدولتين على صعيد المصالح الاقتصادية وعلى الصعيد الديموغرافي، فإن البيروقراطية الروسية، والتي عززت سلطتها بعد استبدال يلتسن ببوتين، لم تكن لتقبل أبدا بدخول أوكرايينا كليا في منطقة نفوذ الاتحاد الاوروبي، ذلك دون الحديث عن انضمامها لحلف الناتو.

إن الاتحاد الاوروبي، باقتراحه على أوكرانيا شكل من أشكال التعاون الاقتصادي، من دون أي مقابل، وخصوصا رغبة الولايات المتحدة بضم أوكرايينا لحلف الناتو، كان كل هذا لعب بالنار. ولكنهم يتهمون بوتين بتأجيج نار الصراع.

يتقاسم المعسكران ـ الامبريالي والكرملن ـ سويا مسؤولية الوضع في أوكرانيا ذي العواقب الثقيلة على سكان هذا البلد. فالقتلى يحصون بالآلاف والتدمير جاء ليفاقم الفقر في منطقة تعاني مسبقا نتيجة انقطاع الروابط الاقتصادية العديدة جراء انهيار الاتحاد السوفييتي.

والأسوء من ذلك هو أن هذا النزاع يزرع الكراهية بين الشعبين الروسي والأوكراني، وداخل أوكرانيا بين السكان الناطقين باللغة الأوكرانية والروسية (علاوة على الأقليات القومية من الروتينيين والسلوفاكيين والرومانيين والهنغاريين والتشيك ـ الذين أيضا يعانون من آثار هذا النزاع).

فبعد يوغوسلافيا، هاهي منطقة أخرى مهمة من أوروبا ترى الحرب تدق على أبوابها.

قامت الديمقراطية البرجوازية، والتي كانت منذ زمن طويل النظام السياسي للقوى الإمبريالية، على أساس عبودية الشعوب المستعمرة.

وأظهرت النازية في ألمانيا مدى هشاشة هذا الشكل من النظام السياسي، حتى في الدول المتقدمة ماديا وثقافيا. فكل هذه "الديمقراطيات الامبريالية" قد تحولت، خلال الحرب العالمية، إلى أنظمة عسكرية.

والأزمة الاقتصادية الحالية لا تقوم حت الآن إلا بزيادة انعدام الثقة بالديمقراطية البرجوازية كما يظهره، على سبيل المثال، التصاعد الانتخابي للتيارات المسماة بالشعبوية.

يقوم الإصلاحيون بكل أشكالهم باتهام "العولمة" بأنها، عبر تكريسها لهيمنة الأسواق المالية العالمية، تحرم الدولة من قدرتها على التدخل. إنها عادة قديمة لدى الإصلاحيين بتمويه صراع الطبقات خلف أفكار مجردة.

إذ أن خلف تلك "الأسواق المالية" هنالك نفس البرجوازية الرأسمالية الكبيرة التي تتحكم بالدول الرأسمالية. إن البرلمانات، حتى في أكثر الدول الديمقراطية، لم تكن شيء آخر سوى مجرد غرف تسجيل، والحكومات لم تكن إلا اللجان التنفيذية للبرجوازية الكبيرة. يظهر التطور الحالي هذه الحقيقة الصارخة : أنه الرأسمال الكبير وطبقة البرجوازية الذين يهيمنون على العالم ويقودونه إلى الكارثة.

إن أحد أشكال أزمة الديمقراطية الرأسمالية هذه يتجلى بتفعيل الانشقاق بين المكونات القومية في دول بعد أن كانت تعتبر المسألة القومية فيها محلولة في الماضي.

وإذ بنزاعات تولد من جديد وأخرى قديمة تعاود الظهور: بين الفلمنجيون والولونيين في بلجيكا؛ بين الاسكتلنديين والانكليز في انكلترا وبين الكاتولونيين القوميين في مواجهة الدولة الإسبانية.

كل ذلك، بشكل عام، يدور في إطار الديمقراطية الرأسمالية.

وهذه الظواهر تعبر عن تراجع على المنحى التاريخي. فالامبريالية، "مرحلة شيخوخة الرأسمالية" تحلل حتى "الوحدات القومية" التي أسستها البرجوازية الصاعدة خلال فترة تطور الرأسمالية.

أما دول البلقان ودول أوروبا الوسطى، فتحوم عليها نفس العوامل التي أدت إلى تفكك يوغوسلافيا. فتصاعد التنافس بين القوميات وتزايد المطامع والمطالب الإقليمية، الصريحة أو المخفية، أصبحت ظاهرة للعلن منذ عدة سنين ولا تلبث تزداد ضراوة.

في هذه البلاد ذات السكان المتنوعة والمتمازجة، توفر التقسيمات الإقليمية، التي تمت خلال وفيما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، الأرضية الخصبة لأنشطة مجموعات اليمين المتطرف في حين أن الأنظمة المدعية بالديمقراطية والتي أسست بعد انتهاء الهيمنة السوفييتية لم تستطع ولم تملك الإرادة لضمان حقوق الأقليات القومية.

ويظهر هذا التقهقر في العديد من مجالات الحياة الاجتماعية، من تنامي الأفكار الرجعية وزيادة وزن الدين والكنيسة في المجتمع.

فالرأسمالية المتهاوية لا تقدم أي رؤية ولا أي أمل للمجتمع. وربما أكثر تعبير عن هذا اليأس هو انجذاب فئة قليلة من الشباب للقتال مع الميليشيات المسلحة باسم أفكار تعود للقرون الوسطى.

إذا كانت هذه المجموعات المسلحة المتعصبة تعبر، ولو بشكل غير مباشر، عن احتجاج ضد المنظومة العالمية للرأسمالية، فإنها لا تقدم بطبيعة الحال أي منظور سياسي للمجتمع، بل إنها تكمل عمل الرأسمالية بإعادة المجتمع إلى الوراء. والنظام الرأسمالي، أي منظومة الشركات الكبيرة، يجيد التكيف مع الفوضى السياسية.

ومع هذه النزاعات المحلية المتزايدة، تحصد الرأسمالية ما زرعت. ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سوف تئول إليه الأمور.

فبزرعها للانقسامات وللنفور بين الشعوب بسبيل خدمة مصالحها، تركت الرأسمالية الكثير من القنابل الموقوتة التي لا يمكن لأحد التأكيد بأنها لن تنفجر مع تصاعد الأزمة أو مع مجرد استمرارها في الزمن.

فلنأخذ على سبيل المثال العلاقات المتوترة بين الهند وباكستان مع العلم أن كلاهما تملكان القنبلة النووية! أو أيضا العلاقات بين الهند وبنغلادش اللتين يقوم الجدار الممتد على طول ال3000 كم من الحدود بينهما بالفصل بين السكان البنغال نفسهم. إن وجود هذا الجدار، وأشباهه من الجدران التي تفصل بين إسرائيل وفلسطين وبين المكسيك والولايات المتحدة، والموجودة حول سبتة ومليلة أو تلك التي تحيط بأوروبا الشنغن، ليس إلا التعبير المقرف عن تعفن النظام الرأسمالي. ففي نفس الوقت الذي تقوم فيه العولمة بزيادة الترابط الاقتصادي والمالي بشكل لا سابق له وحيث أن وسائل الاتصال والنقل جعلت من الحدود القومية من بقايا التاريخ المؤلمة، تقوم الأمبريالية بهيمنتها بدفع المجتمع نحو التحلل والفوضى.

وإذا كان العنوان الرئيسي لمجلة البريد الدولي (كورييه أنترناسيونال): "غدا، الحرب العالمية الثالثة؟" يدل أكثر عن حماسة صحفية، فإننا لربما نشهد حاليا عملية عولمة للحروب المحلية. فبعد الحربين العالميتين بين معسكرين امبرياليين متنافسين يبدو أن الامبريالية تقوم برسم طريق آخر نحو البربرية.

وحدها إعادة ظهور حركة عمالية ثورية يمكنا أن تقدم رؤيا مستقبلية للإنسانية.

خلال أكثر من قرن، فرضت الحركة العمالية السياسية بوزنها، بشكل مباشر أو غير مباشر، ليس فقط على العلاقات الاجتماعية في داخل العديد من البلدان، بل أيضا على العلاقات الدولية.

فعندما أعلن ماركس عام 1848، في بيان الحزب الشيوعي : "هناك شبح يطارد أوروبا"، فإنه كان يتوقع الأحداث. وهذه التوقعات وجدت لنفسها تعبيرا بكمونة باريس، وذلك لأول مرة في التاريخ.

وبعد أقل من نصف قرن على هذه المحاولة الأولى للطبقة العاملة بانتزاع السلطة من البرجوازية، وبعد 12 سنة من ثورة 1905 في روسيا، استطاعت البروليتاريا الاستيلاء على السلطة في روسيا. فهددت بذلك النظام الرأسمالى في أوروبا برمتها.

وعلى الرغم من فشل الثورات العمالية خارج روسيا، وعلى الرغم من الانحطاط البيروقراطي للاتحاد السوفييتي الذي بقى معزولا، استمر أكتوبر 1917 بالتأثير في مجرى العلاقات الدولية على مدى القرن العشرين. أولا، بفضل الثقل الذي كان يمارسه الاتحاد السوفييتي البيروقراطي الذي، إضافة إلى كونه أحد عوامل الاستقرار للنظام الرأسمالي العالمي، بقي بين معارضي الرأسمالية. وبمجرد وجوده كان الاتحاد السوفييتي مرجعا وعاملا مشجعا لجماهير البلدان الفقيرة.

وإلى حد ما، قامت أيضا حراكات العالم الثالث، على اختلافها من ماوية وكاستروية، وهي بمثابة أرتدادات بعيدة ومشوهة لثورة أكتوبر، بممارسة ضغطها على العلاقات الدولية.

ولكن، وبخيانتها لإرث أكتوبر 1917، دمرت الستالينية كل الروابط مع الحركة العمالية الثورية. فتم غدر أجيال عديدة الأمر الذي أفقدها قوتها وروحها المعنوية.

وعندما قامت البيروقراطية في نهاية المطاف بحل الاتحاد السوفييتي، كان ذلك استكمالا للانفصال عن الماضي، تاركة الساحة شاغرة أمام العديد من القوى الرجعية، من التيارات الاثنية إلى التيارات القومية مرورا بالتيارات الإسلامية، والتي طرحت نفسها على قيادة حركات الاحتجاج التي استمرت الامبريالية بإثارتها.

يبدأ برنامج تروتسكي الانتقالي بالتأكيد التالي: "يتسم الوضع السياسي العالمي بمجمله وقبل كل شيء بالأزمة التاريخية لقيادة البروليتاريا". ويتابع:" فقد بلغت المقدمات الاقتصادية للثورة البروليتارية، منذ زمن طويل، أعلى نقطة يمكن بلوغها في ظل الرأسمالية. (...) وتأتي الأزمات الظرفية، التي تحدث ضمن ظروف الأزمة الاجتماعية للنظام الرأسمالي بمجمله، لتثقل كاهل الجماهير بحرمان وآلام متعاظمة باستمرار. ويعمق نمو البطالة بدوره الأزمة المالية التي تعاني منها الدولة ويهدم الأنظمة النقدية المتزعزعة. أما الحكومات، سواء كانت ديموقراطية أو فاشية، فتنتقل من إفلاس إلى آخر. لا تجد البرجوازية ذاتها مخرجا من هذا المأزق".

كم تبدو هذه السطور التي كتبها تروتسكي في صبيحة الحرب العالمية الثانية وكأنها تصف الوضع الراهن!

ومنذ ذلك الوقت، استطاعت البرجوازية، وبمؤازرة الستالينية، تجنب موجة الثورات البروليتارية. فأطالت بذالك مندة هيمنتها بضعة عقود. لكن الأزمة الحالية تظهر أنها لم تستطع تجاوز تناقضاتها الأساسية.

خلال هذه العقود، سارت الأحزاب التي تدعي الشيوعية على حذى الأحزاب الاشتراكية بهدف الاندماج الكامل في العالم الرأسمالي ولكي تصبح مجرد عجلة في ماكينة هذا النظام، لتنسحب بعد ذلك من قيادة نضالات الطبقة العاملة.

ولم يتم تجاوز أزمة قيادة الطبقة العاملة بعد. فالقيادات القديمة قد احتضرت دون أن يتم استبدالها بقيادة جديدة.

بتأكيده على الأهمية الأساسية "لأزمة القيادة الثورية" بالنسبة للإنسانية، يعلق تروتسكي: "إن ما يحدد توجه الجماهير هو الظروف الموضوعية للرأسمالية المتعفنة، من جهة، والسياسة الخيانية للمنظمات العمالية القديمة من جهة أخرى. أما العامل الحاسم من بين العاملين المذكورين فهو بالطبع العامل الأول، إذ أن قوانين التاريخ أقوى من الأجهزة البيروقراطية".

هذا التعبير يحتفظ بكل واقعيته في الوقت الحالي. إذ أن قوانين التاريخ مستمرة بفرض منطقها، على الرغم من أن بعض العوامل، وخاصة الخيانات المتعاقبة للاشتراكية الديمقراطية ثم للستاليتية، تفسر أن تأثير هذه القوانين هو أبطئ مما يرجوه الثوريون.

الرأسمالية الامبريالية في مأزق والطبقة العاملة كقوة اجتماعية لم تختف. وهذه الطبقة موجودة حاليا في العديد من البلدان حيث كانت مجرد تكوين بدائي في زمن ماركس أو حتى زمن لينين، وبل غير متواجدة إطلاقا.

وتبرهن الطبقة العاملة عن قوتها في الكثير من البلدان، من الصين إلى أفريقيا الجنوبية مرورا ببنغلادش. وهناك قوى سياسية عديدة تطمح إلى تأطير نضالها، ولكن جميع هذه القوى، من الإصلاحية بكل أشكالها إلى الرجعية، تريد اللعب ضمن الحدود التي تطرحها البرجوازية.

وإنه على عاتق الأجيال القادمة أن تعيد ارتباطها بالتقاليد الشيوعية الثورية وبنضالاتها الماضية وبتجاربها. ففي كل مكان في العالم تبقى مسألة بناء أحزاب شيوعية ثورية هي المعضلة الاساسية، وبذلك ترتبط مسألة إعادة تأسيس أممية شيوعية ثورية.

لا يستطيع أحد أن يتنبأ بأية وسيلة سوف تتمكن الأفكار الشيوعية أن تجد طريقها نحو الطبقة العاملة، هذه الطبقة الاجتماعية التي من أجلها ظهرت هذه الأفكار في زمن ماركس ومن بعده لينين وتروتسكي. وحدها الطبقة العاملة في وقتنا هذا تستطيع، باعتناقها اهذه الأفكار، أن تحولها إلى انفجار اجتماعي قادر على الاطاحة بالرأسمالية.

13 أكتوبر 2014