العراق، رهان وضحية الدسائس الامبريالية - نص مفصل - 2002

چاپ
ترجمة

عرض لحلقة ليون تروتسكي بتاريخ 8 تشرين ثاني 2002

حسب المعلقين فان الانتخابات الاميريكية من أجل الكونغرس ومجلس الشيوخ والوظائف الحكومية في 3 تشرين الثاني 2002 شكلت انتصارا حقيقيا لبوش الأصغر. ثمة جرعة هامة من السم في هذا التمثيل، اذ فيما لوقام بوش بالأفضل مما أثناء انتخابه للرئاسة- وهذا ما لم يكن صعبا- فان الأمر لن يكون حتى حدثا مزلزلا، الا ان النظام الانتخابي كما هو عليه جعل الرئيس الاميريكي مزودا من الآن فصاعدا بالأغلبية العظمى في المجلسين0 ان شيراك وحده فقط من قام بالأفضل في الظروف التي نعلمها.

هل سيدفع الاجماع على شخص بوش ورص الصفوف خلف السياسة الحربية التي يقودها منذ عام التحضير للحرب ضد العراق حتى الحد الاقصى، الى درجة اجتياح العراق؟ أو على العكس هل سيرضى بوش، هذا الرئيس المنتخب على نحو سيء ، وبأصوات أقل مما لخصمه حين الانتخابات الرئاسية، بما سيجنيه في الداخل من جراء سياسته الخارجية وأن يداوم على التلويح مهددا وأن يسمع قرعات الجيوش في المنطقة؟

لن نجيب هذا المساء على هذه الاسئلة. اننا لا نحوز الوسائل لسبر دماغ ووعي الرئيس الاميركي. اذا، ورغم كل شيء، تلاءمت الكلمات بصدد هذه الشخصية، ولكن وحسب العديد من وجهات النظر فان حالة الحرب وضعت أوزارها مسبقا.

انها هنا عبر تعبئة الرأي العام الاميريكين الخاضع منذ 11 أيلول لحملة من الأكاذيب والتسميم الحربي. انها هنا أيضا، بل وماديا على الأكثر، لكن الاثنين مرتبطان، عبر حضور القوات العسكرية الضخمة حول العراق. انها هنا عبر التعبئة الديبلوماسية التي تمرر الولايات المتحدة من خلالها سياستها أمام حلفائها.

كما تعلمون فان شيراك يطرح كانتصار ديبلوماسي واقعة ان القرار الذي تقدمه الولايات المتحدة، أمام هيئة الامم المتحدة اليوم، يأخذ في الحسبان، شكليا، ملاحظات الديبلوماسية الفرنسية! ولكن وكما كتبت بدقة صارمة احدى الصحف فان فرنسا "لا تقاتل ضد الحرب على العراق، وانما ضد الحرب بدون هيئة الامم المتحدة". انكم تدركون، آمل ذلك، فالفارق الطفيف جدا عندما نعلم ان الولايات المتحدة قادت بعض حروبها الامبريالية، بدء بحرب كوريا منذ نصف قرن، تحت جناح هيئة الامم المتحدة! ولم يشك احد بان الحرب، المبتدئة سلفا في الحقيقة، تمر بمرحلة عسكرية وان هذا سيكون بالاتفاق مع الحكومة الفرنسية التي تريد ان تشارك الضربة.

اذا وبالتأكيد يحدث هذا في نفس الوقت الذي يوصف فيه صدام حسين بالديكتاتور وبالجزار. قبل أي شيء من اجل شعبه ندين الاعداد للحرب. اذ أنه حتى لو سقط صدام فان شعبه من سيدفع الثمن. مثلما وبشكل أكثر عمومية، ومنذ نشوء العراق الحديث فان الشعب العراقي من يدفع دائما، وكما عليه الحال في بلدان اخرى في المنطقة، فانه موضوع الدسائس الامبريالية.

ان ما نحضره هنا هو تفكيك خيوط الدسائس الامبريالية في منطقة الشرق الاوسط وعلى نحو أخص ما يتعلق بالعراق، منذ ما بعد قرون عدة من السيادة العثمانية اصبحت مستقلة قضائيا.

ولدينا النية ايضا ان نروي كيف ان صدام حسين، الذي يدينونه قائدوا العالم الامبريالي اليوم كمجرم دموي، كان دائما كذلك، ولكن بمباركة القوى الامبريالية نفسها.

منذ القرن التاسع عشر، في مركز التناحرات بين القوى الاستعمارية.

يشغل العراق اليوم بتعداده البالغ 25 مليون نسمة مساحة تقترب من اربعة اخماس مساحة فرنسا حيث يعد ما يقارب النصف ذو طبيعة صحراوية وقاحلة. له حدود مشتركة مع ست دول اخرى : من الشمال تركيا، من الشرق ايران، من الجنوب الكويت والعربية السعودية، ومن الغرب سوريا والاردن.

مثل العديد من بلدان الشرق الأوسط فان العراق هو انشاء مصطنع حديث متمخض عن تفكك الامبراطورية العثمانية غداة الحرب العالمية الاولى، عندما تقاسمت القوى الامبريالية المتناحرة غنائم الامبراطورية المهزومة.

هذه المنطقة من الشرق الاوسط ليست أقل من غيرها في كونها مهدا للحضارات القديمة جدا. تعاقب فيها عدة دول من أول الدول في تاريخ البشرية. في القرن السادس عشر عندما كانت الدولة العثمانية في أوجها قامت بدمج العراق في اراضيها. أرض العراق الحالية هي تقاطع لثلاثة اقاليم متمايزة عن هذه الامبراطورية. في الجنوب اقليم البصرة يقطنه العرب المسلمون ذوو الولاء الشيعي، ينحدر جزء منهم من الشعوب القادمة من فارس. في المركز اقليم بغداد، حيث كان مأهولا بشكل رئيسي بشعب عربي، ولكنه منقسم بين السنة والشيعة. وفي الشمال اقليم الموصل بأغلبيته الكردية.

في القرن التاسع عشر، وقد بلغت الامبراطورية العثمانية مرحلة أفولها، اصبحت فريسة للبورجوازيات الأوربية الصاعدة التي ستبدأ بتفتيت هذه المنطقة التي وحدتها.

كانت بريطانيا العظمى أول قوة غربية استثمرت الاقتصاد العثماني بشكل عام، والعراقي بوجه خاص. كانت، بشرائها لولاء عدة فئات اقطاعية قائمة على طول جوانب الخليج الفارسي، وشبه الجزيرة العربية، من أعطت الولادة في نهاية القرن التاسع عشر لسلسلة من "حكومات"- هي في الواقع مستعمرات حقيقية.

انها حكومات وصاية ساحلية سوف تنتهي بتوليد حكومات مصغرة مصطنعة نسميها اليوم بشكل جماعي "الامارات العربية"- حكومات تمكنت من التسيد عليها فئات اقطاعية بلا معنى ، أولا بفضل حماية الامبريالية الانكليزية، ثم بفضل الدولارات التي ربحتها وهي تقوم بحماية أرباح تروستات1 البترول.

تستحق حالة واحدة من هذه الدويلات وهي الكويت ذكرا خاصا، اذ أن دمجها الاقليمي استخدم كحجة لحرب الخليج في 1991. في القرن التاسع عشر، لم تكن الكويت الا مرفأ صيد صغير في عمق الخليج الفارسي، في اقليم البصرة العثماني، ولكنها تشغل وحدها موقع من الشاطيء الساحلي يسمح ببناء ميناء لبواخر أعالي البحار. نجحت بريطانيا العظمى باحتكار استعماله في ان تكسب ثقة الفئة الاقطاعية المحلية آل الصباح. في 1899 وقع اتفاق بتحويل المنطقة المحيطة بالكويت الى حكومة وصاية انكليزية اعترفت لندن بسيادة هذه الفئة الاقطاعية المحلية عليها. بعد ثمانية أعوام، ورغم الاحتجاجات العاجزة للامبراطورية العثمانية، كان لا بد في هذا الميناء من بناء أول قاعدة عسكرية غربية دائمة في الشرق الأوسط.

لم يبق الانكليز لوقت طويل لوحدهم في المنطقة. منذ منتصف القرن التاسع عشر، نجحت البنوك الفرنسية تدريجيا في الاستيلاء على اموال الامبراطورية العثمانية. حوالي عام 1870 سيطر بنك الاتحاد الباريسي على البنك الامبريالي العثماني الذي كان يستخدم البنك المركزي في الامبراطورية.

ومع ذلك، ففي عام 1887 ، ومن أجل زعزعة سطوة المالية العليا الفرنسية، اتجه السلطان العثماني نحو البنوك الألمانية، من أجل الحصول على الأسس اللازمة لبناء الخط الحديدي اسطنبول- أنقرة- بغداد- البصرة. وقد أطلق هذا المشروع تناحرات ملحمية بين القوى الكبرى المتصارعة. لقد توجب على فرنسا، وبريطانيا العظمى، و ألمانيا ، وروسيا الامبراطورية، أكثر من عشرين سنة من التذرعات ومن الأعمال الخبيثة من أجل التوصل الى اتفاق. وقد يتوزعوا فيما بينهم، وعلى نحو متهكم، كل مصادر الأرباح التي يمكن للامبراطورية العثمانية أن تقدمها لهم.

العنصر الجديد الحارق أعلن عن ظهوره خلال ذلك هو البترول المكتشف منذ عام 1870 قرب مدينة الموصل. طالما أن استعماله التجاري ينحصر في الاضاءة فان هذا الامر لم يهم أحد، ولكن في 1901 قرر مركز القيادة البحرية أن مسقبل أسطوله يستلزم قريبا استبدال الفحم الحجري بالمازوت.

ومذاك صارت السيطرة على الانتاج والاحتياط البتروليين لعبة استراتيجية حيوية بالنسبة للامبرياليات المتناحرة في المنطقة، وكان يجب أن تكون كذلك أكثر فأكثر بالتالي. أما مسألة الخط الحديدي، فقد اتخذت أهمية أخرى، خاصة وأن ألمانيا تطلبت استبعاد الحقوق على المعادن وبالتالي البترول على طول الخطوط التي مولت بناءها- وهذا أمر لم تقبله فرنسا حتما ولا بريطانيا العظمى.

عشية الحرب العالمية الأولى، كان هناك اتفاق أخيرا على مسألة الخط الحديدي الشهير، أجبرت ألمانيا من خلاله على التخلي عن السيطرة على ثلثيه وعن حقوقها بالمعادن، التي كانت تطالب بها، مقابل مشاركة بسيطة وقليلة في الاستغلال المستقبلي لبترول الموصل.

تفتيت الامبراطورية العثمانية

ولكن الحرب العالمية جردت كل هذه التتجيرات من قيمتها. أولا وبشكل حيادي انتهت الامبراطورية العثمانية بالالتحاق بالمعسكر الألماني. بعد ثلاثة أيام من دخولها في الحرب، رست في الكويت هيئة ارسالية بريطانية قادمة من الجزر الهندية، لاحتلال الموقع البعيد قدر الامكان باتجاه بغداد والموصل. تبين أن الجهد كان أصعب من المتوقع. لقد توجب على الانكليز قسما آخر من الأفواج للوصول الى بغداد في 1917، ومن ثم احتلال الموصل بعد العفو العسكري بشأن الأفواج العثمانية.

خلال هذا الوقت، ومن أجل شل الأفواج العثمانية في غرب الشرق الأوسط، وبشكل خاص من أجل حماية مصر، فان البوليس السري البريطاني قام بتصعيد العملية التي ستعطى هوية المغامر الرومانتيكي الشهير "لورانس العربي"، باحثين بذلك عن انتفاضة عربية ضد العثمانيين. اعتمدت العملية على قوات حسين الامير الذي يسود الحجاز مسبقا أي المنطقة المحيطة بمكة في العربية السعودية اليوم. في المقابل وعدت بريطانيا حسين بالاتفاق مع فرنسا بدولة عربية كبرى مستقلة ما ان يتحقق الانتصار.

ولكن الديبلوماسيين الفرنسيين والانكليز، في الوقت ذاته، كانوا منهمكين بالتحضير، على نحو محموم، لفترة ما بعد الحرب، أي اعادة تقسيم الشرق الأوسط هذه المرة بدون ألمانيا. ما وصلوا اليه من اتفاق يدعى "خطة سايكس بيكو"، ويحمل اسم موقعيه، لم ينشر علانية طالما انه لم يكن من الممكن البوح بمحتواه. الا انه نشر فيما بعد من قبل البولشفيين الذين عثروا على نسخة منه بعد ثورة أكتوبر 1917.

هذه الخطة قسمت الشرق الأوسط الى اربعة أجزاء. الجزء المخول لفرنسا بأن تحتله، وهو يغطي لبنان وجزء من الجنوب الشرقي لتركيا الحالية، وقسم واقع تحت التأثير يشمل سوريا وشمال العراق الحالي. بريطانيا العظمى تسلمت الجزء الذي يشمل المنطقة الخصبة العراقية الممتدة من بغداد الى البصرة، وقسم واقع تحت التأثير يشمل ما تبقى من العراق والأردن اليوم. وفرض نظام وصاية مشترك على ما يعادل اليوم اسرائيل والأراضي المحتلة. لم تطرح على الاطلاق مسألة قيام بدولة عربية كبرى مستقلة موعودة للأمير حسين .

في النهاية حين الخروج من الحرب حصلت فرنسا على "انتداب" من شركة الأمم، سلف هيئة الأمم المتحدة، يغطي سوريا ولبنان، بينما حصلت بريطانيا على "انتداب" على الأراضي التي تتطابق الآن مع العراق والأردن واسرائيل والأراضي المحتلة ومصر. صيغة "الانتداب" لم تكن الا لاخفاء الوضع الاستعماري. ان ما يسمى ب "المجتمع الدولي" كان يخدم هكذا بأن يكون غطاء للابتزازات الامبريالية- مما يبرهن على أن بوش الابن والأب لم يخترعوا شيئا في الواقع.

من جهة أخرى، وبمثابة تعويض عن خسارة منطقة الموصل، التي خولتها مبدئيا خطة سايكس بيكو، فان فرنسا خولت لنفسها الجزء الألماني من الحملة البترولية المستغلة لبترول الموصل، أي 25 % من رأس المال. من هذه ال 25 % كان يجب أن تتولد بعد عدد من السنين (الشركة الفرنسية للبترول)، السلف الأول لتوتال TOTAL ثم توتال فينا الفTOTAL FINA ELF .

في هذه التسوية، فان الشريك الرئيسي للمعسكر الحليف، أي الولايات المتحدة قد ترك جانبا. ولكن عشرات السنين التالية سوف تشهد بالتدخل المتنامي للرأسمال الأميركي في المنطقة قبل أن تشرع الحرب العالمية الثانية باختزالها النهائي لدور الامبرياليات الأوروبية.

الضحية الرئيسية لهذه التسوية هي العالم العربي. الروابط التاريخية التي توحده، والتي بقيت خلال السيطرة العثمانية، كان يمكنها أن تزود أسسا لوحدة عربية مستقلة. حتى لو قامت على قاعدة بوروجوازية، كان يمكن لمثل هذه الوحدة أن تحقق التقدم. على وجه الأخص كان يمكنها أن تكون بالوضع الأفضل الذي يمكنها من معاكسة النهب الذي تقوم به القوى الامبريالية. من أجل هذا كانت المصلحة المشتركة للامبريالية، فيما وراء الصراع بين الفاعلين المتعارضين، هي القيام ببلقنة المنطقة من أجل اضعافها.

من الاحتلال الانكليزي الى الوضع تحت الوصاية

خلال هذا الوقت، في اليوم التالي للحرب العالمية الأولى، كان الشرق الأوسط برمته مندفعا في موجة من الاضطراب الوطني.

بدأت الحركة في مصر في 1919 بالاضرابات والمظاهرات من أجل الاستقلال، ثم انتشرت في سوريا، من أجل أن تبلغ ذروتها في العام التالي، في سوريا والعراق معا، معبرة بذلك عن طموح الشعوب للتخلص مرة واحدة من وصاية القوى العظمى.

في العراق كان الاحتلال البريطاني يغذي الحركة. معارضة عنيفة كانت تعبر عن نفسها ضد الادارة البريطانية، حيث كان ممثليها من النتاجات الصافية للادارة الهندية الاستعمارية بعجرفتها المشبعة بالعنصرية. ولكن بغداد لم تكن كالكوتا. كما في كل المدن العربية الكبيرة، فاننا نجد بورجوازية غنية ممولة وتجارية، كما نجد بورجوازية صغيرة متعددة نسبيا، لم تعتد هذا النوع من التعامل تحت السيطرة العثمانية. عندما وعت هذه البورجوازية، أن الوعد بدولة عربية مستقلة لم يكن الا بارقة، وأن الاحتلال البريطاني سيستمر، انفجرت هياجات شعبية عنيفة في كل أنحاء العراق. كان يلزم الجيش الريطاني أكثر من ثلاثة أشهر ليحطم هذا التمرد، دون التحدث بالطبع عن حملات العقاب التي ستستمر حتى منتصف عام 1921.

في لندن بدت التكلفة المالية والسياسية لهذا التمرد باهظة جدا. لقد كان من الصعب تبرير موت بضع مئات من الجنود البريطانيين في المعركة أمام الرأي الانكليزي وذلك بعد سنتين من انتهاء الحرب العالمية. لقد استنتج مدير الادارة الهندية الاستعمارية بسخرية تامة ما يلي : "ما يجب اعداده هو ادارة تقوم على مؤسسات عربية، نستطيع ان نتركها القيام بالعمل بأكمله، وأن نكون متأكدين بأنه يمكننا تحريك خيوطها ، نظام لن يكلفنا الكثير، ويمكن للحزب العمالي أن يبتلعه دون أن يخون مبادئه، ولكنه يضمن مصالحنا الاقتصادية والسياسية في الآن معا."

ولكن في العراق لم تكن الامبريالية الانكليزية مجهزة، كما في عدد لا بأس به من مستعمراتها الأقدم، بهيئة سياسية لموظفين من السكان الأصليين للبلد يشكله الجهاز الاستعماري. بسبب هذا النقص، فان لندن اتجهت نحو أحد حلفائها في الحرب. لقد كان فيصل أحد أولاد الأمير حسين من وعدته ذات يوم "بمملكة عربية كبرى". هذا الفيصل الذي كان قد طرد لتوه من سوريا من قبل الأفواج الفرنسية، بعد أن حاول اعلان دولة عربية مستقلة، استقبل في بغداد في آب 1921 ، وأعلن حاكما على العراق. اعتاد الانكليز على مثل هذه التعيينات، اذ أنه قبل عدة أشهر قاموا بخلق عرش الضفة الشرقية ليضعوا عليه، عبدالله ، واحدا من أخوة فيصل، مشيدين بذلك السلالة التي ما زالت تحكم حتى الآن في الأردن.

في العام التالي في 1922 ، صاغت معاهدة أنجلو-عراقية محتوى "انتداب" بريطانيا العظمى في العراق. ظلت سياسة العراق الخارجية وماليته بين أيدي الانكليز. حماية المصالح الانكليزية في العراق كان يجب أن تؤمنها فرق ر.أ.ف. والجيوش البريطانية المقيمة بشكل دائم، والميليشيات الاضافية الموظفة من بين الأقلية المسيحية الآشورية- مما، بالتالي،كان من شأنه أن يكلف هذه الأقلية أن تكون موضوعا مستهدفا للمجازر. التزمت بريطانيا العظمى بخلق جيش عراقي، ولكنها احتفظت بالوصاية عليه. في النهاية التزم العراق ليس بالانفاق على الحفاظ على البريطانيين ومعداتهم فقط، ولكن أيضا، على أن تخول الاعمال التنفيذية الكبرى الى المنشآت البريطانية. فوق ذلك يجب على الدولة العراقية أن تعوض جزء من الديون المترتبة للبنوك الفرانكو-انجليزية من الامبراطورية العثمانية !

بقي تعريف الحدود الدقيقة للدولة الجديدة، وقد تم ذلك في يوم من عام 1922

حيث سطرت الحدود على الخريطة بلمسات قليلة من المسطرة في عدة ساعات، بغض النظر عن الأراضي التقليدية الخاصة بالقبائل البدوية الرحل للعربية وعن الجغرافيا.

حصل الانكليز، من ملك الجزيرة العربية ابن سعود، في الوقت نفسه، على الاعتراف بالوصايات الانكليزية على "الامارات العربية". أكثر من ذلك ، فان مساحة الانتداب الانكليزي في الكويت قد توسعت، الى الحد الذي لم يعد هناك للعراق منها اربعين كيلومتر على طرف غير ثابت، يعد بمثابة مرور الى الخليج الفارسي. الميناء الأوحد في أعالي البحار تواجد مدفوعا نحو البصرة ، على بعد 150 كم من داخل الأراضي في نهاية شط العرب، قناة ضيقة مهددة دائما بالانسداد بسبب طمي الأنهار التي تصب فيها، وكان يجب على العراق، زيادة على ذلك، أن يتقاسم مع بلاد فارس - ما سيكون مصدر صراعات كثيرة بين البلدين بالتالي.

الأكراد ضحايا التسوية السياسية والمصالح البترولية

مع ذلك ، تركت اتفاقات1922 ، مسألة تعيين الحدود في شمال العراق في وضع معلق. هذه المسألة الأكثر مشقة من بين المسائل. فمن جهة، اعتمد تعيين الحدود على التحكم بالحوض المائي البترولي للموصل، ومن جهة أخرى، اصطدمت تسوية هذه المسألة بالمطالب الوطنية وحالة التعبئة للشعب الكردي.

بدأت هذه التعبئة باكرا . شجعتها الهزيمة التركية، والفوضى السياسية السائدة في فارس، وقد ردت الأفواج البريطانية ببدائية. وينستون تشرشل وزير المستعمرات أوصى بنفسه آنذاك- بأن تقوم القوة الجوية الملكية ، جيش الجو البريطاني، باستعمال الغاز "الخردل" MOUTARDE ضد العصاة- مما يبرهن على أن أول من استعمل "أسلحة الدمار الشامل"، التي يضرب بها بوش آذاننا اليوم، كانت القوى الامبريالية قد فعلته من قبل، ولم يوفروا أحد!

في فسيفساء الشعوب، التي عانت من سيطرة الامبراطورية العثمانية لوقت طويل، كان الشعب الكردي، بلا شك، واحدا من أكثر ممن انتظروا تفتتها. في 1920 ، كانت قد اقترحت حتى معاهدة سيفر تشكيل دولة كردية مستقلة في نفس الوقت الذي تنهار فيه تركيا. الا أن هذه المعاهدة ضد تركيا أحدثت في البلد مدا وطنيا عارما تحت ادارة مصطفى كمال الذي هششها، الا انه فجأة لم يعد هناك دولة كردية.

في العراق، قادت الأفواج البريطانية، من جهتها، حربا دامية ضد الأكراد، استمرت لأكثر من عامين. أكثر من مرة، لعبت قاصفات القوة الجوية الملكية دورا مركزيا بتدميرهم على نحو منتظم، القرى ومعسكرات الجبال، حيث وجد أشباه السادة الأكراد ملاجيء لهم، وحتى في كانون الأول 1924 ، دمرت المدينة الكردية الكبرى السليمانية نفسها.

أن كانت بريطانيا العظمى قد عقدت العزم على الحفاظ على سيطرتها على هذا الجزء من كردستان، فلأن مصطفى كمال طالب بالحاقه بتركيا من أجل حيازة بترول الموصل. في 1925 ، بتت هيئة الأمم بالمسألة بأن يبقى بترول الموصل تحت السيطرة البريطانية، ولكن فجأة ازداد وضع الشعب الكردي خطورة، فبدل أن ينقسم الى اثنين، على ما يبدو بين الامبراطورية العثمانية وفارس وجد نفسه منذ الآن فصاعدا متشرذما بين أربعة دول- تركيا وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، والعراق تحت الانتداب الانكليزي وايران !

من جهة أخرى، فان ضم هذا الجزء من كردستان خلق في شمال العراق مخزن بارود يشمل خمس السكان، وانفجاري على الأغلب، بحيث أن العراق لم يمنح للكرد فعلا أي حق ديموقراطي أو ثقافي أو لغوي مما وعدهم بها.

حملة الامبريالية الأميريكية

ان قرار هيئة الأمم التحكمي لصالح بريطانيا العظمى، فيما يخص كردستان وبترول الموصل، يدين بالكثير لدعم الولايات المتحدة. كان هناك بديهيا رأي معاكس، رأيناه منذ العام التالي، مع دخول اتحاد الشركات الأميركي الأول في رأسمال التعاونية البترولية العراقية، أو ا.ب.س. الشركة البترولية الجديدة العراقية، بحيث أنه في 1929 ا.ب.س. التي كان لها حق احتكار البترول العراقي كانت تحت سيطرة أسلاف ب.ب. وشل واكسون وموبيل و س.ي.ب-توتال. اضافة الى ذلك فان حوض بترولي جديد غني على نحو معتبر، تم اكتشافه في كركوك، الواقعة دائما في كردستان العراقية. ان المساحة المتنازل عنها، التي تتحكم بها ا.ب.س. ، تجاوزت ال 500 كم الى 90000 كم.

صارت الشركات البترولية الأميريكية هجومية في كل الشرق الأوسط، وفي كل مرة كانت بريطانيا مضطرة للتنازلات.

الا أن ضربة المعلم الحقيقية للامبريالية الأميريكية أخذت مكانها في الجزيرة العربية السعودية. فهذه الأخيرة اخذت شكلها الحديث في 1926 ، بعد أن ضمت الحجاز، وبعد أن تبنت اسم العربية السعودية في 1932. لها خصوصية فريدة في المنطقة، هي كونها تشكلت بمعزل عن الاستعمار الانكليزي، حتى أنها وضممن مقياس أكبر، ضد هذا الاستعمار، مما سمح لاتحاد الشركات الأميريكي سوكال ، سلف شيفرون، أن يحوز احتكار البترول السعودي رغما عن أنف الشركات الانكليزية في 1933. بعد ثلاث سنوات، أسس سلف شيفرون، اكسون، موبيل، وتكساكو شركة جديدة هي آرامكو من أجل استغلال 3،1 مليون كم من التنازلات المخولة من قبل النظام السعودي، والتي ستظهر احتواءها لأكبر احتياطي بترولي في الكرة الأرضية.

في 1929 ، قررت بريطانيا العظمى ان تمنح العراق استقلاله الشكلي. كان هذا اعتبارا من دخوله الى هيئة الأمم المتوقع في 1932 ، لكن في الحقيقة، لم يغير الاستقلال العراقي شيئا من وضعية اعتماده ازاء الامبريالية، معطيا فقط للولايات المتحدة حق التصرف بحرية أكبر مقارنة مع بريطانيا العظمى. عدلت الاتفاقية الأنجلو_عراقية لعام 1930 ، من المظاهر أكثر من محتوى العلاقات بين العراق وهذه الأخيرة. صارت حكومة بغداد وحدها المسؤولة عن سياستها المالية والخارجية، ولكن قواعد ر.أ.ف. البريطانية بقيت في مكانها مع كل موظفيها بحجة " الحفاظ على الاتصالات داخل الامبراطورية"، كما أعلنت لندن. ان عمل الحكومة الأخير تحت الوصاية البريطانية، أتاح تذوق ما سيكون عليه الاستقلال في توسيع حقوق استغلال ا.ب.س. لمجموع الأرض الوطنية.

هكذا اذا بدأ العراق وجوده كدولة مستقلة، بصفته طريدة محروسة لشركة بترولية انجلو-فرانكو-أميريكية، وتحت الرقابة اليقظة للقاصفات الانجليزية.

تعبئة الجموع الفقيرة

ولكن منذ سنوات 1930 ، كان هناك حركة تمرد جديدة ضد القمع الامبريالي في الشرق الأوسط، كما كانت عليه الحالة في سوريا، حيث شهدت البلد في 1936 ، اضرابا عاما استمر 50 يوما، وايضا في فلسطين وفي العراق. ان الفوران السياسي تطور على مستوى العالم العربي برمته، بما فيه المغرب المحكوم بالاستعمار الفرنسي آنذاك. لقد كان مدموغا بفوران جموع الفقراء في الحلبة السياسية. كانت المدن الكبيرة بوتقة هذا الغليان. هذه المدن الهامة نسبيا والقديمة في الشرق الأوسط، حيث تتعايش مع بعضها البعض بورجوازية غنية، ولكن أيضا بورجوازية صغيرة مثقفة نهمة لجديد الأفكار، وطبقة عمالية ما زالت ضئيلة نسبيا بلا شك، الا أن لها تنظيماتها الخاصة بها مسبقا.

لقد ظهرت النقابات الأولى في العراق في نهاية الأعوام 1920 ، في أوساط الحرفيين وعمال البيوت بشكل رئيسي، ولكن أيضا بين عمال السكك الحديدية ، وذلك بمبادرة من الوطنيين. ان هذه النقابات كانت الأصل لعدة اضرابات هامة بين عامي 1931 و 1934 ضد اجراءات رفع قيمة الضرائب، أو من أجل فرض تخفيض على التسعيرات الحظرية التي يمارسها الملاك الانكليز من شركة كهرباء بغداد.

انبثقت معارضة سياسية جديدة مختلفة جدا عن جماعات المعارضة الوطنيين التقليديين. برز حزب "أهالي"، أو حزب "الشعب"، الذي أسسته جماعة من الطلاب العراقيين من الجامعة الأميريكية في بيروت في نهاية عام 1920 ، على رأس الحركات الاجتماعية الكبرى لعامي 1935-1936 .

بدأ كل شيء في آذار 1935 ، في جنوب البلد، عندما تمت تعبئة الفلاحين الفقراء. للمرة الأولى شوهدت في العراق مظاهرات الفلاحين من أجل الاستصلاح الزراعي والديموقرطية البلدية. الا أن هذه الحركة وقد قمعـ بالدم لم تكن الا توطئة.

في أوكتوبر 1936 ، كان في بغداد انقلاب دولة عسكري ضد ملكي، خطط له حكمت سليمان، عدة وزراء منحدرون من ادارة حزب الأهالي مقبولون في الحكومة. بعد مضي أسبوع سار أكثر من 100000 متظاهر وراء الرايات الصغيرة، مطالبين بخبز من أجل الجائعين، أو منددين بالفاشية. تطورت حركات الاضراب بين عمال الأحواض، عمال السكك الحديدية، عمال البترول، ..الخ. انخرط العمال في النقابات الجديدة التي تم انشاءها.

بحثت السلطة الجديدة أولا عن دعامة لها في هذه التعبئة باستعمالها لغة اشتراكية، الا أن الجيش لم يكن جاهزا الى الحد الذى يمكنه فيه أن يمضي فيه بعيدا على طريق الاصلاحات. ذكر الملاك العقاريون بالتدرج الهرمي العسكري عندما بدأت تنشر اقتراحات الاستصلاح الزراعي. وبعد قليل صار الجنرال حكمت سليمان ضد القوى السياسية التي ساندته.

كان هناك حركات اضراب قوية حاولت الرد على تصاعد موجة القمع. ولكن فات الأوان. لم تحضر الجماعات الفقيرة لتواجه التغير المفاجيء للجيش. لقد أخذت على حين غفلة دون أن تتزود بوسائل المعركة، في المقابل، وفي هذه المناسبة، فان الجيش برهن للبورجوازية العراقية كما للامبريالية على مقدرته على تحمل المسؤولية السياسية، وبما فيها أن يواجه تعبئة شعبية من شأنها أن تهدد اصحاب الامتيازات. ولم تكن هذه المرة الأخيرة.

الحزب الشيوعي العراقي وهزة ما بعد الحرب

كل هذه التناقضات السياسية والاجتماعية سوف تتطور وتصبح أكثر حدة بالتالي، وخاصة في الفترة التالية لما بعد الحرب العالمية الثانية.

تميزت هذه الفترة في تاريخ الشرق الأوسط بفك الالتزامات المتنامية للقوى الاستعمارية الهرمة. منذ الآن فصاعدا، سوف يكون ضغط الولايات المتحدة، القوة الامبريالية السائدة، ذو وزن. ولكن في لبنان وسوريا، أجبرت تعبئة الشعب فرنسا على حزم حقيبتها. لقد ولدت الفوضى، التي خلقتها الحرب في نظام السيطرة الامبريالية، حركات سياسية واجتماعية ذات اتساع هائل، خاصة في مصر وسوريا والعراق. للمرة الأولى ، في بلدان عديدة، سوف تلعب الأحزاب الشيوعية دورا رئيسيا هاما.

من جهته، نجح الحزب الشيوعي العراقي باكتساب انشاء عمالي خلال أحداث 1935-37 ، وعرف كيف يحافظ عليها رغم القمع الذي تتابع. وقد تمكن خلال الحرب من تدعيم هذه القاعدة الى حد ظهورها كحزب معارضة أساسي، بينما كان النظام مكروها من الجموع الشعبية التي جرت الحرب ويلاتها ووبائها على شروط حياتها.

سوف يظهر الاضطراب الذي تميزت به أعوام 1946-48 ، كل الأهمية التي اتخذها الحزب الشيوعي العراقي. أتت الموجة الأولى في أيار 1946 ، مع سلسلة من المظاهرات المطالبة برحيل الأفواج العسكرية البريطانية، التي أقامت هنا أثناء الحرب. في أول تموز، بدأ عمال البترول في كركوك اضرابهم. انتشرت حركتهم بسرعة كبيرة . في أثناء هذا الوقت انتفض الشعب في كردستان بمساعدة الأسلحة التي زودها لهم الاتحاد السوفييتي. أعلنت السلطة العسكرية في بغداد حالة الطواريء، مطلقة بذلك قمعا وحشيا تتابع طيلة عام 1947.

ثم في كانون الثاني 1948 ، تم توقيع بغداد لاتفاق ميناء-سموث مع بريطانيا العظمى. ولم يكن من شأنه الا تمديد معاهدة 1930 ، التي جعلت من العراق المستقل شكليا تابعا للندن. لقد أشعل هذا الاتفاق النار في البارود.

في البدء، كان هناك اضراب ومظاهرات في الجامعات لمدة اسبوعين، ثم في 20 كانون الثاني 1948، أطلق البوليس النار على مظاهرة طلاب كبيرة كان قد التحق بها العديد من العمال. كان هناك العديد من الموتى. وابتداء من ذاك اليوم، تصعدت التعبئة كل يوم، منتشرة بذلك في كل أرجاء البلد. في نهاية أسبوع واحد على هذه الموجة الصاعدة، قام الجيش باطلاق النيران الرشاشة على مظاهرة وكان الكلام عن 300 الى 400 ميت.

بعد حمام الدم هذا، وبتحريض من لندن، استقالت الحكومة، وألغي اتفاق بورت سموث . هذا لم يمنع الحكومة من اللجوء الى القمع مجددا لتنسي فشلها في مواجهة الاضرابات. كان الحزب الشيوعي العراقي أول من دفع الثمن، خاصة بالشنق الذي قام به النظام على مرأى العموم لثلاثة من موجهيه الرئيسيين في شباط 1949.

رغم ذلك، فان تصاعد حركة الجموع على مستوى الشرق الأوسط كله لم يكن بعد الا في بدايته. بدأت حركات التحرير بهز مجموع الشعوب في العالم الثالث، ولكن في الشرق الأوسط ، في سوريا، وفي لبنان، وفي مصر، وفي العراق، كان هناك أيضا، جيلا عماليا بأكمله قد استيقظ على الصراع الطبقي، وقام سريعا بمراكمة التجربة. وجد العديد من مناضليه أنفسهم في الأحزاب الشيوعية، حيث أدركوا من خلالها امكانية تحرير ليست وطنية فحسب وانما اجتماعية.

الا أن سياسة الأحزاب الشيوعية العربية كانت أبعد من أن تكون على مستوى

هذه الآمال. بالتطابق مع سياسة الاتحاد السوفييتي، البعيدة عن أن تكون ثورية،

فان سياسة الأحزاب الشيوعية اختصرت الى كونها تابعة، ازاء مختلف الحركات الوطنية البورجوازية. في سياق الشرق الأوسط، سوف تتكشف هذه السياسة عن انتحار حقيقي للأحزاب الشيوعية، وعن كارثة للجموع الشعبية، التي بدأت باعطاء ثقتها لها.

وهكذا من بين كل هذه الحركات، في غداة الحرب العالمية الثانية، فان الحزب الشيوعي العراقي اتبع السياسة المرسومة مسبقا من موسكو المتحدة، وبأي ثمن، مع كل الأحزاب الوطنية العراقية. لم يقترح في أي لحظة على الجموع الفقيرة سياسة مستقلة. ان الأهداف التي وضعها منذ البداية ، كما على سبيل المثال تلك المتعلقة " بحكومة وطنية ديموقراطية" وضعت جموع الفقراء في مقطورة البورجوازية الوطنية، لا وبل في مقطورة بورجوازية الجنرالات الضد ملكيين.

من الحرب الباردة الى سقوط الملكية

تميزت السنوات 1950، سنوات الحرب الباردة، بالتدخل الأكثر انفتاحا والأكثر وحشية للامبريالية الأميريكية في الشرق الأوسط. كان هناك أولا المساعدة التي قدمها ال س.آي. أ C.I.A من أجل الانقلاب العسكري، الذي أطاح برئيس الوزراء الليبرالي الايراني موساديخ في 1953 ، لكونه تجرأ على الادعاء بتأميم ممتلكات التروستات البترولية في ايران. ثم في 1958 ، شوهدت ارسالية أميريكية وهي تتدخل في لبنان من أجل انقاذ سلطة البورجوازية المارونية من عصيان شعبي.

ولكن هذه السنوات تميزت أيضا بانطلاق القومية العربية، بمعنى القومية الخاصة بكل العالم العربي، وليس فقط بالبلد التي شكلتها. من المغرب والجزائر الرازحتين تحت الاستعمار الفرنسي، الى العراق، مرورا بمصر، توافق هذا بين الجموع مع درجة من الوعي لقمع مشترك مارسته الامبرياليات المختلفة. على المستوى السياسي اتخذ الشكل المدعو "جامعة العروبة" شكل تيار وطني يهدف الى خلق دولة عربية موحدة متجسدة بواسطة عدد من مختلف المنظمات والسياسيين.

بين هؤلاء الأخيرين، فان الأكثر هيبة كان القائد المصري ناصر، الذي سيبين حدود جامعة العروبة، عندما يبحث عن استعمالها كخميرة قطعية في خدمة سياسته القومية.

الا أن منظور الجامعة العربية ألهم أيضا جيلا من المناضلين بأكمله على امتداد الشرق الأوسط.

ومع ذلك، ازاء هؤلاء المناضلين، بقيت الأحزاب الشيوعية سجينة اصطفافها في الميول الوطنية، بما فيها المعنى الأكثر ضيقا لهذا المصطلح. وليس هذا بالمفاجيء. اذ أنه ومن أجل اعادة الأخذ بعين الاعتبار المشاعر الموجودة على مستوى العالم العربي بوحدة مصالح الجموع الفقيرة، كان لا بد من أن يكونوا مستعدون للدفاع، حتى النهاية، عن المطالب الاجتماعية والسياسية للكتل الشعبية والطبقة العاملة. كان لا بد لهذا من أن يستلزم الهجوم أيضا على الطبقات المحلية ذات الامتيازات. ولكن الاتكاء على الكتل الشعبية المتمردة، ضمن هذا المنظور، كان متضادا مع سياسة الرؤساء الوطنيين، ومع ان هذا المنظور كان موجودا ، حتى أنه كان الوحيد، الذي يمكنه أن يسحب وراءه ويوحد، فيما وراء الحدود المصطنعة، الطبقة العمالية والفلاحية في المنطقة ، ولكن المسألة أنه لم يكن هناك أية قوة سياسية ذات معنى لتجسد مثل هذا المنظور.

كي نعود الى العراق، فان البلد عاش خلال عقد كامل، وحتى نهاية الخمسينات، تحت وطأة ديكتاتورية وحشية ومعادية للشيوعية وفي خدمة الامبريالية. لقد قارن صحفي انكليزي آنذاك النظام السياسي العراقي ب "لعبة ورق حظ محتوية على النخبة المتصرفة بكراسي مجلس الشيوخ، وبدوائر مزيفة، تسمح لها بأن تكون حاضرة في مجلس النواب السفلي، وفي غرف التجارة الأميريكية، من أجل دفع فواتيرها- لعبة ورق حظ ناقصة مع ذلك، لا ملك فيها ولا ملكات ولكن عدد لا يحصى من الخدم".

في تموز 1952 ، تعرض انقلاب "الضباط الأحرار" المصريين، الذي كان يجب أن يقود ناصر الى السلطة، للارتداد الفوري في العراق. تدفقت الشبيبة في الشوارع، مطالبة باصلاحات ديموقراطية . تفجرت الاضرابات . كان هناك مئات الموتى وآلاف الاعتقالات ، الا أن هذا لم يمنع المظاهرات الجديدة في العام التالي، وهذه المرة ضد دور ال C.I.A. في قلب الموسديق في ايران. صعد النظام العراقي حينئذ من القمع، ولكن هذا لم يكن الا هروب مستبق سيقوده الى ضياعه لا محالة.

في 1995 ، التحق النظام العراقي بحلف بغداد. ذاك التحالف الذي تكتلت فيه اضافة الى العراق، ايران، وتركيا، وباكستان، وبريطانيا العظمى . وقد كان يهدف الى ضمانة الحماية العسكرية للمصالح البترولية للامبريالية في الشرق الأوسط، ضد الاتحاد السوفييتي بلا شك، ولكن أيضا وبشكل خاص، ضد شعوب المنطقة، بحيث أنه ساد الشعور لدى العديد من صفوف الجيش العراقي، ولدى الشعب بأكمله، بأن هذا الحلف هو بمثابة المزيد من الاذلال.

زيادة على ذلك، فقد تزامن هذا الاذلال مع سياسة ناصر، التي كانت تعلم أكثر فأكثر الشرق الأوسط . بعد الحصول من بريطانيا العظمى على وعد بسحب أفواجها من مصر، كان يبدو واضحا الالتزام بطريق العروبة ضمن المشروع، الذي كان يجب أن يفضي الى تشكيل الجمهورية العربية المتحدة مع سوريا، التي دامت فعلا فترة قصيرة. شارك ناصر من ناحية أخرى، بمؤتمر البلدان الغير منحازة. في 1995 أعلنت بعض البلدان الفقيرة رفضهم الالتحاق بواحد من معسكري الحرب الباردة. هذا الاعلان الذي ولد الحماسة في كل أوساط المعارضة العراقية وحتى بين صفوف الجيش العراقي نفسه. لقد ساهم بالطبع تأميم قناة السويس في 1956 ، في الاعلاء من شأن الناصرية ، خاصة بعد أن أجبرت القوى الموفدة من فرنسا وبريطانيا العظمى واسرائيل على التقهقر وهم في حالة يرثى لها.

كان، وضمن هذا السياق، ولنأخذ مجددا المثال الناصري، بأن تشكل تنظيما سريا مكونا من "الضباط الأحرار" في الجبش العراقي. في 13 تموز 1958، قام بتنظيم انقلاب على الدولة لم تواجهه أية مقاومة. أعدمت العائلة الملكية، وفي صبيحة اليوم التالي، دخل الجنرال قاسم العاصمة، وقد استقبل فيها كبطل، بعد الظهيرة، قام بالتصريح على الراديو بمطالبته بالجمهورية، ومؤكدا أن شؤون بلده يجب أن تكون منذ الآن فصاعدا "مأخوذة باليد من قبل حكومة منبثقة عن الشعب ومعبرة عن آماله".

الملكية الهاشمية، التي أرستها الامبريالية البريطانية على رأس السلطة في العراق قد عاشت اذا، ولكن بما أن هذا قد حدث في 1936 ، فان جموع الفقراء التي أيدت النظام الجديد سوف تتجرد مما اعتبرته سلفا انتصارها الخاص.

"الثورة" في 1958

ان جماعة الضباط من المراتب العليا من قاموا بصنع ثورة 1958 . لم تكن أفكارهم جذرية على المستوى السياسي، ولا المستوى الاجتماعي، وكان أفقهم محصورا ضمن مساحة ضيقة من الوطنية العراقية. كانت التدابير الأولى لجمهورية العسكريين عبارة عن الغاء بقايا النظام القديم، والغاء التساوي بين العملة العراقية والجنيه الانكليزي، واقامة علاقات ديبلوماسية مع الصين والاتحاد السوفييتي وبلاد شرق أوروبا، بالمختصر نقض حلف بغداد، هذا النقض الذي استكمل في العام التالي برحيل آخر التقنيين الانكليز من القواعد العراقية.

مع ذلك، وفيما وراء نوايا العسكريين، فان انقلاب الدولة، الذي قام بم به قاسم، فتح الأبواب على انفجار سياسي وثقافي حقيقي. لقد تعددت المنشورات، ونوادي النقاش، والتنظيمات من كل الأنواع، بدون انتظار لأن تتخذ صفتها الشرعية. تدفق العمال في المنشآت، متجهين نحو النقابات القديمة السرية، أو نحو بنى جديدة، حيث لا وجود لهذه النقابات القديمة. بلغت الامور الحد الذي ضمت فيه النقابات 275000 عامل، بعد مضي أقل من عام على انقلاب الدولة، أي ما يعادل نصف الأيدي العاملة المأجورة أو المشابهة لذلك في البلد. مناضلو الحزب الشيوعي العراقي كانوا الأغلبية في أكثر المرات حيث بادروا وأنعشوا مختلف التنظيمات ، حيث تدفق عشرات الآلاف من العمال والشباب.

اتخذت الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المعلنة من قبل النظام نفس الصفة الخلاقة، وأحيانا الفوضوية بعض الشيء . لقد شوهد تنوعا لعدد لا يحصى من اللجان، التي كان لها وظيفة مفتوحة وديموقراطية، لم نرها من قبل أبدا. وهكذا مثلا كان الاصلاح الزراعي المطبق ابتداء من تشرين أول 1958 ناتجا عن هذه الندوات. ولم يطبق الا جزئيا بسبب الوقائع اللاحقة، ولكنه لم يحول جذريا شروط الحياة والعلاقات الاجتماعية في الأرياف.

مهما يكن، فان أحد المعالم المميزة من كل هذا الفوران السياسي كان تيارا كبيرا من التعاطف، استفاد منه الحزب الشيوعي، وأتاح له أن يتعرف على نمو لا سابق له.

بحث قاسم، ضمن حد معين، عن استخدام هذا الفوران السياسي. ففي نهاية تموز 1958 ، دعا الشبيبة الى تشكيل ميليشيا تدعى "المقاومة الشعبية" من أجل الدفاع عن النظام. على أرض الواقع، كان مناضلو الحزب الشيوعي العراقي من شكل الكوادر، ومن استخدمها كبنية تدريبية، من أجل منظمتهم الشبيبية. الا أن الميليشيات التزمت برد السلاح الى مركز البوليس بعد نهاية كل تدريب.

دعم الحزب الشيوعي العراقي الانتحاري لقاسم

رغم ذلك فان سلطة قاسم لم تكن بالأمر المسلم به في وسط الجيش، ولا حتى في اللجنة الحاكمة.2بسرعة كبيرة كان قد تطور انقسام ما بين صفوف السلطة الجديدة حول قاسم من جهة، وبين شخصية من تنظيم "الضباط الأحرار"، الجنرال عارف، الذي كان يبحث عن تدبير دعائم بطرح نفسه كبطل االعروبة والانضواء تحت لواء الجمهورية العربية المتحدة. أما من جهة قاسم، فقد التفت نحو القوة الوحيدة التي لها معنى ، والتي وضعت نفسها، مثله، فوق أرض الوطنية العراقية، أي الحزب الشيوعي العراقي.

وهكذا اتخذ شكلا ما هذا النوع من "الاتحاد" الظرفي بين جنرال وطني عراقي لم يكن لديه أي ميل للشيوعية، وبين حزب شيوعي جاهز تماما لدعم اللجنة الحاكمة العسكرية ضمن اطار سياستها "الجبهة الوطنية" الهادفة الى "تعاون كل الطبقات والقوى الوطنية من أجل تحديث البلد". بحكم ردة الفعل، فان كل ما في البلد من قوى محافظة، حيث كانت كلمة "شيوعية" وحدها كفيلة بأن تجعلها تهتز ، التحقت دون احساس بالذنب بمعسكر الجنرال عارف.

في أيلول 1958 ، أعفى قاسم الجنرال عارف من كل مسؤولياته العسكرية. استبدل الرؤساء العروبيون، وبقي قاسم وحيدا في المشهد تحت هتافات المتظاهرين المنظمين لشرف انتصاره بواسطة الحزب الشيوعي العراقي .

مع ذلك فان قاسم تحسب من منح أدنى مسؤولية رسمية الى منظمي الحزب الشيوعي العراقي، الذين كان بمثابة حزب شرعي، والذي كان عليه أن ينتظر حتى كانون الثاني 1959 ، قبل أن يحصل على السماح الشرعي له بأن ينشر جريدته اليومية ! الا أن هذا لم يمنع الحزب الشيوعي من متابعة دعمه اللامشروط لقاسم، طالما أنه لم يكن جاهزا لطرح سياسة أخرى للجموع الفقيرة، التي كانت تتطلع الى توجهاته.

لقد انتهى قاسم بأن يعطي الكرسي المتحرك الوزاري الى أحد أعضاء القيادة في الحزب الشيوعي ، وكرسيين آخرين الى شخصيات كانت قريبة منه. الا أن هذه الهدية قنعت صفعة أكثر جدية حضر بواسطتها الضربة للحزب الشيوعي. اذ أنه وفي نفس الوقت، قلص وعلى نحو معتبر من دور ميليشيات "المقاومة الشعبية" ، أي التنظيم العسكري للحزب الشيوعي ، ساحبا بذلك الى الوراء الضباط المعروفين بتعاطفهم الشيوعي، وفيما تلى فان موجة اعتقالات ضربت مناضلي الحزب الشيوعي، بينما تجردت "المقاومة الشعبية" كليا من السلاح.

كان أن سمعنا في تلك المرحلة، للمرة الأولى، عن شخص يدعى صدام حسين بوصفه عضوا في مفرزة نظمها حزب عروبي صغير، البعث، من أجل قتل قاسم- دون نجاح.

شدد قاسم الضغط على الحزب الشيوعي. خلال عام 1960 ، فقد الحزب الشيوعي العراقي كل ما اكتسبه من مواقف، ومع ذلك، فان قيادته بكل ما التزمته من حذر خطابي، لم تقاطع قاسم علنا، ففي آذار 1961، أثناء موجة من الاضرابات المطالبة التي قام بها عمال التبغ، قام قاسم بالرد على المتظاهرين بواسطة اطلاق النار، موقعا بذلك عددا من الضحايا. في هذا اليوم، للمرة الأولى، تجرأ الحزب الشيوعي على نقد قاسم وسياسته القمعية ضد العمال. ولكن الأوان كان قد فات.

مذبحة الشيوعيين، 1963

أوشكت فترة حكم قاسم على نهايتها. تميز العامان الأخيران السابقان لانقلابه ببعض الايماءات المسرحية التي أعادت البريق لهيبته، محاولته مثلا أن يضم الكويت بعد حصول هذه الدولة على الاستقلال في 1961. قبل أي شيء، فان هذا لم يكن الا بمثابة العودة الى النظام الطبيعي للأشياء، ولكن البحرية البريطانية أرست قواها في الامارة وما كان من قاسم الا أن يتقهقر.

بعد مضي عدة أشهر، وبعد المفاوضات بلا سدى، من أجل الحصول من الشركة ا.ب.س. التي تزيد من انتاجها للبترول العراقي، قام قاسم بتحديد حقوق التنقيب والاستغلال لشركة ا.ب.س. في مساحات تمتلك فيها هذه الأخيرة آبار استغلال. كانت الشركات الغربية تشهد تلاشي آفاق هائلة من الأرباح، وهذا أدى الى فضيحة كبيرة في العواصم المعنية.

رغم هذه الايماءات الهادفة الى اعلاء صورته كرئيس "معادي للامبريالية"، فان قاسم لم يشأ ولا في أي حال أن يعتمد على الجموع، على العكس، بدأ في قمعهم. في النهاية ، في 1963، حدث انقلاب دولة عسكري على قاسم، اندلع آلاف من المتظاهرين في الشوارع، في محاولة يائسة لحماية النظام، مطالبين بالأسلحة التي رفض قاسم أن يعطيها لهم. ذبحت دبابات الجيش العديد منهم، وبينهم مناضلين ومتعاطفين مع الحزب الشيوعي ، بينما كانوا يحاولون أن يحموا بأجسادهم مباني وزارة الدفاع حيث التجأ قاسم.

رغم سهولة انتصارهم، فان زعماء انقلاب الدولة لم يخاطروا بشيء، مشككين بالطبع بولاء جنودهم الخاصين بهم، قاموا على الفور بتشكيل ميليشيا مكرسة لخدمتهم ، هي الحرس الوطني، الذي أتى الكثير من متعبيه من آخر السلم الاجتماعي في بغداد، والذي سيكون أحد عملائه أيضا شخصا يدعى صدام حسين. في المساء نفسه، بثت الجنة الحاكمة نشرة اذاعية دعت فيها الى "ابادة" "المتعاملين الشيوعيين، أنصار قاسم، عدو الله".

كان حمام دم. في الأحياء الفقيرة دافع الأهالي عن أنفسهم بما لهم من الأسلحة. أهالي البصرة آخر من وقعوا، بعد أربعة أيام من المعركة في الشارع، ثم خلال أسابيع، قام الحراس الوطنيون ب "التنظيف" مزودين بقوائم من العناوين. هؤلاء الذين تصدوا للاعتقالات تمت تصفيتهم في المكان نفسه على الفور، أما الآخرون فقد تم تجميعهم مثل الأنعام في الملاعب. مات الكثيرون تحت التعذيب في مباني القصر الملكي القديم، الذي تحول الى مركز تحقيق للحرس الوطني. أكثرهم حظا، ان أمكن القول، حكم عليهم بأشغال السجن الطويلة، حيث لم يهرب الكثير منهم، طالما أن شروط اعتقالهم كانت قاسية. بالتالي، فقد قدر عدد الضحايا المباشرين لهذه المذبحة ب 5000 ميت بين مناضلي الحزب الشيوعي فقط، وأكثر من 30000 من مجموع السكان - ، بدون التحدث عن كل هؤلاء الذين "اختفوا" في سجون النظام.

لا شيء يشير الى أن هذا الانقلاب الدامي قد تم بموافقة، من أجل أن لا نقول بالتشجيع الفعال للخدمات الخاصة الغربية- وعلى نحو خاص C.I.A. الأميريكية و بمساعدة ال SDECE الفرنسية. واقعة أن ديغول، اختار بدقة هذه اللحظة، ليعيد بناء العلاقات الديبلوماسية مع العراق - بعد قطيعة دامت سبعة أعوام متتابعة لمسألة قنال السويس- لا يمكنها أن تكون ثمرة الصدفة.

البعثية، حركة قومية عربية جذرية

يعتبر حزب البعث القوة الفاعلة في انقلاب 1963 و المجزرة التي تلته. إن هذا الحزب القومي العربي لم يلعب من قبل أي دور ملحوظ في الساحة السياسية العراقية، رغم أن نشوءه يرجع إلى سنة 1944 في سورية الموجودة آنذاك تحت الحماية الفرنسية.

لقد كانت البعثية تتشدق كلاميا بالاشتراكية، داعية إلى دور مسير للدولة مقتبس من الستالينية، لكنها كانت في نفس الوقت تنفي وجود الصراع الطبقي معتبرة إياه كتضليل عن النضال القومي، وكانت تحارب الشيوعية حيث كانت تقدمها كنتاج مشؤوم للغرب.

لم يكن تيعدت حزب البعث 259 مناضل سنة 1955 حسب الأرقام البوليسية، و لم يستفـد بشكل ملحوظ من الغليان السياسي الذي تلى الإطاحة بالنظام الملكي سنة 1958. لقد استغل فرصته لما تركت له فصائل الجيش التي كانت وراء الإطاحة بعبد الكريم قاسم دور الطليعة غداة انقلابهم. حيث أمد النظام العسكري بتعزيزات لمساعدته على سحق محاولات المقاومة لدى الشعب، لكن ما فتئ أن تم تحقيق هذه المهمة الدموية حتى استرجع قادة الجيش بزمام الأمور.

أربعة أشهر بعد اللإنقلاب، تم تعيين الخصم السابق لقاسم الجنرال عارف كرئيس للنظام الجديد. و أول ما قام به كان تخلصه من حزب البعث.

لقد انفرد هكذا الجيش بالسلطة خلال الأعوام الخمسة التالية، أعوام طبعت بالتنافس بين فصائل عسكرية و مدنية. إن الانهزام العربي أمام إسرائيل في حرب الستة أيام سنة 1967، و المشاركة الرمزية البحتة للنظام العراقي في هذه الحرب، قد فاقمت من فقدان مصداقيته، و عززت صفوف حزب البعث، فبعد أربع سنوات من وجود نصف سري، تمكن الحزب من استعادة نوع من المصداقية، بحيث وجد نفسه في يوليو 1968 ، في موقع مرشح لأخذ السلطة.

حزب البعث يتولى السلطة، 1968

في 17 يوليو 1968، قامت مجموعة صغيرة من الضباط الكبار، يتزعمها قادة من جهاز أمن الحرس القومي، بالإستيلاء مع قواتها على النقاط الإستراتيجية في بغداد. بعدها تم تعيين ممثل حزب البعث داخل الجيش، خلال إنقلاب 1963، الجنرال البكر رئيسا للدولة، و تولى الحكم مجلس قيادة الثورة المكون من سبعة أعضاء من الجيش و منهم ثلاث بعثيين.

حتى يضفى على هذا الإنقلاب صفة شرعية تم إصدار دستور جديد. سن هذا الدستور الإسلام كدين الدولة و الإقتصاد المسير من طرف الدولة، و الذي لقب ب"الإشتراكية" لأنها كانت رائجة آنذاك لدى الأنظمة الوطنية كأساس اقتصادي، بينما كانت كل الأجهزة التشريعية بيد البعث.

لم يبق إذن على حزب البعث إلا أن يكرس سلطته على مجموع أجهزة الدولة و باقي المجتمع.

هكذا بدأت فترة قمع و إرهاب استهدفت كل فصائل المعارضة دون تمييز، و بشكل خاص داخل أوساط الجيش و الوظيفة العمومية، و طبعتها إعدامات عمومية كثيرة لإرهاب الشعب.

إن تكريس الحكم البعثي مر كذلك عبر بعض الإجراءات الإجتماعية، مثل إلغاء التعويضات التي كان على الفلاحين دون أرض دفعها للملاكين العقاريين للحصول على قطع أرضية في إطار الإصلاح الزراعي. أو سن قانون للعمل، و تحديد حد أدنى للأجور، وكذا خلق نظام للضمان الإجتماعي و إن كان جنينيا.

على الصعيد الإقتصادي، يمكن القول أن هذه الإجراءات قد حسنت نوعا ما وضع العمال، لكنها ساعدت في نفس الوقت حزب البعث في إقرار جهاز نقابي تابع له، الهدف منه مراقبة الطبقة العاملة، و تقليص الصراع الإجتماعي، وعرقلة تطور أي منظمة عمالية مستقلة وهذا خاصة بمطاردة و قمع المناضلين المعارضين.

في هذا الوقت تواصل اعتقال، و تعذيب، و "اختفاء"، و قتل "مشتبهين" مجهولين، و تزايد هذا مع تطوير كل من الفصائل المتصارعة على السلطة داخل البعث لجهازها القمعي الخاص.

على سبيل المثال فإن الرئيس البكر كان يرتكز من جهة على الحرس الوطني و قد أصبح في نفس الوقت ميليشيا بعثية و حرس خاص للرئيس، و من جهة أخرى على جهاز حزب البعث و الذي عين البكر على رأسه أحد أقاربه صدام حسين منذ سنة 1966. إن هذا الفصيل هو الذي سيخرج منتصرا في الصراع على السلطة في نهاية 1971، بعد أن أقصى كل شخصيات البعث المنافسة بإجلائها أو اختطافها... بين هذين الفترتين أصبح صدام حسين عضوا في مجلس قيادة الثورة أين تولى تسيير الأمن القومي و الحرس القومي. إذا، بعد عشر سنوات على الانقلاب و حملة القمع ضد الطبقات الشعبية فإن الذي برز كرجل النظام الثاني ليس إلا واحدا من أعضاء البعث الأقل ذمة.

نظام "تقدمي" ؟

في بداية السبعينات كان النظام العراقي يعد نظاما تقدميا. ألم يكرس علاقاته مع الإتحاد السوفياتي إلى حد توقيع اتفاقية صداقة معه ؟ أكثر من هذا ألم يأمم شركة البترول العراقية في فاتح حزيران 1972 ؟

لكن لا بد أن ننسى أن هذا التأميم، و هو تطلع عراقي قديم، أتى في فترة كانت كبرى الشركات البترولية نفسها تبحث عن الانسحاب من ملكية آبار النفط، مما يحد من راديكالية قرار النظام العراقي.

بالفعل فقد عرفت هذه الفترة الأزمة البترولية الأولى أي الزيادة الحادة لأثمان النفط الخام بين أكتوبر 1973 و شتنبر 1974 بنسبة 368%، و إذا كانت كبرى شركات النفط وراء قرار هذه الزيادة، إلا أنها فضلت تحميل المسؤولية السياسية للدول المنتجة. لهذا الهدف فإنها سمحت لبعض الدول تأميم كل أو بعض الآبار في مدة أعوام قليلة و منها الجزائر و ليبيا و إيران و حتى السعودية المعروفة الكبير للولايات المتحدة الأمريكية.

تجدر الإشارة إلى أن هذه التأميمات ليست بتضحية كبيرة بالنسبة لهذه الشركات الاحتكارية حيث أن أرباحها الهائلة تأتي أساسا من عمليات التكرير و النقل و التوزيع، أما الإنتاج فإنه لا يمثل إلا جزءا هامشيا من الأرباح.

تصفية الحزب الشيوعي

واصلت الدكتاتورية، طوال كل هذه الفترة، تمتين قبضتها الفولاذية و إقرار الوضع الداخلي لصالحها.

لكن الحزب الشيوعي احتفظ بنفوذ كبير داخل الأوساط الشعبية رغم كل ما عرفه من قمع منذ انقلاب 1968، و خاصة في المناطق الحضرية أين كان نفوذه أوسع من نفوذ حزب البعث. مما دفع هذا الأخير إلى مواصلة اضطهاد مناضلي الحزب الشيوعي من جهة و اقتراح تنازلات طفيفة من جهة أخرى آملا منها توريط الحزب الشيوعي مع النظام مقتديا بنهج عبد الكريم قاسم.

هدف البعث الحقيقي كان تصفية الحزب الشيوعي.و رغم هذا أضفى الحزب الشيوعي مصداقية على مناورة البعث، حيث كان يطالب بتشكيل حكومة ائتلاف وطني بمشاركة الأحزاب التقدمية الوطنية من البعث إلى الحزب الشيوعي.

في الأخير و بعد توقيع اتفاقية الصداقة العراقية-السوفيتية، أعلنت قيادة الحزب الشيوعي استعدادها للمشاركة في الجبهة الوطنية الشعبية التي كان يقترحها البعث و بشروط هذا الأخير، بينما رفضت الأحزاب القومية الكردية المشاركة فيها. مباشرة بعد هذا تم تعيين عضوين من الحزب الشيوعي كوزيرين في الحكومة. و في السنة الموالية، يوليو 1973 بالتحديد، صادقت هيئات الحزب الشيوعي على هذا القرار، و بعدها حصل الحزب على الشرعية و تم إدماجه رسميا داخل الجبهة الوطنية الشعبية وراء الحزب. من بعد سمح للحزب الشيوعي بإصدار أسبوعية ثم جريدة يومية بالإضافة إلى جريدته الشهرية، أين كان يمدح سياسة النظام "المضادة للإمبريالية" و "الطبيعة الاشتراكية" لمنجزاته الاقتصادية.

سياسة قادة الحزب الشيوعي تعد استسلاما كاملا، لأن القبول بشروط البعث تعني بالتحديد الاعتراف له بدور ريادي في كل جوانب الحياة السياسية و الاجتماعية و التخلي عن أي سياسة مستقلة عنه. النفوذ الجماهيري للحزب الشيوعي كان لا يزال كبيرا، لكن الحزب صار مقيدا بتحالفه مع البعث و لما ارتئ النظام أن الوقت قد حان للتخلص منه، فإنه لم يجد مقاومة حقيقية. أما هذا الحين فلم يطل انتظاره.

ففي مارس 1975 عقد النظام اتفاقية الجزائر مع شاه إيران، الاتفاقية التي حصل فيها الشاه على اعتراف النظام العراقي بالحدود القائمة بين البلدين مقابل إيقاف مساندته لمقاتلي الحزب الديموقراطي الكردستاني. هكذا تمكن النظام العراقي من سحق المقاومة الكردية، بعدها أصبحت يداه طليقتين تماما حتى ينقلب على الحزب الشيوعي.

و بدأ هجومه في نهاية 1975 بشن حملات اعتقال شملت مناضلين عديدين عذبوا و رمي بهم بالزنازين. و لما انتهت قيادة الحزب الشيوعي، في شهر مايو من السنة الموالية، ببث احتجاج رسمي ضد هذه الإجراءات القمعية، رد البعث بحملة دعاية مضادة للشيوعية في كل المنابر الصحفية، ثم ضاعف القمع بإعدام مناضلين دون محاكمة، بما يذكر أكثر فأكثر بمذابح 1963.

في سنة 1978، أخذ القمع منحى أكثر عنفا، فكل من يسقط بين أيدي العصابات المسلحة التي كلفها النظام بتمشيط الأحياء الفقيرة كان مناله التعذيب و التشويه الجسدي. و بدأت مواكب عائلات الضحايا الباحثة عن أقاربها المفقودين بين مئات الأجسام المشوهة التي راكمتها الشرطة في الموادع التي حجزتها لهذا الغرض، وذلك تحت شتائم رجال البعث.

بالرغم من كل هذا لم ينسحب الحزب الشيوعي من الجبهة الوطنية الشعبية و الدخول رسميا في المعارضة إلا في مايو1979 أي بعد منعه من طرف النظام. بعد هذا لم يبقى للحزب الشيوعي إلا وجودا ضعيفا داخل المقاومة في كردستان أو في الهجرة و بشكل مقطوع عن الجماهير.

في اتجاه دكتاتورية صدام الفردية

في نفس هذه المرحلة السالفة الذكر فرض صدام حسين نفسه كزعيم النظام دون منازع، وأخذت الدكتاتورية سماتها الحالية. بدأت هذه الصيرورة، التي ستدوم ست سنوات، سنة 1973 بإقصاء ناظم نزار قائد أجهزة الأمن الذي كان يخشى صدام حسين من صعود نفوذه، وعين بدله شقيقه الأصغر. و استغل هذه الفرصة بالأخص من أجل تمتين سلطة مجلس قيادة الثورة الدكتاتورية أصلا.

بعد أن كانت صور صدام حسين تجاور صور الرئيس البكر، على أسوار البلد، بدأت تنذر صور هذا الأخير و إن كان هو الزعيم الرسمي، بينما شرع في تحفيظ التلاميذ قصائد مدح لصدام حسين.

في سنة 1976 أهدى صدام حسين نفسه رتبة جنرال و إن يكن له أي ماض عسكري، و أصبح يتكلم باسم الجيش. سنة بعد ذلك عين صهره على رأس الجيش و ابن عمه على رأس إدارة المخابرات العامة، هكذا إذن أصبحت كل أجهزة القمع تحت الرقابة المباشرة للأقارب و المقربين من صدام حسين.

في يوليو 1979 حان أخيرا الوقت لإبعاد الرئيس البكر، و تطلب إبعاد البكر سيناريو دقيق هذه المرة. فهذا الأخير أعلن بنفسه للصحافة أن وضعه الصحي لا يسمح له بمواصلة مهمته و بأنه قرر تعيين نائبه صدام حسين ليخلفه على رأس السلطة و يصبح بالتالي الرجل الأول في النظام. لكن صدام حسين كان لا يزال يتخوف من أزمة خلافة و للحيلولة دونها قرر إقصاء العديد من الشخصيات النافذة في النظام. فبعد أسبوعين فقط على تعيينه رئيسا للدولة، أمر صدام حسين بإعدام 22 من أصحاب الرتب العالية في النظام و من بينهم ربع أعضاء مجلس قيادة الثورة، بذريعة تورطهم في مؤامرة غامضة تقف ورائها سورية. هذه التصفية، والتي ليست طبعا الأخيرة من نوعها، سمحت لصدام حسين بالإنفراد بالسلطة.

النظام العراقي يبحث عن رضا الإمبريالية

خلال العقد الكامل الذي كرسه النظام العراقي لتوطيد دكتاتوريته، كان موقف القوى الإمبريالية بذيء تماما. فإن احتجت العواصم الغربية بشدة كلما قوض النظام من امتيازات الاحتكارات البترولية و كلما عقد اتفاقا مع الإتحاد السوفييتي، إلا أنهم التزموا الصمت واللامبالاة أمام مذابح الأكراد و الشيوعيين.

في الحقيقة لم تكن غاية حزب البعث من غمزا ته اتجاه الإتحاد السوفييتي و خطابه الطنان ضد الإمبريالية إلا المقايضة من أجل اكتساب موقع في أحضان الإمبريالية، و هذه السياسة لم تكن فريدة من نوعها في هذه الحقبة التاريخية إذ اتبعتها العديد من دول العالم الثالث.

من جهة أخرى كانت كبرى الشركات الأمريكية تقود العديد من المشاريع الهامة و التي كان النظام العراقي يمولها بفضل عائدات النفط، بالرغم من أن الولايات المتحدة كانت ترفض في نفس الوقت إقامة أي علاقة دبلوماسية معه. أما على الصعيد التجاري (خارج تجارة الأسلحة) فأهم ممولي العراق سنة 1979 كانوا بشكل تنازلي كالآتي: اليابان، ألمانيا، فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا.

بالنسبة لبيع الأسلحة للعراق حصلت فرنسا سريعا على الرتبة الثانية وراء الإتحاد السوفييتي. يمكن القول عموما أن العلاقات الفرنسية-العراقية منذ إعادة إقامتها سنة 1963 كانت ترضي الطرفين. ففرنسا قد أصبحت أول مستوردي النفط العراقي، و تبادل الرئيس الفرنسي جسكار دي ستان و صدام حسين كل منهما زيارتين للآخر، و يعد جسكار دي ستان أول زعيم غربي يوقع عقد بيع أسلحة للعراق، سنة 1976.

و قد صرح جاك شيراك، رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، بهذه المناسبة بأن صدام حسين "زعيم واقعي و مسئول و حريص على مصالح بلده و على توازن هذه المنطقة". دون شك أنه كان يعني الطريقة التي "وازن" بها صدام حسين كردستان العراق بتحويله إلى معتقل ضخم للمهجرين؟ و دون شك أن "توازن هذه المنطقة" هو الذي دفع كبرى الشركات الفرنسية إلى بدإ بناء المفاعل النووي العراقي تموز بمباركة جسكار دي ستان؟

منعطف 1979

في 1979 تصاعد من جديد قلق الزعماء الإمبرياليين على هيمنتهم على الشرق الأوسط، ففي شهر يناير نكست ثورة شعبية شاه إيران. و إن كان ذلك تحت رقابة الزعماء الإسلاميين إلا أن هذه الأحداث كانت تكتسي خطر الانتشار في كل المنطقة. كانت إذن الإمبريالية في حاجة ماسة إلى رد سريع تدفع بها الجماهير المسحوقة الإيرانية الثمن الباهظ على إطاحتها بالشاه.

و صدام حسين هو الذي سيمنحها هذا الحل، إذ أن الخادم السابق للبعث الذي أصبح دكتاتورا شعر بأن الفرصة قد حانت لتقديم خدماته للإمبريالية.

ربما أن صدام حسين قد حسب أن سقوط الشاه قد يمكنه من أخذ مكانه كالرجل القوي بالمنطقة الذي يحضا باعتراف الإمبريالية. و ربما أنه اعتقد أن بإمكانه هذه المرة إعادة رسم الحدود بين البلدين نهائيا لصالح العراق. أضف إلى ذلك أن انتصار الخميني يطرح مشكلة لصدام حسين و لزعماء عرب آخرين لأنه يعيد للواجهة مطالب السكان الشيعة، و خاصة بالعراق أين يشكلون غالبية السكان.

مهما يكن فإنه لما دخلت القوات العراقية أرض إيران في شتنبر 1980 إكتفى الرئيس الأمريكي كارتر بالتصريح أنه يعد العراق كالطرف البادئ في الحرب و هو الأمر الذي لم يكن أحد يشكك فيه أحد. لكنه امتنع عن الاحتجاج الشديد باسم "القانون الدولي"، كما سيفعل بوش الأب عشر سنوات من بعد لم اجتاح العراق أراضي الكويت.

هذه الحرب في آخر المطاف تخدم القادة الأمريكيين. فإن لم يكونوا يريدون انتصار العراق فإن هدفهم كان الاستعانة بصدام حسين لإضعاف نظام الخميني و سلب شعوب المنطقة شعورهم بالانتصار بعد سقوط الشاه.

إذا كان دبلوماسيو القوى الإمبريالية لم يدعموا العراق بشكل مفتوح، فإن تجار السلاح هم لم يخجلوا من ذلك، و لم يتقدم أحد منهم بطرح مقاطعة العراق بل سارع إعلان الحرب شحنات الأسلحة.

بالنسبة لفرنسا، كل كبار صانعي السلاح باعوا كمية هائلة من العتاد للعراق: داسو 328 طائرات ميراج، أيروسباسيال 121 مروحية و أكثر من 4000 صاروخ، ماطرا 3000 صاروخ، جيات 500 مدرعة الخ. و قد صرح كلود شيسون، وزير الخارجية الاشتراكي الفرنسي آنذاك، معللا تجارة الموت بما يلي: "كل الدول العربية تصر على أن نواصل دعمنا للعراق للحيلولة دون أن يقدم الإيرانيون، إن لم أقل الفرس، على الاندفاع كما في العهود السابقة في غزوات كبرى باتجاه الغرب".

صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت أكثر بطأ في أخذ قرار الدعم المفتوح للعراق. لكنه لما انقلبت الكفة في الحرب لصالح إيران سنة 1984، قررت إعادة علاقتها الدبلوماسية مع العراق و سمحت بمدها بالأسلحة الأمريكية. و طيلة السنوات الخمس الموالية سمح ل 750 شركة أمريكية بمد العراق بالعتاد العسكري، و نصيب منه كان موجها للجنة الطاقة النووية العراقية. دول أخرى اتبعت المثال الأمريكي من ألمانيا و البرازيل و إيطاليا و بريطانيا. و يقدر إجمالي الأسلحة و العتاد الذي باعته القوى الغربية للعراق طوال حربها مع إيران ب 100 مليار دولار.

لكن تجار الأسلحة لم يكتفوا بالسوق العراقية، بل باعوا الأسلحة للطرف الآخر. هكذا أبانت فضيحة إيرانجيت كيف باعت وكالة الاستخبارات الأمريكية سريا السلاح لإيران و ذلك بمباركة الرئيس ريجان. كان ذلك في الأصل مقابل تدخل إيران للإفراج عن الرهائن الأمريكيين في لبنان، لكن بيع الأسلحة لإيران تواصل بعد ذلك هذه المرة بهدف تمويل متمردي اليمين المتطرف الكنتراس بنيكاراجوا. زد على ذلك أن كميات هائلة من الأسلحة الأمريكية قد بيعت لإيران طوال مدة الحرب بوساطة إسرائيل. و يجب القول أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن الوحيدة في تزويد إيران بالأسلحة، ففرنسا عرفت بدورها فضيحة شبيهة بإيرانجيت، حيث أن شركة لوشير الفرنسية قد باعت لإيران 400 ألف قذيفة ثقيلة، مستعملة وثائق مزورة.

الشعوب تدفع ثمن الحرب

دامت هذه الحرب ثماني سنوات، و كانت بحق مذبحة كان رهيبة ضحيتها الشعبين العراقي و الإيراني. يمكن مقارنتها بالحرب العالمية الأولى بسبب تماثل معارك الخنادق اللامنتهية فيهما و بسبب استعمال الأسلحة الكيماوية و خاصة من الجانب العراقي. زد على ذلك استعمال "تقنيات" طورتها الإمبريالية خلال حروبها الاستعمارية و بشكل خاص الألغام المضادة للأفراد و القنابل الانشطارية. و قد قدر عدد القتلى من الجانبين بأكثر من مليون شخص.

إذا دامت الحرب كل هذه المدة الطويلة و سببت عددا هائلا من الضحايا فإن هذا يرجع و لو جزئيا إلى تعطش صانعي الأسلحة الغربيين للربح. و إذا استطاع صدام حسين من خلال هذه الحرب بناء ترسانة عسكرية هائلة مكنته من التكافؤ مع إيران، التي تضم ضعف سكان العراق، فذلك و قبل كل شيء بفضل الخيار السياسي الإمبريالي و تمويله بالسلاح.

على صعيد السياسة الداخلية العراقية، قادت الحرب إلى تشديد الطابع القمعي و الدكتاتوري للنظام، كما كان يمكننا ارتقابه. فطيلة مدة الحرب تواصل بشدة إعدام "المشتبهين" بانتمائهم إلى المنظمات المحظورة. و بين الفينة و الأخرى يسمع أن المعتقلين السياسيين قد "اختفوا" من سجن ما، مما قد يعني إعدامهم الجماعي.

لكن القمع كان أكثر دمويا في كردستان، أي المنطقة الوحيدة في البلاد أين كانت لا تزال توجد معارضة منظمة للنظام.

فالأحزاب الكردية قد استغلت فترة الحرب لتتجذر في جهات لم يكن في متناول الجيش طردها منها لانشغاله بالمعارك ضد إيران. إلا أنه في 1988 و خلال الأشهر الأخيرة من الحرب، أمر صدام حسين

بشن هجوم شامل ضد هذه الجهات و تم بذلك تدمير كامل ل4000 قرية تحت ضربات المدفعية الثقيلة و الطيران. في مرة واحدة على الأقل (قرية حلبجة) استعمل الجيش العراقي أسلحة كيماوية فتكت بجزء من السكان. في بعض الحالات كان الجيش يجمع السكان قبل القصف و ينقلهم إلى "قرى محمية"، لكن ربحا للوقت فإنه في حالات أخرى دمر القرى بمن فيها.

دامت هذه العملية أو بالأحرى هذه المذبحة ثلاث أشهر، و خلفت 100 ألف قتيل بل دون شك أكثر من هذا بحيث أن عدد المفقودين قد تعدى 182 ألف. و كدس نصف مليون كردي ب"القرى المحمية". مما مكن الجيش العراقي، بعد وقف إطلاق النار مع إيران في 20 غشت 1988، من الهجوم الظافر هذه المرة ضد المقاومة الكردية التي أصبحت مقطوعة عن السكان المحشورين ب"القرى المحمية".

حرب الخليج، 1991

انتهت الحرب مع إيران دون تغلب أي جانب كما كانت يريد الإمبريالية، وقد إستنزفت المجتمع العراقي و دمرت اقتصاده.

فيما بعد، كانت الفترة 1990-91 التي عرفت القطيعة بين الولايات المتحدة الأمريكية و العراق. لنذكر بأن العراق لم يتميز أبدا بمعارضته للإمبريالية. فالعواصم الغربية كانت تقدر النظام العراقي رغم المذابح التي قام بها، أو ربما بسببها ! في النهاية جاء غزو العراق الذي نتجت عنه القطيعة مع العراق.

لماذا دخل صدام حسين في هذه المغامرة ؟ الواقع أن سياسة الكويت البترولية و مطالبتها العراق بتسديد ديونه اتجاهها كانت تضع صدام حسين في مأزق، في الوقت الذي كان ينتظر فيه عائدات جهوده في الحرب ضد إيران التي كانت تخيف دول الخليج. باختصار كان الخادم الوفي ينتظر أجره، بينما الإمبريالية و حلفائها الكويتيين و السعوديين و الإماراتيين لا يعتبرون نفسهم مدينين بأي شكل.

للخروج من المأزق لم يبق لصدام حسين إلا إتباع مثل قاسم بغزو الكويت. هل كان يظن أن الإمبريالية ستغمض عيناها، أو كان على كل حال يريد استعمال احتلال الكويت من أجل المقايضة ؟ هذا ما لا نعلمه. يبقى أنه بغزوه للكويت فقد مس صدام حسين هذه المرة مباشرة مصالح الاحتكارات البترولية إلى القدر الذي قرر القادة الإمبرياليون دفعه الثمن غاليا.

هذا هو أساس سياسة الزعماء الأمريكان نحو صدام حسين في 1990-91 مثل يومنا هذا. لا يجب أن ننسى أنه إذا رجع تنفيذ العقاب لبوش أبا و ابنا فإن كلنتون قد نهج نفس السياسة.

بعد اجتياح الجيش العراقي للكويت في 2 آب 1990 انطلقت حملة الحكومات الغربية الهستيرية و المنافقة صارخة ضد "انتهاك القانون الدولي". و بين عشية و ضحاها، نفس القادة الغربيين الذين سلحوا صدام حسين و مولوه بالديون و لم يحركوا الساكنة أمام المجازر التي اقترفها ضد شعبه بدأوا الآن نعته بالدكتاتور الواجب الإطاحة به، وارتدوا لباس الديموقراطية و الدفاع عن "استقلال الكويت"، في الواقع الدفاع عن مصالح شركاتهم النفطية.

ثم اندلعت حرب الخليج في 17 كانون الثاني 1991. بدأت بخمس أسابيع من القصف الجوي تلاها الهجوم البري الذي سبب انهيار ما تبقى من الجيش العراقي. بعدها أعلن صدام حسين عن انسحاب قواته من الكويت، الانسحاب الذي عرف مجزرة شنيعة و مجانية راح ضحيتها آلاف الجنود العراقيين تحت وابل من القنابل الانشطارية.

لم يبق لبوش الأب إلا تجسيد كل تهديداته أي الإطاحة بالنظام العراقي. لكن هذا لم يحصل قط. فإذ أخذ الشعب العراقي في كردستان و الجنوب نداء بوش لقلب الدكتاتور مأخذ الجد و اندلعت الانتفاضة لم تحرك القوات الغربية ساكنا منتظرة سحق الجيش العراقي للثائرين. و في أبريل 1991 فقط، أي بعد سحق التمرد في كردستان، فرض القادة الغربيون منطقة حذر جوي بشمال البلاد، التي مر جزء منها تحت رقابة الأمم المتحدة. أما منطقة الحذر الجوي التي تغطي اليوم جنوب البلاد فلم تقام إلا في غشت 1992 أي بعد أحداث الانتفاضة بفترة كبيرة.

يجب أن نفهم من هذا أن الزعماء الأمريكيين لم يريدوا سقوط صدام حسين بأي ثمن، و على كل حال لم يكونوا يريدون المجازفة بتطور وضع منفجر بالعراق بعد انهيار النظام. فهذا الأخير قد بين منذ أعوام عن فعاليته في قمع الجماهير و فضل القادة الإمبرياليون أن يواصل دوره هذا بدل دخول البلاد في عدم الاستقرار السياسي. إن هذا الحساب البذيء هو الذي سمح لصدام حسين، الخادم الوفي الذي أرجع إلى الصواب بعد زلته، أن يبقى في قمة السلطة في العقد التالي و إلى يومنا هذا.

إثنى عشر عاما من حرب غير معلنة

حصيلة حرب الخليج كانت درامية بالنسبة للشعب العراقي. إضافة ل 000 100 قتيل ضحية القصف الجوي، فإن جزء كبير من البنية التحتية و من كل نوع قد دمرت. و على سبيل المثال فقط نذكر أن خبيرا في الأمم المتحدة قد قدر في نهاية 1991 بأن شبكة الكهرباء قد تراجعت حالتها إلى وضع ما قبل الحرب العالمية الأولى.

لكن بالنسبة للشعب فإن حربا أخرى قد بدأت و لم تتوقف إلى الآن. فهو لم يتحمل فقط عواقب العقوبات الاقتصادية الأممية، و التي فرضت بدعوى إرغام صدام حسين على تنفيذ كل شروط وقف إطلاق النار و بالأخص تدمير أسلحته، بل سيعرف ضربات جوية دورية التي استهدفت في الكثير من الأحيان أهدافا مدنية.

منذ اثنى عشر سنة و القوى الإمبريالية تقوم بلعبة دامية أساسها المطالبة بتنفيذ شروط جديدة في كل مرة يعلن فيها صدام حسين عن قبوله بالشروط السابقة، مما يعلل مواصلة هذه الحرب الغير معلنة.

لقد مكنت العقوبات الاقتصادية الإمبريالية من رقابة فعلية كاملة على التجارة الخارجية للعراق و خاصة على عائداته النفطية. أما الغطاء "الإنساني" الذي استعملته الأمم المتحدة فليس هنا إلا لتغطية أهدافه الحقيقية.

و برنامج "البترول مقابل الغذاء" الساري مفعوله منذ 1995 يبين هذه المخادعة. من دون شك أن هذا البرنامج يسمح للعراق بتصدير جزء من نفطه و بالمقابل استيراد مواد الاستهلاك الأساس. لكن جزءا من هذه العائدات يجب تكريسها أولا لتعويضات حرب الكويت ، ثم أجور موظفي الأمم المتحدة المكلفين بمراقبة المحاسبات و الواردات، و دفع تكاليف استعمال أنبوب النفط العابر لتركيا و هو الوحيد المسموح به لتصدير النفط العراقي. و بعدما تسدد كل هذه التكاليف فإن بيروقراطيي الأمم المتحدة هم الذين يحددون احتياجات الشعب العراقي، و يماطلون بإرجاء قراراتهم دون تسارع.

زد على ذلك أننا وصلنا الآن إلى مفارقة حيث أنه مسموح للعراق ببيع كميات من النفط تتجاوز قدرته الإنتاجية، و ذلك بسبب منعه من استيراد قطع الغيار و المواد اللازمة لتصليح آبار نفط أخرى.

لأن الأمم المتحدة لا تسمح للعراق بشراء ما يلزمه لتصليح بنيته التحتية المدمرة. إذ لا يسمح باستيراد أي منتج ذا "استعمال مزدوج" أي يمكن استعماله لأهداف مدنية أو عسكرية. و بالتالي فإن مجموعة من المواد الكيماوية الأساسية ممنوعة من الاستيراد بسبب إمكانية استعمالها لإنتاج أسلحة كيماوية، و إن كانت ضرورية لصنع بعض الأدوية العادية. و يمنع كذلك استيراد مضخات الماء القوية لإمكان استعمالها لغسل الوقود النووي، و إن كان العراق يعاني المرار من نقص محطات الضخ.

هكذا و حسب الأمم المتحدة بنفسها فإن " مشاكل سوء التغذية ناتجة عن التدهور العارم للبنية التحتية الأولية و بالأخص تدهور أنظمة التزويد بالمياه و صرف النفايات". لقد أرجعت هذه الوضعية و بشكل عنيف عدة عقود إلى الوراء هذا البلد الذي كانت له أقل نسبة لوفيات الأطفال بالمنطقة. يمكن تقدير عدد الأطفال العراقيين ضحايا إثنى عشر سنة من العقوبات بمليون قتيل و نصفهم لا يتعدى عمرهم خمس سنوات.

منعطف 11 أ يلول 2001:

جاءت عمليات 11 أيلول الانتحارية في خضم الحرب المقنعة التي قادتها ثلاث إدارات أمريكية متعاقبة، جمهورية كانت أو ديمقراطية، طيلة إثنى عشر عاما ضد الشعب العراقي. وقد سجلت هذه العمليات منعطفا جديدا.

ليس منعطفا فيما يخص السياسة اللأمريكية الجوهرية والتي قادها دوما الدفاع عن النظام الإمبريالي بشكل عام ومصالح البرجوازية الأمريكية بشكل خاص. لكن أحداث11 أيلول وتضليل الرأي العام الواسع الذي تلاها قد أعطى للقادة الأمريكيين وسائل سياسية أعلى.

بوش االذي انتخب بصعوبة وكانت تحتقره الصحافة، أما استطلاعات الرأي فلم تكن بصالحه، كان أول مستفيد. فاعتمد على المشاعر التي خلفتها العمليات لنشر خطاب عدائي. وبين عشية وضحاها نجح بوش في الوصول إلى قمة الشعبية أنست بدايته المخجلة في البيت الأبيض.

لقد سجلت أحداث 11 أيلول منعطفا تعدت تبعاته المفيدة لشخص بوش لتشمل كل الشريحة السياسية الأمريكية بخلق إجماع للرأي العام و وضعت حدا للحقبة التي فتحتها حرب فيتنام.

حرب فيتنام الطويلة التي لم تتمكن الإمبريالية الأمريكية من ربحها قد كلفتها غاليا ماليا وبشريا أدت إلى خلق تيار سلمي قوي. بل أثرت حرب فيتنام على الوعي الجماعي الأمريكي الذي قرف من مشاهد الأكياس البلاستيكية التي تحوي بقايا الجنود الأمريكيين القتلى و من رجعوا من تلك الحرب القذرة بإصابات جسدية كانت أو نفسية. :ل هذا لم يوقف الإمبريالية الأمريكية عن التدخل في جميع أنحاء العالم الأربع لكنه ألزم القادة السياسيين الحذر وخاصة اجتناب وقوع القتلى في هذه التدخلات.

مع مرور الوقت تغيير هذا الحال، لكن 11 أيلول هو الذي سمح للقادة الأمريكيين أسوأ بذالة إمبريالةلأجل معركة دفاع مشروع عن الديمقراطية ضد الإرهاب أو الخير ضد الشر.

منذ عام وغدارة بوش ترعى هذا الإجماع بشن حملات دعائية تهدف إلى تغذية الشعور بالخوف من ضربات إرهابية مما يعطيها مصداقية في "حربها على الإرهاب".

كانت إثارة الخطر الإرهابي على كل الألسنة، من رجال االسياسة إلى الصحافة إلى كل فئات صانعي الرأي. وزايدت أجهزة الحكم على ذلك بأخذ إجراءات أمنية تضفي المصداقية على ضرورة اعتماد حالة استنفار هذه الإجراءات تمثلت في إقامة محاكم استثنائية يرأسها قضاة مجهولي الهوية ومنح سلطات واسعة للشرطة للقيام بالمراقبة والتصنت والتفتيش حسب رغباتها وكذا الاعتقال المسبق اللامحدود للأشخاص المشتبهين بعلاقاتهم مع الإرهاب وتجميد في الواقع لحقوق الأجانب المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية. اتبع جهاز القمع هذه التوصيات بل سبقها في بعض الأحيان.

فقام بحملة اعتقالات شملت آلاف الأجانب جريمتهم الوحيدة أنهم منحدرون من الشرق الأوسط، و رفع إلى الواجهة لمدة اشهر التهديد المزعوم لعمليات الجمرة الخبيثة، وضاعف إعلانات الانتصار بكشف ما أسماه بخلايا تنظيم القاعدة الناشطة بالتراب الأمريكي، دون أن يعرف ما يتهم به هؤلاء الإرهابيون المزعومين لغاية الآن، باستثناء المخالفات الطفيفة لقانون الهجرة.

برعاية جو الوحدة الوطنية والإجماع حول "الحرب ضد الإرهاب"، وبفضل هذه الحملة الدعائية تمكن القاعدة الأمريكيون من شن عدوانهم ضد أفغانستان دون أن يجدوا معارضة ملحوظة داخل الرأي العام.

مما شجع بوش على انتهاز الفرصة لتصفية حساباته مع العراق وبالتالي أطلق في الأشهر الماضية حملته ضد صدام حسين. أكيد أن حتى مختصي بوش الأكثر حماسا في تضليل الرأي العام لم يجدوا ما من شانه ربط صدام حسين بالإرهاب، وهو ما أكده مدير الاستخبارات الأمريكي بنفسه في 8 تشرين الأول أمام لجنة برلمانية. لكن هذا لا يهم.فغياب علاقة صدام حسين بأحداث 11 أيلول أو بابن لادن لم يمنع بوش من الاكتفاء بالشائعات اللامعقولة حول "أسلحة الدمار الشامل" التي يهد ها صدام حسين أمن العالم "الحر" على هذا الأساس ذهب بوش باحثا عن حلفاء الدرجة الثانية.فلم يجد إشكالا في إقناع رئيس الوزراء البريطاني بلير الذي كعادته امتثل محييا ما أن وجهت إليه واشنطن أوامرها ولتسجيل حماسه فقد دعا من الآن إلى تعبئة رجال الصحة الاحتياطي. أما شيراك فإن عبر عن تحفظات شكلية فيما يخص مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي الذي تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه لا يرغب رغم هذا أن تأتي التسوية النهائية في غيابه، تخوفا من عواقب هذه التسوية على مصالح الاحتكارات الفرنسي. وهذا سبب كافي لأن يصطف وراء السياسة الأمريكية قبل أن يفوته الأوان.

المصاعب التي قد يطرحها اجتياح العراق...

وإن كان من غير الممكن التأكد اليوم من أن القادة الأمريكيين سينفذون تهديداتهم بشن الحرب على العراق، وبأي شكل في هذه الحالة، إلا أن كل المؤشرات تفيد بأنهم عبئوا إمكانياتهم العسكرية مما سيمكنهم من شن تلك الحرب إذا قرروا ذلك. هذا ما ينتج عن تحرك القوات الأمريكية باتجاه الكويت والبحرين منذ أكثر من شهر وإعداد عدد مهم من قاذفات ب52 في قاعدة فيرفورد الإنجليزية وفي أرخبيل دييغوغارسيا في المحيط الهندي.

ما هو أكيد هو أن ليس بإمكان القادة الأمريكيين الإطاحة بصدام حسين دون اللجوء إلى عمليات عسكرية. وإذا شنوا هذه العمليات فسيتحتم عليهم الذهاب إلى نهاية المطاف. ففي عام 1991 اتخذوا خيارا آخر لأنهم استطاعوا تقديم تحرير الكويت كانتصار كاف، لكن هذه المرة لن يكون لهم نفس الخيار.

إلا أن تحقيق هذا الهدف يرفع سلسلة من المصاعب قد تدفع القادة الأمريكيين إلى التراجع أو على الأقل إلى التردد. قد يقدر بوش، على سبيل المثال، أنه سيستفيد من دعم الرأي العام الأمريكي إذا كانت حملته العسكرية خاطفة وإن خلفت ضحايا في الصفوف الأمريكية لكن كيف يمكنه استبعاد سيناريو آخر للمعركة؟

مشكلة بوش لاترتبط فقط بالترسانة العسكرية الأمريكية والتي تتفوق بشكل هائل على الإمكانيات العراقية، بل ترتبط أكثر برد فعل الشعب العراقي. فالسؤال المطروح هو كيف سيرد هذا الأخير على الاجتياح الأمريكي ؟ هل سيستقبل الجنود الأمريكيين كمحررين مثل ما حدث في الكويت سنة 1991؟ أم عكس ذلك، سيصطدم الاجتياح الأمريكي برد شعبي داعم للنظام؟

نذكر أن الترحيب بالقوات الأمريكية من طرف الكويتيين يعود إلى اشتياق هذا الشعب المكون غالبا من أصحاب الدخل السهل المرتبط بالنفط إلى العودة لحياة الترف الموجودة قبل الغزو العراقي. لكن بالنسبة للجماهير العراقية فالاجتياح الأمريكي لن يعني لها ذلك، على أكثر تقدير يمكنها أن تنتظر من هذا الاجتياح والإطاحة بصدام نهاية العقوبات الاقتصادية وإعادة بناء البلد الذي قد يستغرق أعواما بل ربما عقودا لكنها لا تنتظر شيئا يخرجها من الفقر المدقع.

يجب أن نتذكر كذلك بأن الجماهير العربية عامة و الشعب العراقي خاصة يعتبرون الولايات المتحدة الأمريكية قبل كل شيء كالطرف المسئول عن ضربات عدة أدمت الشرق الوسط، و عن إثنى عشر سنة من العقوبات و القصف الجوي الدوري. كما يعتبرونها كالسند الأساس لسياسة إسرائيل الدنيئة ضد الشعب الفلسطيني.

و ما هو صحيح بالنسبة للجماهير العربية يبقى صحيحا فيما يخص الجماهير الكردية. لا شيء يضمن أن هذه الأخيرة ستبارك الاجتياح الأمريكي. من دون شك أن السكان الأكراد عانوا من العقوبات الاقتصادية أقل من باقي الشعب العراقي، و أن قسما منهم استفاد من حماية نسبية أمام صدام حسين، بفضل منطقة الحكم الذاتي المفروضة على بغداد غداة حرب الخليج. لكن السكان الأكراد ربما لم ينسوا كيف سحبت واشنطن دعمها لهم في عدة مرات كان يهددها هجوم الجيش العراقي.

أما الاعتماد على المنظمات القومية الكردية للحصول على قبول السكان الأكراد، فهذا سلاح ذو حدين بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. فأي ضمانات توجد حتى لا تشجع التنازلات الممنوحة لهذه المنظمات على إحياء القومية الكردية في كل المنطقة و بالأخص في تركيا، مما قد يزعزع هذا العمود الأساس للإمبريالية في المنطقة؟

أخيرا تتعدى مخاطر غزو العراق حدود هذا البلد. فكيف سيكون رد الجماهير الشعبية العربية في باقي الشرق الأوسط؟ أستندفع إلى تفجير غضبها و زعزعة الحكام الدكتاتوريين المرتبطين بالإمبريالية في دول مثل مصر و الأردن؟ و في هذه الحالة ألن يأدي الهجوم على العراق بدل تمتين الهيمنة الإمبريالية على الشرق الأوسط إلى عكس ذلك أي المجازفة بإضعاف هذه الهيمنة؟

...و ما قد ينجم عنه

و حتى إن نجحت قوات الاجتياح الأمريكي في الإطاحة بصدام حسين في زحن وجيز، فمن ستضع بدله؟

في إمكانها فبركة حكومة بديلة تكونها من سياسيين منحدرين من المعارضة المقيمة في الهجرة، و ربما إشراك رجال من البعث الحاكم مثلما تم إشراك الطالبان في الحكومة الأفغانية الحالية.

لكن المثال الأفغاني يعطي فكرة عن سلبية هذا الخيار. لأن الحكومة الأفغانية التي فرضها الأمريكيون لا تتعدى سلطتها الفعلية كابول. و حتى هذه السلطة المحدودة ليست ممكنة إلا تحت وقاية آلاف الجنود الغربيين، الذي لم يمنع وجودهم، من جهة أخرى، مقتل وزير بين الفينة و الأخرى. بينما يسيطر على بقية بقاع البلد أمراء حرب يدافعون بغيرة عن مناطق سيطرتهم ضد منافسيهم و ضد حكومة كابول.

أما في العراق فلا يجب أن ينتظر الأمريكيون أن يواجهوا أمراء حرب من الطراز الأفغاني، بل زعماء أكراد و شيعة لهم قاعدة اجتماعية أوسع بكثير وإمكانيات مادية أكبر. زد على ذلك أنهم يستندون على تطلعات من شأنها إعادة النظر في رسم حدود المنطقة المصطنعة إذا سنحت لها الفرصة.

هذا دون ذكر التنافس الذي قد يبرز داخل جهاز الدولة العراقية و بالأخص بين مختلف أجهزة القمع المتنافسة إذا ارتخت قبضة النظام الفولاذية. و هنا أيضا لسنا أمام قادة حرب مستندين على بضعة آلاف جنود عديمي الانضباط و ضعيفي التسليح، بل أمام ترسانة عصرية مجهزة و منظمة لعشرات الآلاف من الرجال المتمرنين.

إذا هناك خيار آخر محتمل ألا و هو إدارة أمريكية مباشرة للبلاد، بانتظار تشكيل أجهزة قادرة على تسيير البلاد مع كوادر سياسية منتقاة بدقة. إلا أن هذا الخيار يأدي إلى احتلال مباشر لجزء كبير من العراق و تخصيص إمكانيات مادية و بشرية هائلة لهذا الهدف و لمدة طويلة نسبيا. ربما لن يواجه الاجتياح المفترض مقاومة شعبية، لكن لا يمكننا أن نتصور أن احتلالا طويل الأمد دون بروز حركات مقاومة. و بالتالي يرجع للواجهة مشكل رد فعل الرأي العام الأمريكي.

نعم لتسقط الحرب، و بالأخص لتسقط الإمبريالية

ما سيفعله القادة الأمريكيون سيرتبط في آخر المطاف بالقدر الذي يعتزمون أخذه أمام المخاطر التي قد تنجم عن الإطاحة بصدام حسين.

مهما سيكون خيارهم سواء كان شن الحرب أو الضغط الدبلوماسي المدعوم بالتهديد، فإن هدفهم بالتأكيد سيبقى كما كان دائما منذ 1945 ألا و هو الحفاظ على الهيمنة الإمبريالية بشكل عام و الأمريكية بشكل خاص.

ليس من باب الصدفة أن الشرق الأوسط يعد أشد مناطق العالم توترا. و ليس هذا بفعل شعوب المنطقة بل بسبب الإمبريالية. فلهذه المنطقة أهمية حيوية في نفس الوقت لموقعها الجيوستراتيجي ولغنى أرضها بالنفط، الذي بدل أن يعود بالنفع على شعوب المنطقة قد أصبح مصيبة لهم. لأنه بجانب الغنى الفاحش لبعض الأمراء و البرجوازية الكبيرة المرتبطة بالإمبريالية، تعيش الجماهير الشغيلة في فقر مدقع، و هي التي تعاني من الدكتاتوريات و الانقلابات و الحروب التي تسببها في آخر المطاف مناورات الإمبريالية.

نعم ! الشرق الأوسط مرآة للهيمنة الإمبريالية على العالم. و يمكن القول بعد ما جردنا من تاريخ المنطقة خلال العقود السابقة بأن شعوب الشرق الأوسط لم ينجوا من دفع ثمن غالي للهيمنة الإمبريالية في حالة الحرب أو السلم. في سنة 1988، على سبيل المثال، الجيش العراقي هو المسئول عن مقتل 100 ألف من السكان الأكراد و لكنه فعل ذلك بفضل الأسلحة التي مدته بها الإمبريالية في هدف تنفيذ المهمة القذرة مكان الإمبريالية بإضعاف إيران.

لنضف أن الحرب القادمة و قبل أن تصل إلى العراق قد خلفت "ضحايا جانبية" ألا و هم الفلسطينيون الذين يقتلهم شارون باسم "الحرب ضد الإرهاب" بالإضافة للقتلى الشيشان الذي يريد بوتين أن يغطيهم بنفس الذريعة.

و الشعب العراقي يدفع الثمن غاليا منذ إثنى عشر عاما نتيجة حالة الحرب التي خلقها القادة الإمبرياليون بالعراق و التي تزدوج فيها العقوبات الاقتصادية بالقصف الجوي الدوري.

أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن الطريقة المتبعة لضم الرأي العام وراء خيار الحرب بفضل حملة عدائية هستيرية ضد صدام حسين، لفيها مخاطر لا تخدم مصلحة الشعب الأمريكي.

في فرنسا من جهة أخرى ليس في مصلحة الشعب أن ينال شيراك مقام الزعيم المسالم. ليس فقط لأن فرنسا قد تلتحق بخيار الحرب في حالة اندلاعها، بل أيضا لأن الإمبريالية الفرنسية عضو في عصابة اللصوص الإمبرياليين التي تنهب خيرات الشرق الأوسط. من دون شك أن قوة فرنسا ليست في مستوى طموحاتها! و في شجارات القسمة لا تحصل دائما على النصيب الذي ترغبه. لكن عراك اللصوص لتقسيم الغنيمة بينهم لا يمنح أي طمأنة للمنهوبين.

إذا محاربة جو الحرب المصان ضد العراق، يعني كذلك إدانة إمبرياليتنا. هذا ليس فقط بسبب موالاته لزعيم اللصوص الأمريكي، بل كذلك بسبب دوره الخاص السابق و الحالي في النهب.

أكان في الولايات المتحدة الأمريكية أو في فرنس، فإن في مصلحة الشعبين أن يبينوا بشكل واضح أن حرب النهب ضد العراق ، إذا اندلعت، فإنها لن تكون برضاهم.

وراء خطر الحرب الحالي ضد العراق و وراء خطر السياسة الحالية للقادة الأمريكيون، فإن النظام الإمبريالي نفسه هو الذي يشكل خطرا دائما على الشعوب. لأن النظام الإمبريالي يولد الحروب بفعل التنافس الشديد داخله، كما يولد الاضطهاد و الفقر. و فيما يخص الشرق الأوسط فسيبقى مصير سكانها رهين مصالح المحتكرات البترولية ما دامت الهيمنة الإمبريالية.

نعم ! لتسقط الحرب ضد العراق، و لتسقط الإمبريالية مرادفة الحروب و معاناة الشعوب!

1 التروست هو اتحاد عدد ممن الشركات وهو وقف آنجلوساكسوني.

2 تعبير يطلق على الجماعة السياسيية التي تتولى حكما ناشئا عن انقلاب عسكري.

1